- ٢ - خلال هذا الاستقرار في البادية بين فلسطين وجزيرة العرب ، أحست بطون إسرائيل انها في حاجة إلي ارض جديدة ، فأخذت تتسرب نحو الشمال ، واخذت بطونها تتنزل نواحي فلسطين على جانبي الأردن ، أي في النواحي التي كانت تسكنها قبائل كنعانية ، فكان لا بد والحالة هذه ان يثور كفاح بينها وبين هذه القبائل ، وقد طال هذا الصراع ، واشتبكت بطون إسرائيل خلاله في نزاع مع أهل مدين ، وكانت إسرائيل في عنفوان قوتها ووحدتها فتمكنت من النصر على اعدائها وبسط سلطانها على جزء كبير من فلسطين الغربية ، وقد سجل كتاب إسرائيل هذا النصر في قصيدة تعد اقدم آثار الأدب اليهودي هي التي تسمى عادة بالزبور ( دبورا ) ، وليس في كل ما لدينا من الآثار الأدبية القديمة ما يعدل هذه القصيدة شناعة
وقسوة ، فهي ملأي بالحقد والبغض والشمانة ، والدعوة إلي الحرب واعتبارها عملا مقدسا ، وهي تفسر لنا هذا الحقد الكبير الذي ملأ قلوب شعوب العالم القديمم على إسرائيل هذه ، لأنها حينما انتصرت وحينما وقع اعداؤها في ايديها لم تعفهم من أسوأ أنواع المظالم ، ثم إن الاستكبار ملكها فقدت تنظر إلي جيرانها نظر القوي المعتد بقوته . وقراءة الزبور تدل على ان شيكسبير لم يبعد عن الحقيقة حين صور شيلك بهذه البشاعة والقسوة ، حينما اتيحت له فرصة الظفر بعدوه ، فإن إسرائيل كلها قد فعلت اشد من ذلك مع كنعان حين انتصرت عليها ، وفي حوادث التاريخ السائر اليوم ما يدل على تأصل هذا الخلق في روح إسرائيل ، فهاهم بعد عشرات القرون يريدون ان يفعلوا ذلك مع عرب فلسطين ، فاليهود ضعاف مسالمون ما داموا ضعفاء ، فإذا بلغوا من القوة شيئا فويل لعدوهم منهم ، ولا بد أن الإبجليز يشعرون هذا الشعور اليوم .
وكانت إسرائيل إذ ذاك قد بلغت مبلغا عظيما من
القوة والمنعة ، وانضم إليها من بني من قبائل العبريين وأصبحوا جميعا شعبا واحدا يعرف بإسرائيل - مع أن إسرائيل لم تكن إلا إحدي قبائله ، وكان الظهور في إسرائيل نفسها لبيت بنيامين الذي يلتجي إليه شاءول ، وكانت لهذا الأخير صلات متينة بقبيلة يهوذا فبدا نجمها يعلو إلى جانب بنيامين ، وقد ظهرت لشاءول اثناء حكمه ملامح من القسوة جعلت جيرانه يهابونه وبنفرون منه ، فقد كان يقتل اعداءه بيده ويشرب من دمائهم بملء يديه ، وانتهي امره ، بأن مات قتيلا في ميدان القتال مع بناته الثلاث . وخلفه كما رأينا داود ، وكان رئيس حرسه ، وكان رجلا ممتازا استطاع يحسن قيادته ان يقضيء على الفلسطينيين ، وكان في أول امره من رجال الجندية ، فلم يلبث أن نافسه رجال الدين يزعمهم صمويل ، وكان حبرا جليلا حسن السمت ، ولكنه كان يسعى إلي السلطان ويحقد على داود حقدأ شديدا ، فقضى داود لهذا حياة مجهدة ملأى بالصاعب في الداخل والخارج ، ومات في شيخوخة عالية تكتنفه الهموم .
واشتدت المنافسة من بعده بين ابنائه ، ونازعهم رجال الدين ، وكاد امر الوحدة يتفرق بددا لولا أن سارع سليمان بالقبض على السلطان يمعاونة رجال القصر ، فاستطاع ان يعيد النظام والأمن ومهما يكن من عبقرية سليمان كنبي إلا ان التاريخ لا يستطيع إلا ان يسجل عليه اخطاء عدة في سياسة بلاده ؛ كان مشغوفا بحب المال ، مسرفا في الاستمتاع بخيرات هذه الدنيا ، ولكي يحصل على أكبر مقدار ممكن من المال لم يتردد في تقسيم إسرائيل إلى اثني عشر قسما إداريا اقام في كل قسم منها عاملا له ، فكان في هذا الإجراء متفرا للقبائل ، واهم بالبناء اهتماما عظيما ، فأنفق في بناء معبده المعروف مالا طائلا اضعف خزانة الدولة ، وبني قصورا شتى واقتني حريما عامرا بعشرات النساء الجميلات .
إلي هنا يصل تاريخ الملكة الإسرائيلية في فلسطين إلى أوجه . ومن اليسير ان نلاحظ ان هذه الدولة لم تبلغ في هذا الأوج من الاتساع ما يسمح لأهلها بأن يزعموا
بأن فلسطين وطن لهم ، فإن دولتهم لم تعد أبدا شريطا ضيقا من الأرض على جانبي الأردن . أما سواحل فلسطين فلم تكن ابدا بلدا من بلاد إسرائيل وإن كان نفوذهم قد امتد إليها ، وأما جنوب فلسطين فقد كان دائما جزءا لا يتجزأ من مصر ، وأما ما يلي الأردن شرقا فلم يكن فيه أثر لسيادة إسرائيل ، ثم إن عمر هذه الدولة لم يزد على قرن ونصف من الزمان ، فأين قرن ونصف من ثلاثة عشر قرنا وفيض للعرب في فلسطين ؟ ثم اين حكومة إسرائيل في فلسطين بما فيها من العسف بالفلسطينيين وبكنعان وبمدين وبما فيها من التعالي والتجبر على جيرانها ، من حكومة العرب الذين سيدخلون البلاد دخول المواطن وطنه ؟ لا ، عسف ولا اضطهاد ولا إفناء لأعدائهم كما كانت إسرائيل تفعل ، إن منطق التاريخ وإن مجرد تأمله ليقرر بأجلي بيان أن الأرض للعرب دون سواهم : هم بناة تاريخها ورعاة أهلها وحفاظ حضارتها كما سنري .
وليس ادل على ما كانت عليه إسرائيل من سوء السياسة في فلسطين من ان عقلاء اليهود واتقياءهم اسكروا على شعبهم ضلاله وسوء سياسته ، وقد اشرنا إلى موقف صمويل رئيس الاحبار من داود وسياسته ، وقد خلف صمويل أحبار آخرون اخذوا لا يكفون عن العويل على مصير بلادهم ، إذا استمر شعبهم وقواده في هذا السبيل .
جعل هؤلاء الأحبار يتنبئون بخراب إسرائيل ، وجعلوا يكتبون نبوءاتهم في كتب تناقلها اليهود فيما اتي من الآزمان ، وكان كثير منهم على درجة كبيرة من الصلاح والتقوي والخلوص لله ، فارتفعوا إلى مرائب الأنبياء ، ومن خلال نبوءات هؤلاء الأنبياء التي نجد الكثير منها في العهد القديم نستطيع ان نضع ايدينا على النقط الضعيفة في خلق إسرائيل ، هذه النقط التي ميزتهم عن غيرهم من معاصريهم ، ولسنا نستخرج مواضع النقد هذه من أعداء لإسرائيل وإنما من كتابات أنبيائهم أنفسهم ، أو هي كتابات لا زالوا يتناقلونها ويحفظونها في بيعهم إلى اليوم بأخذ
أنبياؤهم عليهم حرصهم البالغ على المال والمتاع العاجل وشغفهم بالذهب شغفا يصل إلى العبادة ، وياخذون عليهم أنهم لا ينفقون المال الذي يجمعونه إلا على أنفسهم وحدهم . وأنهم يبالغون في إمتاع انفسهم مبالغة تخرج بهم في كثير من الأحيان عما ينبغى لهم من الخلق وما ينبغي لهم من الدين ، ولا تكاد تخلو كتابات واحد من هؤلاء الأنبياء الكثيرين من اتهام لليهود بالكفر بدينهم في سبيل المال والمتاع ، ويكفي ان يقرأ الإنسان الفصول الكثيرة المنسوبة إلي أموس في العهد القديم ففيها تفصيل ما اجملناه ، وكان أموس من غير شك نبيا فاضلا صادقا ، وكلامه حجة عند اليهود قبل ان يكون حجة لنا ، وفي كلامه ما يقنع القارئ بسوء ما أتته إسرائيل في حق فلسطين وأهل فلسطين في زمان عزهم القصير وزمان بؤسهم الطويل .
ولعل اغرب ما يعيرهم به انبياؤهم هو انصرافهم عن الدفاع عن بلادهم وتخاذلهم في هذا السبيل ، نقول " أغرب " لأن أنبياء إسرائيل لم يكونوا ليأخذوا على مواطنيهم هذا النقص الذي لا يتصل بالدين في كثير إلا ويكون بنو إسرائيل قد تهاونوا في ذلك الواجب تهاونا آثار حتي أبعد الناس عن الحرب وهم الأحبار ورجال الدين . وربما كان أشد ما خذ أنبياء إسرائيل على شعبهم هو هبوطهم بدينهم السماوي الجليل إلي لون من الوثنية رخيص فهم لا يصلون في بيعهم ومعابدهم ، وإنما يكتفون بإهداء آنية من الذهب والفضة إلي هذه البيع وأهلها ، وهم ينسون شرائع موسي وقوانينه فلا يكاد يحفل لهامتهم احد . ولم يكف الأنبياء لحظة عن التنبؤ لإسرائيل بالفناء العاجل إذا هم لم يعودوا إلي دينهم ويتصرفوا عن غيهم . وقد بالغ الأنبياء في تهويل سوء مصير إسرائيل ، فلا تكاد تقرأ أسطرأ لأحدهم حتى يخيل إليك أن هذا الشعب هو أسوأ شعوب الله أجمعين .
_٣_ وقد صدقت نبوءات النبيين : صدر بدو إسرائيل في غيهم ، واشتد ضغط اعدائهم عليهم ، ولم يحفلوا كثير لتلافي
الاخطار المحيطة بهم ، اكتسح الأشوريون قبائل جاد ومنسا وروين من قبائل إسرائيل فلم يتحرك الاخرون لإنقاذها ، حتى اتي ستحاريب فقضي علي ما كان باقيا لإسرائيل من قوة ، واستولي على بيت المقدس ، وخرب معبد سليمان ، ونقل ما بني من اليهود إلي بلاد اشور : جرهم من بلادهم حفاة فمات منهم في الطريق ألاف ، ووصل من بقي منهم إلى نواحي نينوي حيث أقاموا في ذل كان أشد عليهم مما قاسوه مع فراعنة مصر ، كان هذا قبل ميلاد المسيح بثمانية قرون . كانت روما قرية صغيرة في سبيل التكوين وكانت بلاد اليونان تحبو نحو الحضارة والنظام
وعاد من بقي منهم إلى بلاده بعد انهدام دولة بابل ، عادوا وكانوا قلة لا تذكر كان عدد اليهود في أواخر أيام سليمان بضعة ملايين ، فلم يبق منهم بعد هذا النفي الطويل غير بضعة آلاف . أتجهوا إلي بيت المقدس ، وأخذوا يقيمون معبد سليمان من جديد ، وكانوا في هذه المرة قوما مسالمين كسرت الأيام شرتهم . ثم إن حضارة اليونان كانت قد أخذت تطغي عليهم ، فشغل بها كثيرون منهم عن دينهم وفي سنة ٣٣٢ قبل الميلاد مر بهم الإسكندر وزار معبدهم وصلى فيه وقرب له ، ثم أقبلت عليهم بعد زيارة الإسكندر ألوان شتي من الفلسفة اليونانية بعضها قريب جدا من تفكيرهم الديني ، فقبسوا من هذه الفلسفة شيئا كثيرا خلطوه بآرائهم وعقيدتهم ، وهذا الخليط أنشأ لونا من الحضارات التي شاعت في الدنيا قبل ميلاد المسيح بقرنين من الزمان ، والتي تعرف بالحضارات الهيلينية . وكان هذا اللون خليطا من توحيد اليهود وفلسفة اليونان ، فذاع في نواحي الشرق الأدني . وفي حماية اليونان استطاع اليهود أن ينشئوا ملكا صغيرا كان في طبعه وروحه أبعد ما يكون عن روح العقيدة الموسوية ، وكانت الروح اليونانية غالية عليه إلى حد لا نستطيع معه أن يحسب هذه الدويلة اليهودية التى عاصرت البطالمة دويلة إسرائيلية وإنما هيلينية ( يتبع )
