- طاب صباحك آنيسة فريدة . . كيف أنت وعلم الأحياء ؟ .
- بخير باعزي وأنت كيف حالك مع القانون الروماني في أزمة الرومان ! .
امتزجت ضحكاتهما وضاعت كدائرة واسعة في الممر المفضي إلى السلم الكبير في ) البانسيون ( الذي تديره ارمنية شمطاء كرة الأنامل شحيحة ، وافترقا إلى اللقاء في المساء !
كانت فريدة فتاة سمراء رقيقة الحاشية ، حلوة النكات ، مرحة طروبا ككل فتيات الجنوب ! . . وكان صوتها رخيما عذبا يتماوج في جمال أخاذ في أوائل أو أخريات الليل عندما كانت تتعب من المذاكرة والدرس !
كانت تدرس الطب بشغف كبير ، وتعيش من إيراد طيب يردها من أمها في ابتداء كل شهر ، . وكان إحسان على العكس رجلا دائم التقطيب ، كثير الجد والرزانة ، على وجهه سيا قلق دام ، وكان متعمكفا على دراسة القانون ينظر إلى الامور بوجه مكفهر . . ومع ذلك فقد كانت الصحبة الطويلة ألفت بين قلبيهما ، وامتزجت خفة روح الآنسة فريدة بصرامة روحه وأناقته وبروده الشهود .
عادت فريدة في المساء وكانت مرحة ضاحكة ككل مرة ، وقبل ان تدخل غرفتها المنسقة بذوق فتاة مهذبة مثرية عرجت تسأل عن صديقها وتبلغه تحية المساء !
وكان إحسان مطرق الراس بفكر ااسيا كل شئ وكانت الظلمات تغشي الغرفة والنور الضئيل يحتجب عن النافذة الوحيدة المطلة على الشارع الفرعى ، قالت بصوت فيه وعدة الفرح : وماذا بعد يا صديقي ؟ .
- لا شئ ياعزيزتي . . إنها خواطر الحياة . - ليس هذا . إني اقرا في عينيك كآنة عميقة ، قل لي ياصديقي أية عاصفة خيالية تجتاح قلبك المليء بالأحلام ؟ !
- لم تعد لي احلام يا نسة فريدة . . إلى اسبح الآن في ضباب خانق . . إن حياتي تبدأ طريقها المجهول ولا أدري كيف سأري النور . . وكيف أصل النهاية
ابهذه القسوة ؟ تعال معي ياصديقي . . تعال إلي غرفتي لادلك على أشياء ، جميلة . . إن غرفتي مليئة بالأضواء ، وهناك روائح عميقة تملأ سماءها . إنها غرفة شعرية لفتاة تقضي وقتها بالتشريح ورائحة الأدوية . وهم معي . إلى اقودك إلى واحة مريحة .
- إن الروح المظلمة يا آنسة فريدة لا تضيئها الأنوار . . دعيني أخلد إلي السكون فيه العزاء الوحيد . إني أرجو لك راحة البال ؟ .
مسحت رأسه الأشعث بأناملها الرقيقة . حتى لامست جبهته المفضنة وقالت : قل لي كل اشئ بصراحة وإلا هددتك بفقدان صداقتي . . وليس اعز لديك من هذه الصداقة إذا لم أك مخدوعة ! .
- صدقت . إن صداقتك لشيء ثمين ولكن كآبتي شخصية . . إن لي آلامي الخاصة .
- لا تكن أنانيا . . أريد أن أعرف سبب هذا التحول السريع
- السبب ! ..أتريدين السبب يا انسة ؟ - أجل . لابد أن أعرف . . إن قلبك ليس مغلق النوافذ كما تظن .
- إن منشأ ألمي . . آه . . هذه مسألة خاصة . - ولكنها تهمني . . أعرف ذلك جيدا يا فيلسوف القانون الروماني . . سأمزق كل هذه الكتب التي تملأ ذهنك بالكلمات والحذلقات إذا لم تبح وتطلعني على السبب . .
- حسن إذا . . (إن أبي قد تزوج . .) - ومن أجل ذلك تدخل في مناحة روحية كالنساء ! - إن المسألة يا فريدة ليست سهلة كما تظنين . . عندما ماتت أمي قبل خمس سنوات تركت وراءها أربعة أطفال ودعاء . . ولكن هذا العنصر الجديد سيملأ تلك الحياة الوديعة بالحقد والأحزان
إني أفكر في هؤلاء الصغار اكثر مما أفكر بأمي أو بنفسي أو بأي شيء آخر . .
- عقلية ساذجة . . ما هذا الهراء ، إن المرأة مهما كانت صلفة فلا تخلو من عاطفة الرحمة ، ثم إنه لم يبق أمامك لإنفاذهم غير سنة وبعض سنة . . هيا معي . . إن لدى اسطوانة جديدة " لكارمن ميراندا " وستضحك كثيرا لأن صوتها أشبه بالمواء
وتمشيا معا صامتين ، ودخلا الغرفة المضاءة حيث كان كل شئ يرحب ترحيبا شعريا بالقادمين
- أمكتئب أنت من جديد . . - كما ترين .! - آه إنك تجتاز سلسلة من الأحزان في هذه الأيام هل نسيت أن واجبك الأول النجاح لإنقاذ الصغار الأعزاء ؟
- لم أنس ولكني لا أستطيع . . لا أستطيع مواصلة الدراسة بعد الآن . .
- يا لك من ساذج . . ما هذا ؟ إنه كلام خال من كل روية وحكمة . .
- هذا حكم القدر . . إنه إرادته - حكم القدر ؟ . - أجل ، أجل ، لقد قطع أبي عني المورد الضئيل ولم يبق أمامي غير النزول إلى الحياة والعمل للكسب . . ومن أجل هؤلاء أيضا سأهدم كل أحلامي العذاب . . وأشتغل . .
- صه . . ما هذا الكلام الفارغ . . وإذا كان المورد قد انقطع عنك . . فهل مت أنا أيضا ؟ ! .
- فريدة ما هذا . . إني أرفض أية يد تمد إلى بمساعدة . . إني رجل أعول على نفسي !
- ولكن أنا . . أنا أملك مالا طائلا وثروة تفيض عن حاجاتي اليومية . . إني أنفق أكثر راتبي الذي يرد من أمي على توافه الأمور فلماذا لا تناصفني هذا المورد ؟
- أنا أناصفك ؟ أترين هذا معقولا إلى كلا كلا - لابد من القبول . . فكر بدون أنانية فيما أقول - آه . . هذا قول جزاف ، باسم ماذا أقبل المساعدة منك باسم ماذا ؟ ! . . ) إنه لشئ مؤلم يلقي على روحي كابوسا لا يطاق . .
واقتربت الآنسة فريدة منه وطوقت عنقه بحرارة وقبلته من ثغره المرتعد قبلة عميقة حارة وقالت : باسم الحياة الحياة الزوجية المشتركة . . أقبل من خطيبتك بعض القوت والمساعدة ريثما تعيد إليها أياما حافلة بالمسرات !
ووقف إحسان ذاهل الفكر ونظر في قرارة عينيها ثم طوقها بذراعيه ، وقال بصوت كالهمس ضاع مع قبلة طويلة : " أنت امرأة وملاك . . وخيم سكون طويل ورسم الصمت قصة المستقبل لفتى وفتاة ! . .
(بغداد )

