الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 596الرجوع إلى "الرسالة"

انجلترة، في نظر سائح عربي

Share

تختلف أساليب الرحالين والسياح في كتبهم تبعاً لاختلاف  أمزجتهم وطبائع نفوسهم. فمنهم المتزمت الوقور كابن جبير، ومنهم  الناقد اللاذع كعبد اللطيف البغدادي - وخاصة حينما نزل مصر  ورأى فيها ما لم يعجبه. ومنهم المحدث المتفضل بالحديث عن نفسه  والدوران حول شخصه كابن بطوطة. ومنهم الذي يدرس  الطبائع والظواهر كالمسعودى. ومنهم الدقيق الملاحظة المستفيد  مما تقع عليه عينه ليقدمه إلى بلاده بعد عودته كالشيخ رفاعة  الطهطاوي. ومنهم الذكي المتوقد الذي يتتبع كل أمر، ويتقصى  كل شيء، وينظر إليه من وجهيه، ولا تفوته النكتة اللاذعة  والفكاهة المرة - أو الحلوة - والنادرة المكشوفة، والعبارة  المفضوحة كأحمد فارس الشدياق صاحب مجلة الجوائب. والشدياق  من رحالة العرب في القرن التاسع عشر. وهو قرن اشتهر فيه  منهم رفاعة الطهطاوي وأمين باشا فكري وأحمد زكي باشا.  ولكنهم على فضلهم لا يرتفعون إلى منزلة الرحالة الأولين من  العرب.

ومن كتاب الرحلات في القرن العشرين لبيب البتانوني بك  في رحلاته إلى الحجاز وأسبانيا وأمريكا الجنوبية. وأمين  الريحاني في رحلته إلى بلاد العرب. وأحمد حسنين باشا في رحلته  إلى صحراء ليبية. والدكتور عبد الوهاب عزام في رحلاته إلى  البلاد الشرقية ومحمد ثابت في رحلاته المتعددة حول العالم، وأحمد  عطية الله في رحلاته إلى أوربا وفؤاد صروف في مشاهده في  العالم الجديد

ولكل واحد من هؤلاء سبيله في الوصف، إلا أنهم  يشتركون جميعاً في طابع الجد الذي يميز كتبهم ولكن الشدياق غير هؤلاء جميعاً. فالمزح طبع أصيل فيه

يشهد بذلك كتابه   (الساق على الساق) . وهو كتاب لم يخل  من مجون أخذه عليه أهل الفضل والنظر.

وللشدياق رحلتان: أولاهما   (الواسطة في معرفة أحوال  مالطة - وضعهما سنة ١٨٣٤) . وثانيهما   (كشف المخبأ عن  فنون أوربا - طبع سنة ١٨٥٤)

وقد أعلن المؤلف في مقدمة رحلتيه إنه يكتب عن حق  ويروي عن صدق، فلم يمل به هوى أو غرض إلى انحراف أو  ميل. أو تفضيل قوم على قوم. وإنما يكتب بحسب ما ظهر له  إنه الصواب

ولكن المتصفح لكتابه يرى فيه تحاملاً وتجنياً. فهو  متحامل على لندن. ولعل ضبابها ودخانها أثرا في مزاجه، وهو  رجل مرهف الحس، مرح كثير النقلة والحركة. فلم يعجبه محبسه  في بيت إنجليزي هادئ أمام موقد يرمي باللهب. وآثر الانطلاق  إلى بعض عواصم أوربا الموسومة بحياة خارج الدور لا تسجن  بجدران! ولا تثقل بوجوه دائمة من السكان.

وفي رحلة الشدياق إلى إنجلترا من الحقائق والإحصاءات  الدقائق والدرس الواسع ما لا يستهان به. وكان يسعفه في ذلك  الرجوع إلى الوثائق الرسمية. ومن هنا كان لكتابه قيمةٌ تاريخية ولمشاهداته قيمة من ناحية الاستقصاء، وفيها كثير من  الموازنة والظرف والفكاهة، والسخرية اللاذعة التي لازمت  الشيخ الأشيب حتى على بياض لمته. . .

فالقرية الإنجليزية الصامتة المتزمتة التي وصفها الشدياق هي هي  التي نراها اليوم   (ليس فيها مواضع للهو والحظ، وإذا أرادوا  اللهو عمدوا إلى أجراس الكنيسة يضربونها فتقوم عندهم مقام  آلات الطرب)  وذلك حق من الشدياق؛ فالريف الإنجليزي على  جماله يخيم على قراه هدوء حزين لا يسر الطبائع المرحة التي تجد  في الحركة والصخب أنسا وراحة.

والشدياق يصف من الريف أرضه وسماءه وكل شيء  فيهما. . . حتى البقلة الناجمة والزهرة الحالمة. . . ويوازن بين  بقل وبقل، وزهر وزهر. ويدرك الفرق بين أزهار مالطة  وشبيهاتها في فرنسة وإنجلترا، ويصف حيوانه وصفًا دقيقاً.  ولا تفوته النكتة فيقول   (ومما من الله به على هذه البلاد

- يعني إنجلترا - أن ليس فيها حيات ولا عقارب ولا سوام  أبرص، ولا ابن آوى يعوي في الليل، ولا نمس يأكل الدجاج  ولا بعوض يمنع من النوم، ولا براغيث في الربيع إلا نادرا) والشدياق حين يلاحظ الأمور الجارية في رحلاته يردها إلى  علل معقولة طبيعية أو اجتماعية. فالإنجليزي يتخطى السبعين  ولا يخط الشيب رأسه ولا عارضه. على عكس ما هو حادث في  الشرق. ويرد ذلك إلى أن الشيب سببه الهم والخوف وتوقع  المساءة من أولي الأمر وذلك معدوم في إنجلترا لفشو العدل بينهم  واطمئنان الناس إلى حقوقهم

ويلاحظ رحالتنا العربي فرقاً بين ملامح الرجل المدني وأخيه  القروي في إنجلترا، فالأول ضاحك السمات، مشرق البسمات،  والثاني كثير العبوس قليل البشاشة لا يستخفه طرب ولا  يستثيره لهو إلا في القليل. ويرد رحالتنا ذلك إلى حياة اللهو في  المدن فينشأ الطفل على الطرب والخفة والبشاشة. أما القرية فقلَّ  أن تجد فيها ملهى قائماً أو ملعباً دائماً. . ومن هنا نشأ أطفالهم  على الجد والعبوس والتوقر

وعيب الشدياق في رحلته كثرة الاستطراد. وذلك عائد إلى  ازدحام المعاني والأفكار والمعرفة عليه. فهو يروي ويصف  ما شاهد ويؤيد ذلك بواقعة حال أو عبارة من مقال. أو يذكر  بيتاً من الشعر أو لطيفة من الأدب أو حكاية عن العرب. ثم  يعود بعد لف طويل إلى موضوعه الأول

وهو خبير في رحلاته بكل شيء. تراه عارفاً بالطعام، ذواقة  لألوانه، خبيراً بأطايبه ناقداً لمعايبه. . . ولهذا لم يعجبه الطعام  الإنجليزي على بساطته

وتراه خبيراً بالنساء طبيباً لأدوائهن. . . دارساً لخبايا نفوسهن.  يعرفهن بالرمز والشارة، كما يعرفهن بالقول والعبارة. ويقدِّر  جمال المرأة أحسن تقدير. . . ويؤثر العين والفم في وجه المرأة  لأنهما يتحركان فيحركان الوجد ويثيران الشوق. ولا يذهب  مع من قال   (أحب منها الأنف والعينان)  بل يذهب مع الراجز  الآخر حيث يقول: يا ليت عيناها لنا وفاها. . .!

وتذهب به ملاحظته بعيداً فيتتبع الكتاب والشعراء  الإنجليز في وصف محاسن المرأة. ويلحظ الفرق بيننا وبينهم في  التشبيه والاستحسان. فهم لا يشبهون العيون بالسيوف كما يفعل

شعراؤنا، ولا يشبهون المرأة بالشمس والقمر كما نفعل نحن.  ولا يشبهون جيدها بجيد الغزال، وإنما يشبهون الجيد بالمرمر  أو يقتصرون على وصفه بالبياض. ويشبهون المرأة بالنجم.  ولا يستحسنون الفلج في الأسنان كما نستحسنه نحن ويستطرد  إلى غسل النساء وجوههن بالصابون فينقله ذلك إلى أول من عمل  الصابون، وإلى أول عهد استعماله في لندن سنة ١٥٢٤، وإلى  مقدار ما يستهلكه الإنجليزي منه في العام تبعاً لما وصل إلى علمه  من إحصاءات

ويصف تقدير المرأة الإنجليزية للهدية وتعظيمها لها مهما قل  شأنها وتفه أمرها. فلا تراها إلا مثنية على المهدي معترفة بحسن  صنيعه. مبالغة في وصف الهدية وتقديرها حتى يتوهم المهدي إنه  صار رابعاً لحاتم الطائي وهرم بن سنان وكعب بن مامة من  أجواد العراب. . .

ولا يفوته وصف الفلاحة الإنجليزية وهي تعمل في الحقل؛  حتى ليشفق عليها من البرد يعض جسمها، ومن شمس الصيف  تلوح وجهها. . ويأسف لهذا الجمال الذي ترخصه مزاولة الأعمال.  وينحى باللائمة على الرجال الذين يحوجون المرأة إلى هذا الابتذال ولو عاش الشدياق في عصرنا هذا ورأى المرأة الإنجليزية في  المصانع وفي لباس الجنود، وفي طبقات الجو وحبك السماء،  ولو رآها تلعب دورها في هذه الحرب الضاربة فماذا كان يقول؟ ولكن النكتة لا تفوته في هذا المقام فيضع شعرا في  الفلاحة الإنجليزية يقول فيه:

فلو برزت سواعدهن يوماً ... لشاعرنا لأنشد من ذهول بربات الحقول يحق لي أن ... أشبب لا بربات الحجول. . . كما لا تفوته النكتة البديعية فيعمل جناساً بين الحقول والحجول ويثني الشدياق على المرأة الإنجليزية كزوجة صالحة وربة بيت  تدير شئونه وتصرف أموره على أحسن تدبير وأكمل تصريف.  ويقرر   (أن من تزوج بإحداهن فقد هنأه العيش وقرت عينه بما  يراه من نظافة منزله مع الاقتصاد في النفقة وراحة البال من  الأسباب الباعثة على القيرة)

ولقد قر هو نفسه عيناً بزوجة إنجليزية صالحة إلا إنه لم ينجب  منها. ولكنه أنجب من غيرها ثلاثة ذكور أكبرهم سليم الشدياق  الذي ظفر بثقة السلطان عبد الحميد واحتل في الأستانة مكانا رفيعاً.

اشترك في نشرتنا البريدية