الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 201الرجوع إلى "الثقافة"

انكار الجميل

Share

روي الكاتب الروسي العظيم إيفان ترجنيف في إحدي قصائده المنثورة ، أنه في ذات يوم خطر ببال الكائن الأعلى ان يولم وليمة فاخرة في قصره السماوي ، ودعيت الفضائل كلها ، ولم يحضر رجال لان الدعوة كانت مقصورة على السيدات .

حضرت الكثيرات : منهن الصغيرة الشأن ، ومنهن العظيمة المكانة . وكانت الفضائل الصغري أوفر سرورا ، وأكثر مرجا من كبريات الفضائل ، وإن كانت مظاهر الانشراح بادية على الجميع . وكن يتحدثن في رقة وبشاشة مما هو حري بصديقات اقارب امثالهن . ولاحظ الكائن الأعلى أن بين سيدتين فاتنتين حجابا من الوحشة ، لأنهما لم يتعارفا . فتقدم رب الدار من إحدي السيدتين وأعطاها ذراعه ، وسار بها إلي السيدة الأخرى ، ثم قال مشيرا إلي الأولى : " الإحسان " ، وقال مشيرا إلي الثانية : " عرفان الجميل " . قعرت الفضيلتين الدهشة وبهتتا ، وعجبت كل منهما من أمر صاحبتها . وكانت تلك المرة هي الأولى للقائهما منذ خلق الدنيا .

وهذه الأسطورة تردد شكوي معروفة ، وتعيد في أسلوب خيالي نغمة مألوفة عن كثرة جحود الفضل وقلة عرفان الجميل . وطالما رمي النوع الإنساني بالجحود والكفران ، وقرف بالخسة والدناءة ، وقشب بالعقوق والقدر . والذين يرسلون هذه الشكوى المرة ، ويفتنون في وصف الإنسان بأقبح الأوصاف ، لم يحددوا لنا مكانتهم من الإنسانية ، فلنا أن نعتبرهم من ابناء هذا النوع الإنساني البغيض الذي لم ينقرض بعد !

وهم إذا جزء من هذه الإنسانية العارية من المحاسن ، المجردة من الفضائل ، فإذا احصوا لنا مساوئ الانسانية ،

ونعوا عليها عيوبها ، فكأنهم يتحدثون إلينا ضمنا عن عيوبهم ونقائصهم ، وإن كان إدراك هذا والإقرار به يستلزم قدرة فائقة على مواجهة النفس ، وتشريح العواطف الخاصة ، وتحليل البواعث الدخيلة ليست مبسورة للكثيرين ، وبخاصة من إخواننا الذين يدعون العصمة ، ويخالون أنفسهم من السمو الأخلافي في أعلي عليين .

وأكثر الناس كما يري العلامة النفسي الكبير " وليم ستيكل " في كتابه القيم عن" أعماق الروح " . مولعون بخداع انفسهم وتضليلها ، وحريصون على ان يغضوا الطرف عن عيوبهم ونقائصهم ، وهذا من أوضح وجوه الضعف في الإنسان وأظهر نقائصه ، فنحن لا نري انفسنا ابرع تفكيرا وأوسع حيلة من غيرنا فحسب ، وإنما تخال انفسنا كذلك أحسن مخبرا وأخلص جوهرا من الآخرين . وسرعان ما نتناسي عيوبنا واخطاءنا ونسقطها من حسابنا ، ونلقي دونها الحجب والأسداد ، في حين أن محاسننا وفضائلنا مائلة على الدوام بإزائنا في صورة مكبرة والوان براقة . وكل إنسان عند نفسه أحكم الحكماء وأعقل العقلاء وسيد الناس قاطبة ، وهذا هو السر في تلك الشكوى الدائمة التي لا تنقطع من إخواننا وزملائنا الناكرين للجميل ، الجاحدين للمعروف . ونحن نشكو ونسرف في الشكوي لأننا قد نسينا بسهولة جميع المواقف الشائنة التي كنا فيها نحن انفسنا ناكرين للصنيعة ، جاحدين للفضل .

ولكن لماذا كنا كذلك ونحن في نظر أنفسنا أهل للأخلاق العالية والشيم الكريمة والمناقب الحسان ؟ وكيف سما إلينا العيب وترامي إلينا النقصان ، وكلنا كنا ندعي قول المتنبي : " ما أبعد العيب والنقصان عن خلقى ؟ يعلل ذلك العلامة " ستيكل " تعليلا مقبولا ، فهو يعزوه إلي ذلك القانون النفسي الذي يجعلنا على الدوام راغبين في نسيان كل شئ يوقظ في نفوسنا العواطف الاليمة ، والمشاعر الموجعة التي تجرح عزتنا وتنال من كرامتنا .

والشكوي من نكران الجميل شكوي قديمة متأصلة ، واردة في الأساطير وأخبار الامم الخالية ، ومذكورة في الأمثال وطرائف الحكم وهذه الشكوي الواعلة في القدم تدل على أن إنكار الجميل ظاهرة نفسية معهودة ، وما دامت متمكنة من النفس كل هذا التمكن ومتفشية في الناس كل هذا التفشى ، فهي إذا جديرة بالتفسير والتحليل

وما دام إنكار الجميل حقيقة نفسية ملحوظة ، ومظهرا معترفا به ، فعلينا إذا أن نبحث في أغوار النفس وهاوياتها السحيقة عن هذه القوي المظلمة العاتية التي تضطرب وتعتمل في الأعماق ، وتصارع فيها بواعث تقدير الجميل والشعور بالحب والإخلاص للذين أحسنوا إلينا ، وأخذوا بأيدينا ، ونهضوا بنا ، وسددوا خطواتنا ، وشملونا بعطفهم ورعايتهم ثم تنجلى المعركة عن غلبة تلك القوي المظلمة وانتصارها التام ، فنتنكر للذين احسنوا إلينا ، ونتبرم بهم ، ونتناسي كل ما أسلفوا إلينا من أياد ، وما قدموا إلينا من حسنات ، ونجازبهم بالعقوق والكنود .

ومن الواضح المألوف أننا نقدر في بادي الأمر كل من يسدي إلينا يدا ، وننطوي له على الحب والاعتراف بالجميل ، ونحاول أن ننهض بشكره ونرد له الجميل مضاعفا ، ولا يخطر ببالنا اننا سننسي جميله يوما ما ، ونضيق به ذرعا ، ويتقل علينا مكانه ولكن تصاريف الزمن وتقلبات الحوادث سرعان ما تعصف بهذه الرغبة الطيبة وتقضي على هذا الشعور الصالح ؛ ومرور الأيام كفيل بتصويح أزاهير الشكر ، وتجفيف ينابيع الحب والود ؛ وعرفان الجميل الذي يستولي علينا في بادي الأمر لا يلبث أن يلح عليه السقم ويدب فيه الضعف حتى يمحي رسمه ، وتزول معالمه ، ويصم صداه ، فلا يتردد في جوانب النفس ، ولا تهيب هواتفه بالإنسان ، وبعد فترة من الزمن يشغل مكانه نكران الجميل ، وتتحول كل العواطف التي صحبت تقدير الجميل إلي أضدادها ونقائضها ، فيحور الحب حقدا وضغينة وكراهة وجفاء ، وتنقلب

الصداقة إلي عداء صريح ، ويستحيل المدح والإطراء والحمد والثناء ذما ونقصيا للعيوب ونشرا للمساوئ

ولكن كيف يتم ذلك ويقع ؟ وأين تكمن هذه التيارات الخفية التي تنقل عواطفنا من النقيض إلي النقيض ؟

تعليل ذلك هين ، وقد أشرت إليه في مستهل المقال . فنحن في نظر أنفسنا أعقل العقلاء وأحسن الناس واعظمهم كفاية وأوسعهم قدرة ، ونحن لا نعترف بعيب من عيوبنا إلا بعد تردد شديد ، وفي بطء وتناقل ، وإذا اضطررنا إلى أن نشيد بمحاسن الغير والاعتراف بتفوقه فعلنا ذلك في تحفظ واقتصاد ، لكى نترك لأنفسنا مضطربا واسعا تستطيع فيه أنانيتنا أن تتربع على عرشها ، وهذا هو سر كبريائنا الداخلي . وكل إنسان يعتقد أنه في عالمه الخاص الفذ منقطع النظير ؛ وهذا الشعور بعظمة النفس والمغالاة بقيمتها ، والإكبار لشأنها ، أساس طبيعي للحياة البشرية ، وحيلة دفاعية ، للنفس وركن نكتهف به وتلجأ إليه لتنفي سهام الخطوب ، وبوائق القدر ، وكوارث الدهر ؛ وهو يجعلنا أقدر على احتمال أعباء الحياة ومصابرة الحوادث ، ويعوض لنا اغفال الدنيا لشاننا وعدم اكتراثها بنا ، ويعزينا عن تقصير مجهوداتنا عن مطالبنا ورغباتنا ، والمتني يقول :

وأتعب خلق الله من بات جاهدا  وقصر عما تشتهي النفس جهده

ونحن كلنا هذا الرجل المتعب المقصرة قدرته عن رغباته ، والذي يسمو به الأمل ويقعد به العجز : ولعل هذا الشعور بالنفس والإسراف في تقديرها في العصور الحديثة أظهر وأعم وأكثر تفشيا ، لأنه كلما قل نصيب الإنسان في توجيه احوال الدنيا صور له وهمه ضخامة مساعيه ، وجلالة خطره ، وعظيم اهميته ؛ وكلما ضغطت شخصيته وجارت عليها النظم والاحوال الاقتصادية حلت محلها العظمة الموهومة والمجد المستعار ،

وظن كل إنسان أنه من الأهمية وعظم الشأن بحيث لا يمكن أن يستغني عنه ؛ ومن ثم يخامره الاعتقاد بأنه ليس مدينا لأي إنسان ، وانه نجح ووفق بفضل عمله وكدحه وثباته ومثابرته ، وما يبذل من نشاط وما ينفق من جهد ، وانه نال ما نال بسعيه ودؤوبه . واكثر الناس لا يعرفون أنهم قد أخذوا أشياء كثيرة قبل أن يعطوا شيئا ، ولا يطيقون ان يحاسبوا أنفسهم خشية أن يعترفوا بالدين لأحد !

والشعور بأننا مدينون للغير ينافر ثقتنا بأنفسنا ، لأن هذه الحقيقة غير السارة تنفي عنا أوهام العظمة ، وتبدد هالة المجد الحافة بنا . وليس لنا في هذا الصراع المحتدم بين العواطف إلا أن تختار أحد شيئين ، إما أن ترفض هذا الشعور بعظمة النفس المبالغ فيه ، وإما ان تنسي هذا الجميل الذي طوق عنقنا ، وتخمد ذكراه المؤلمة وتعفي على آثاره .

وهناك فريق من صرعي الحظ الذين اوسعهم القدر ضربا بهراوته ، فهم يشعرون في كل لحظة بالذلة والمهانة : وامثال هؤلاء البائسين اصبحوا في غير حاجة إلي الاستعانة بالدوافع النفسية ليكافحوا في الحياة ، ويشقوا طريقهم إلي المجد ؛ وقد تغلبت في نفوسهم حاجات الجسد على مطالب الروح ، والمحسن عندهم من يخلصهم من الامهم الجسدية ، وهم ليس عندهم مانع من تقدير الجميل والاعتراف بالفضل

ولكن الذي لم يتنازل عن أطماعه ورغائبه قل أن يكون شاكرا للجميل ، لأن أنانيته تأبي الاعتراف بفضل الغير ، وتأبي لذلك أن تواجه هذه الحقيقة المرة ، حقيقة إنكار الجميل ، فماذا يصنع في هذا المأزق ؟ لا معدي له عن بحث الأسباب والبواعث والمسوغات التي قامت بنفس المنعم حين هم بتقديم الجميل وإسداء الصنيعة ، ومن السهل ان يجد في ثناياها منفذا لانانيته وإرضاء لشهوة من شهوات نفسه . وكل عمل إنساني بطبيعته يحتمل تفسيرات مختلفة وتأويلات عديدة ، ولذا قل ان يخذله بحثه ، ودافع

المحافظة على الذات وإ كبار النفس سيعمل علي اختيار التفسير الملائم له ، والذي يرفع عن عاتقه أثقال الحمد والشكر المبهغلة ؛ وهذه هي المرحلة الأولى في الانتقال من الاعتراف بالجميل إلى إنكاره ، ولكن الأمر لا يقف عند هذا الحد ، لأنه يستلزم في العادة انتقال العاطفة إلي نقيضها ، وسرعان ما تتجمع عندنا الأسباب الداعية إلي تحويل العمل الصالح عمل شرير ، ونهتدي إلي عيوب ونقائص في اخلاق مدي الجميل ، كانت خافية علينا غائبة عنا ، وتبدو لنا حياته التى كنا نخالها نقية ناصعة موصومة ملطخة ، ولسنا نستريح من ذلك الشعور الثقيل شعور عرفان الجميل إلا إذا فعلنا ذلك ! وهكذا وقد تخلصنا من أوقار الاعتراف بالجميل ، وأصبحنا لا نري له موجبا ولا داعيا ، يعاودنا كبرياؤنا وعزتنا ، وترفع أنانيتنا رأسها بعد الانحناء والميل والذلة والاستخذاء

وهذا التفسير " السيكلوجي " لإنكار الجميل يرفع النقاب عن أسرار الكثير من المظاهر التي نشاهدها في حياتنا اليومية وتجاربنا الشخصية ، مثل تنكر الخدم لسادتهم المتفضلين عليهم ، وتمرد التلاميذ علي اساتذتهم وهم مدينون لهم بالتوجيه والقدوة ، وكراهة المرضي للأطباء الذين يعالجونهم ويبذلون الجهد في تخفيف آلامهم وشفاء أمراضهم ، وتنكر الأمم لقادتها العظماء وأبنائها البررة .

والذي يعتمد علي تقدير الناس للجميل ، وبني عليه القصور يجهل الطبيعة الإنسانية ولا يعرف نفسه . ونحن في بعض الأحايين نلتمس الشكر والتقدير لقيامنا بأعمال هي من ألزم واجباتنا ؛ اليس من واجبات الوالد مثلا ان يقول ابناءه حتى يسند ساعدهم ويستطيعوا العمل واحتمال التبعة ؟ ومع ذلك فنحن نكثر من تذكير أولادنا بضرورة تقدير هذا الجميل ، ونمتن عليهم ، ونبصرهم بواجبات عرفان الفضل ، السنا نكسوهم ونطعمهم ونعلمهم ؟ وهذا الإصرار من ناحيتنا على تقدير الجميل يغري الأولاد بإنكاره وشق

عصا الطاعة . ومن الخير أن تقوم الرابطة بين الأب وأولاده على رابطة الحب والولاء لا على رابطة عرفان الجميل وتقدير الصنيعة

ولكن لا يجب أن نقمط الطبيعة الإنسانية حقها ، وننكر عليها بعض الجوانب الطيبة . فهناك فريق من الناس يسرهم الاعتراف بالجميل وتقدير الفضل ، وهم لا يأنفون من ذلك ولا يترفعون عنه ، وهؤلاء القوم يشعرون أن اعترافهم بالجميل لا يفقدهم كرامتهم ، ولا يحط من مكانتهم ؛ وهؤلاء هم أهل السمو الروحي ، الذين أدركوا تلك الحقيقة الجليلة الخطر ، وهي أن الإنسان ليس وحدة مستقلة ، وان تقديرنا لأنفسنا تقدير خاطئ ، وقد استطاعوا أن يواجهوا أنفسهم ويروضوها على قبول تلك الحقيقة ، فقضوا علي غرورهم ، وطامنوا من جماح كبريائهم ، فلم يعصف بعقولهم جنون العظمة وهوسة التمجد وأكثر هؤلاء من العباقرة

الممتازين ، لأن العبقري المعطاء السخي الخاطر لا يري غضاضة في الاعتراف بالفضل ، وكبار النفوس في الأغلب . الأعم متواضعون معتدلون لأنهم يعرفون الكثير عن الطبيعة الإنسانية . والتواضع هو معرفة نواحي النقص . وجوانب الضعف في الإنسان ، في حين ان الغرور هو المغالاة بقيمة النفس وتقدير قيمة الإنسان . فتقدير الجميل لون من ألوان تواضع العظيم ، وإنكار الجميل ضرب من ضروب غرور الصغير ، والعبقرية العقلية أو العظمة النفسية ليست من الأشياء المطردة المألوفة ، بل هي لسوء الحظ من الأشياء القليلة النادرة . فلا عجب من الدهشة التي احتوت الفضيلتين ، فضيلة الإحسان وفضيلة عرفان الجميل ، عند التقائهما لأول مرة في الحفل ، الذي روي لنا خبره الروائي الروسي الكبير ايفان ترجنيف

اشترك في نشرتنا البريدية