تأليف أندريد ، تعريب الأستاذ محمد أحمد الغمراوي والدكتور أحمد عبد السلام الكرداني بك
تتابع لجنة التأليف والترجمة والنشر سلسلتها عن الفكر الحديث ، وأخر ما ظهر من هذه السلسلة الكتاب الذي نحن بصدده وعنوانه بالإنجليزية The Meehanism Nature أي (كيف تعمل الطبيعة) وقد آثر المعربان ان بالخذا له عنوانا اخر (من اسرار الفطرة) اشارة إلى موضوعه وإثارة لشغف القارئ للتطلع إلى بعض ما كشفه العلم من أسرار وكنوز
وفصول الكتاب سبعة . يعرف أولها علم الطبيعة ويعين حدود المعرفة العلمية واسالبيها . وبنظر الثاني في الحرارة خاصة والطاقة عامة ، ويختم بلمحة في تكون الطاقة داخل النجوم ثم انبعاثها من جوفها وانسيابها في الفضاء حتى تصلنا، نحن سكان الأرض العتمة الباردة ، دفئاً ونوراً . ثم يرجع المؤلف في الفصل الثالث إلي المشاهدات المألوفة فيتحدث عن الصوت والذبذبات ويبين أنواع الذبذبات المسموعة وغير المسموعة وما تحمل من طاقة. ثم ينتقل في الفصل الرابع إلي الضوء والإشعاع ، فيعالجها على أنها ضرب من الأمواج ، لها خواص هامة في الانتشار والإنعكاس والانكسار والحيود والتداخل والامتصاص والتفرق والتشتت ، ويلم بأصلها الكهربائي المغناطيسي ويجد المؤلف ان القارئ بعد الفصل الرابع في أشد الحاجة إلى استرجاع معلوماته عن الكهرباء وشقيقتها المغنطيسية ، فيخصص لهذا الغرض الفصل الخامس من الكتاب . ثم ينتقل في
الفصل السادس إلي نظرية الطاقة والإشعاع ، وكيفية تبادل الطاقة بين جسيمات المادة وأجواز القضاء . ويخم الكتاب بفصل عن (الذرة) وهو اطول فصول الكتاب وأكثرها إسهابا. والذرة كما نعلم اليوم أخطر ما في الطبيعة شأناً وإن كانت أضأل ما فيها جرماً . وقد كتبت هذه الفصول منذ أكثر من سبعة عشر عاماً ، ولكنك تعجب إذ تقرأها اليوم فلا تجد فيها ما يتنافى وأحدث الكشوف العلمية . وذلك لأن المؤلف يعالج أصول الموضوعات دون فروعها ،
ولا يثقل على القارئ بتفصيل ممل أو أرقام جامدة ، بل يحرص دائما على تقريب المعاني العلمية إلي ذهن القارئ بلطف وهوادة ، متخذا من الاستشهاد بالمألوف والمعروف مركباً، ومن التجارب والاختبارات عونا ، ومن المنطق ساعداً. فحقق الكتاب ما ابتغاه مؤلفه منه ، أن ييسر فهم المعاني العلمية الحديثة المتصلة بالمادة والإشعاع ، وأن يمد القارئ بما يكفي لتمكينه مما يكتب للجمهور في فروع العلم ولفهمه المغزي العام لبعض التقدمات الحديثة التي تعلنها الصحف من آن لأن . وليس ثمة دليل أقوي علي نجاح الكتاب في هذا الشأن من أن تذكر أنه ترجم إلي اللغات الفرنسية والإيطالية والبولندية والهولندية والدنماركية والسويدية ، هذا فضلا عن الطبعات الإنجليزية المتتالية . وقد أحسن المترجمان أيما إحسان في اختيار هذا الكتاب وإضافته إلي الكتبة العلمية العربية . ومؤلف الكتاب هو إدوارد نيفيل داكوست أندريد أستاذ الطبيعة في كلية الجامعة بلندن ولد في لندن عام ١٨٨٧ من أصل إسباني ، وتخرج في جامعتها عام ١٩٠٧ حاصلا على درجة الشرف الأولى في الطبيعة ، وقضي الأعوام الثلاثة التالية طالبا للأبحاث ، وأظهر من القدرة والذكاء ما مكنه من الحصول على إحدي مكافآت معرض ١٨٥١ التذكارية ، وهي مكافأة سخية تسمح لحاملها بالأرتحال في سبيل العلم إذا شاء . سافر أندريد إلي هيدلبرج أحد معاقل العلم الألماني
الكبرى وحصل على درجة الدكتوراه من جامعتها القديمة . ثم قفل راجعا إلي وطنه ، فقصد إلي معمل كافندش في كمبريدج ، ثم إلى مانشستر ، وبذلك أخذ العلم عن ثقاته وعلى رأسهم رترفورد ، فهي الذرة في عصرنا الحديث ؛ وهكذا هيئ لأنريد أن يقتطف من ثمار العلم أطيبها - أن يتذوقها في أصقاع متباعدة ، فاستبان نكهتها وحذق صنعته ، ويرع في بحوثه ، وذاع صيته وهو في منتصف العقد الثالث من عمره .
ثم أعلنت الحرب العالمية الأولى فانخرط أندريد في سلك المحاربين وقضى فيه ستة اعوام او تزيد ، ارتقي في خلالها في مختلف مناصب الحبش حتى صار من الخبراء العلميين للقوات المحارية . ولما عاد إلى حياة السلم ، عين استاذا للطبيعة في كلية المدفعية الملكية في وولوبتش ، فشغل هذا المنصب ثماقية أعوام ، ثم اختير أستاذا في كليته الأولى ،
فرجع من حيث بدأ ، وبقي في جامعة لندن حتى اليوم فيما عدا فترات قصار ، التحق فيها بالهيئات الفنية العليا في وزارة الحرب والتموين . وأندريد عضو بالجمعية الملكية ورئيس سابق للجمعية الطبيعية وعالم بحائة في فروع كثيرة من علم الطبيعة ، ومحرر لجميع المواد الطبيعية في دائرة المعارف البريطانية (الطبعة الرابعة عشرة ).وهوايته لعبة الحوالف وفرض الشعر ، وجمع المخطوطات العلمية العتيقة ، والتنقيب عن المعرفة (التي لا فائدة ترجى منها ) . فهو عالم وشاعر وفنان ، وهو كاتب ناجح ومحاضر بارع . وقد ألقى محاضرات عيد الميلاد عام ١٩٢٧ في المعهد الملكي ، وهذا شرف كبير قلما يحظي به العلماء ومحاضرات عيد الميلاد لا يستمع إليها إلا من هم دون السادسة عشرة من طلبة المدارس ؛ وعلى المحاضر أن ينزل إلي مستوي أفهامهم فيحدثهم عن اخر ما وصل إليه العلم في موضوعه ، ويجري لهم التجارب في المحاضرة ذاتها ويريهم أجزاء أدواته وأجهزته ويجيب على جميع أسئلتهم ، حتى يستنير كل من
حماستهم لمعرفة المجهول وتطلعهم إلى الكشف عن اسرار الطبيعة . وقد أخرجت محاضرات عيد الميلاد عددا كبيرا من الكتب العلمية المبسطة في اللغة الإيجليزية في السنوات الأخيرة ، وإليها وإلى امثالها رجع الفضل في إشاعة المعرفة العلمية في اوساط المجتمع ، تلك المعرفة التي اصبحت ألزم لرقي الأمم والشعوب من ماء الأرض ونور السماء .
والمترجمان غنيان عن التعريف . وقد أخرجا الكتاب في أسلوب رصين شامخ ، وقدما له بمقدمة ، عرضا فيها لسياسة ترجمة المصطلحات العلمية ، وذيلا الكتاب بدليل وقائمتين المصطلحات العربية والإنجليزية . ومن المهم في هذا المقام أن نشير إلي سياسة الترجمة وطريقة اختيار الألفاظ العربية المقابلة للمصطلحات الأجنبية فمن الكتاب من ينقل اللفظ الأجنبي نقلا حرفيا وينطقه نطقا أجنبيا أو يحوره بعض الشئ حتى يستقيم اللسان فيحذف منه الأصوات التي لا توجد في العربية مثل v و p مثلا ، وبذلك تحصل على ألفاظ مثل تليفون وميكروسكوب وكروموسوم وغيرها . وطريقة أخري : أن ترجع إلي لغتنا العربية ذاتها فتستخرج من أحشائها (الدر) الكامن فيها من ألفاظ دارسة واصطلاحات عفى عليها الدهر فيما عفى، فنقول قالت العرب كذا وكذا ، فلم لا نقول مثل الذي قالوا . وثمة طريق ثالث : أن نشتق الألفاظ من أصولها أو من الأعلام ، وسبيل رابع أن ننحت لفظا من لفظين أو عبارة كاملة فلقول حوقل ويشمل وقد تضاربت الأقوال وكثر النقاش في هذه الموضوعات وتفرقت الآراء ، وكان لكل دلوه وسط الدلاء ، ولما يستقر الأمر بعد ، ولما يتفق القوم على رأي . ولا إخال هذا سيحدث يوما قط ، ما دمنا متأخرين في قافلة العلم التي تسير إلي الأمام قدماً .
ذلك أن المقصود من (اللغة) أصلا هو التفاهم بالأصوات لتبادل الأفكار ونقل المعاني ، وليس المقصود
مطلقا أن تتبع قواعد ونتابع استعمال الفاظ ، صارت غريبة قصارت غير ذات معني لسامعها ، فأولي بها ان تكون غير ذات موضوع لكاتبها . وقد ادخل العرب قديما في لغتهم عدة ألفاظ أعجمية غريبة للدلالة على معان وأشياء لم يكن لهم بها علم ، وقد تسربت بعض هذه الألفاظ إلى المأثور من النثر والشعر وهضمتها معدة الناطقين بالضاد . وهكذا فعلت لغات اخري ولا زالت تفعل ، لأن اللغة حية متجددة، إن جمدت تدرس وتذهب آثارها ، وفي العصر العباسي الأول وما بعده نشطت حركة ترجمة المراجع العلمية عن اليونانية والهندية ، فدخلت عبارات كثيرة في اللغة ، بفى بعضها حتى اليوم ، واختفي البعض الآخر . وقد استشهد المترجمان بالألفاظ التي درست مثل مانيماطبقا واسطروقوميا. بينما توجد الفاظ حتى اليوم مثل زيج وغيره .
ولكن الفارق الحقيقي بين حالنا اليوم وحال مترجمي دار الحكمة في العصر العباسي ، وهو أنهم كانوا أهل العلم المقدمين في العلم قرونا طويلة ، فكان امامهم فسحة من الوقت لتستقر الفاظهم وتثبت اما نحن اليوم ، فلا نكاد نفرغ من نقل اصطلاح ، حتى يخرج علينا علماء الغرب بآلاف غيره ، فنعجز عن متابعتهم في النقل فيما يخترعون ويبدعون .
ونحن إذا نظرنا إلي طالب العلم الانجليزي مثلا ، نجده يتلقى الاصطلاحات المستعملة ويألفها شيئا فشيئاً بكثرة الاستعمال والتكرار ، ومعظم هذه الاصطلاحات مشتق بالإضافة من اصول بونانية أو لاتينية ، وهذا لايهم كثيرا اليوم ، لعدم تمكن طلبة المدارس من هاتين اللغتين القديمتين ، وكثيرا ما يستعمل علماء الإنجليز اصطلاحات فرنسية أو المانية مثل Ralce Ultima في علم الطيف أو Eigen valoce في الرياضيات ، وكثيرا ما يجمعون أوائل كلمات عبارة ليتخذوا اسما جديدا مثل رادار او نايلون . فإذا ذكرت رادار لإتجليزي لم يسمع به من قبل ، لم يفهم ماذا
تريد ، شأنه في ذلك شأن أي عربي أو اعجمي .
وقد عمد المترجمان إلي الاستكثار من نحت الألفاظ والغوص في أمهات الكتب ، فأخرجا مجموعة من الاصطلاحات العلمية الغربية بالنسبة لكاتب هذا المقال على الأقل ، والتي أرى انها غريبة على كل قارئ مثل غرابة الألفاظ المنقولة رأسا عن الإنجليزية ، إن لم تكن أكثر . ومثل ذلك والف وكهيرب و أوبل وأيتسب وعويطب وعبسب واوبلب وسوبليب وارضبيعة وديرطيس وتجميعة وحر كراريات وففسجى وفقضتي وحدبي وغيرها ومهما قيل من ان هذه الفاظ عربية اصيلة أو منحونة تحتا اصوليا جميلا ، فإنها دون شك لما يصعب تفهمها ويحتاج الأمر في معرفتها إلي ترجمان .
وسببقى في هذا الشأن بين شد وجذب ودفع ورد ، حتى نرفع رأسنا وسط الأمم ، فيكون لنا علم كالذي لديهم ، وعندئذ نفرض عليهم اتباع ما نضع من اصطلاحات ، كما فرضنا عليهم من قبل اصطلاحات : الجبر واللوغاريتم والسمت والنظير والصغر وأسماء النجوم . أما تطرفنا في التعصب اليوم لألفاظنا فقد يلهينا عن الأخذ بعلمهم وهو الاهم . وقد حاول هتلر ان (يطهر) اللغة الالمانية من جميع ما تطرق إليها من ألفاظ أجنبية لاتينية اكتفاء بالألفاظ الجرمانية القديمة ، فأخرج في عهده طبيعات لكتب علمية ، في آخرها قوائم مصطلحات لتعين القارئ على الربط بين القديم المألوف والجديد المفروض . وكنت أرى علماء الألمان يقرأون كتبهم باللغات الأجنبية ولا يطالعونها بلغتهم الألمانية (الهتلرية) القومية
وقد أسهبت في مناقشة سياسة المصطلحات مثل إسهاب المترجمين فيها ، لأنها موضوع له اهميته ، وقد أظهر هذا الكتاب جانباً من جوانب هذا الموضوع بوضوح لم يعرف من قبل.
