في العدد الماضي من هذه المجلة خطاب طريف وجهه الأستاذ فريد بك عميد معهد التربية للمعلمين إلي معالي وزير المعارف بالبريد المستعجل ، لأن العام الدراسي قد اوشك على البدء وموسم الصيحات والدموع قد صار قاب قوسين أو أدنى .
تضمن الجزء الأكبر من الخطاب دفاعا مجيدا عن الوزيرين اللذين وليا وزارة المعارف قبل معالي وزيرها الحالي - ولم يشأ الأستاذ العميد أن يذكر الأسماء - وبين كيف ان كلأ منهما قد اجتهد مشكورا في حل تلك المشكلة المتوطنة على طريقته
الأول : بإباحة المجانية في التعليم الابتدائي جملة ، وبالتوسع العظيم في مجانية التعليم الثانوي مما أدي إلي اكتظاظ فصول الدراسة بالمدارس إلي حد أضاع كثيرا من الفائدة المقصودة من التعليم
والثاني : بإصلاح ما ظهر من النقص في سياسة سلفه ، وذلك عن طريق تنظيم الدخول في المدارس ، مع الاحتفاظ بمجانية التعليم ، ومحاولة زيادة عدد المدارس الابتدائية ، وإنشاء فصول جديدة في المدارس القديمة ، والاحتيال قدر الاستطاعة ألا يصد طالب عن مدرسة . ونظم قواعد المجانية في المدارس الثانوية بحيث تتاح فرصة دخولها لألوف ممن كانوا لا يستطيعونه من أذكياء التلاميذ ، وزاد هذا الوزير الثاني على ذلك كله أن نقدم بما هداء إليه اجتهاده إلى المجلس الأعلى للتعليم لكي يضع أساس السياسة الثابتة التي طال الشعور بالحاجة إليها .
وقد استغرق هذا التلخيص الجميل المفهوم نحو نصف
خطاب الأستاذ العميد الموجه إلي معالي الوزير . أما النصف الثاني من الخطاب فقد تضمن خطة للعمل ينصح عزته بانتهاجها ، وهذه الخطة تكاد تنحصر في متابعة السير في الطريق الذي رسم وبدىء في العام الماضي ، لان ذلك يؤدي إلي الاستمرار ويجنبنا القلقلة . وهذا رأي للأستاذ فريد بك نقدره . لكن هذا الجزء الأخير من الخطاب قد تضمن مع الاسف عبارات لم تفهم القصد منها تماما ، لان ظاهرها يكاد يسد الطريق على المفكرين والمجتهدين ومنهم اعضاء المجلس الأعلى أنفسهم ، وهذا ما لم نكن نظن أن يقول به الأستاذ العميد .
إذ بماذا نفسر قوله : " ليس يجدر بنا ان نستأنف تفكيرا جديدا " هل يصح ان يدعو عميد المعلمين إلي عدم استئناف التفكير وإلى تجنب استحداث الجديد ؟ ربما كان قصد عزته ضرورة تجنب الثورات الانقلابية وضرورة التزام خطة التعديلات الطفيفة . وفي هذا على ما نري شئ من الحجر على حرية التفكير وإن كان بلا شك غير مقصود .
ثم انظر إلي قول عزته : " ليس من مصلحة البلاد أن تعوج عن الطريق الطبيعي الذي دفعتنا إليه ظروف الحياة العملية دفعا " لقد حاولت مخلصا اتبين هذا الطريق الطبيعي وأتعرف ظروف الحياة العملية التى دفعتنا إليه فلم أهتد إلي هذه الظروف ولا إلي ذلك الطريق .
وإني لست مؤمنا بأن الاتجاه الذي نسير فيه والذي رسمه الأستاذ فريد بك في خطابه هو ما أوصلتنا إليه إطالة التفكير وشدة التمحيص . واظن ان صديقى الكاتب يذكر ان الذي هدانا إليه طول التفكير وشدة التمحيص منذ عام ١٩٢٥ هو ضرورة توحيد المرحلة الاولى من التعليم لكافة المصريين على السواء ، والإقلاع عن هذا الأزدواج الممقوت الذي لا وجود له في غير مصر والذي
كانت نتيجته وستظل دائما الاهتمام بالتعليم الابتدائي إهمال التعليم الأولى ؛ او بعبارة اصرح الاهتمام بالتلميذ الذي يستطيع ان يلبس البدلة وإغفال شأن التلميذ الذي يلبس الجلباب العادي وبنحدر من الأسر الفقيرة .
وقد استغربت أنه لم يرد في خطاب صديقنا الأستاذ فريد بك سطر واحد عن التعليم الأولي ؛ ولعل هذا راجع إلي ان موضوع الخطاب أساسه الإشارة إلى الصيحات العالية والدموع المنحدرة في أول العام الدراسي ، والمعلوم ان ابناءنا الذين يتلقون التعليم بالمدارس الأولية هم وآباؤهم فائمون به على سوئه ، لا يضجون ولا يصيحون ولايسكبون الدموع ، والغرض الأول من الخطاب هو السعي لتخفيف حدة الصبحات وكفكفة الدموع وهذه لا تصدر عادة إلا من طالبي الالتحاق بالمدارس الابتدائية أو بالمدارس الثانوية
وقد وقفت طويلا عند قوله : " فحجر الزاوية في الخطة التي نقابل بها العام الجديد فيما يتصل بالتعليم الابتدائي هو العمل على توفير الأماكن اللازمة لكل طلابه " . وعند قوله : " وحجر الزاوية في الخطة التي نقابل بها العام الجديد في التعليم الثانوي هو ) أيضا ( توفير الأماكن اللازمة لكل طلابه ، فهل المسألة مسألة أماكن فقط أم مسألة مدرسين أيضا لم يعدوا بعد ؟ ثم هل هذا أوان الكلام في هذا الموضوع ام اوانه وقت وضع الميزانية ، لأن تدبير الأماكن المناسبة والمعلمين الصالحين يحتاج لميزانية واسعة - إن كنا نبغي بالطبع أن نتجنب إفساد التعليم باكتظاظ فصول الدراسة .
الحق أن علي الذين يقولون القول الذي نقله من الأستاذ فريد بك ان يقنعوا نواب الأمة به وبتفقوا معهم بصراحة على تحويل التعليم الأولى في القطر كله إلي ابتدائي ، ويرسموا معهم متكافئين الخطة اللازمة لتدبير الأموال الطائلة التى يقتضيها هذا التحويل أما التحدث في هذا
الموضوع الخطير في موسم افتتاح المدارس علا يكون له من نتيجة سوى انحطاط التعليم وتأخره بسبب حشد التلاميذ بكثرة قبل الاستعداد لإيوائهم ولتعليمهم كما ينبغي .
بعد ذلك تأمل معي قول الأستاذ فريد بك : " إن السياسة التي بدأت الوزارة في رسمها في العام الماضي جديرة بأن توضع موضع البحث الجدي ، فإذا وجدنا فيها نقصا أكملناه، وإذا وجدنا فيها ميلا قومناه ولكن علينا الا نعدل إلي سياسة جديدة اخرى إلا إذا حكمنا على تلك السياسة الأولى بالفساد ، واطمأننا إلي صحة حكمنا بالمنطق الصحيح ، هل تتفق هذه الدعوة مع ما قيل من قبل من ضرورة قيام المجلس الأعلى بوضع سياسة عامة ثابتة ؟ الا تتضمن عبارة الأستاذ العميد حدا من حرية هذا المجلس وتقييده فيها قد يراه من اراء وإلزامه باتباع ما رسم في العام الفائت ؟
الحق أننا نود أن نستأذن صديقنا الفاضل في أن نخالفه في كل ما ورد في خطابه من عبارات يشئم منها الحد من حرية التفكير والنفور من التجديد والدعوة إلى التزام خطة رسمها هذا الوزير أو ذاك . ورأينا في هذا معروف صرحنا في افتتاحية العدد الذي قبل الماضي ؛ فرسم السياسة العامة للتسليم ) أو غيره ( ليس من عمل الوزير ، وما ينبغي لنا ان نعطي الوزراء هذا الحق ، بل يجب ان نسعى لتسليمهم إياه ونعطيه لهيئة عليا مستقلة لا سلطان لأحد عليها ولا نستمع لغير الصالح العام والاعتبارات الفنية .
ولا شك في أن ما عانيناه من فوضى في أمور التعليم يرجع إما لعدم محاولة وضع سياسة عامة أو لوضع سياسة ارتجالية تقوم على اجتهاد وزير من الوزراء او اتجاه خاص عند وزير اخر ؟ والواجب ان توضع هذه السياسة العامة بالطرق الدستورية التي تضمن أن يقول كل مفكر رأيه بكل حرية وان يستمع لجميع الآراء ، سواء أكانت صادرة
من أفراد او من هيئات ، وان تجري قبل وضع السياسة العامة استفتاءات يشترك فيها المعلمون وغير المعلمين من ذوي الرأي ومن رجال الأعمال ومن عامة الشعب ، وان تلحظ فيها حاجيات البلاد العملية وظروف اغلبية الشعب وقدرتنا المالية ، إلى غير ذلك من الاعتبارات ، وان يكون الحكم فيها لا إلى الوزراء ولكن إلى هيئة فنية عليا كما قدمنا او إلى مجلس أعلي مكون تكوينا على أساس غير الأساس الحالي ، بحيث يصير ممثلا لجميع وجهات النظر لمختلف الهيئات والاحزاب ورجال الأعمال ، ويمثل وزراء المعارف السابقون لطائفة من الطوائف بعدد محدود .
ونمي عن البيان أن هيئة أو مجلسا كهذا يجب الا يتقيد عند بحث السياسة العامة الملائمة بأي قيد كالقيود التي يبدو أن الأستاذ العميد يريد أن يقيد بها
المفكرون . وإنا نرجو ونؤمل ان تكون هذه السياسة العامة عند ما يتم وضعها تهدف لمصلحة الأغلبية العظمي من ابناء الشعب لا لمصلحة الأقلية المحظوظة ، كما نرجو أن يجد فيها كل ذى موهبة عالية فرصة لإنماء موهبته حتى تستفيد الأمة مما أودعه الله في ابنائها من استعدادات عالية وكفاءات ممتازة .
وإني إذ أقول هذا القول أضمر في نفسي أيضا كل تقدير للنيات الحسنة التي لا أشك في توفرها في كل من ولى أمرأ من أمور الدولة ويجتهد مخلصا في إصلاحه وفي كل من تدفعه الغيرة على المصلحة العامة للإدلاء بكل رأي يعني له ، عله يعاون في الوصول إلى الخطة الناجحة النافعة الموفقة التي نبتغيها جميعا والله الموفق الهادي
