في غير الحروب العالمية الحديثة كانت الفترة التي تعقب الحرب فترة هدوء واستجمام يخلد فيها الظافر إلى شئ من الراحة مما احتمله في القتال من متاعب ، ويسترخي منتشيا بلذة الظفر ، ويرجع فيها المقهور إلى نفسه يداوي ما حل بها من إعياء ، ويضمد ما أصابها من جراح . وكانت أضرار الحرب مقصورة على ميادين الحرب والمحاربين فيها ، أما ما عداها من البلاد فسليمة من الأذي . وغير المقاتلين من سكانها لا يمسهم سوء إلا ما تقتضيه حاجات الحرب من نقص في الأرزاق وتقييد للحرية ، ولهذا كان من الميسور أن تعود الأمور لمجراها الطبيعي وتزول آثار الحرب في زمن قصير . وكانت الحرب محدودة الدائرة لا تمتد لغير المتحاربين ، فإذا خرجوا من الحرب سارعت البلاد غير المحاربة
إلى الإتصال بهم ومعاونتهم على استئناف الحياة الطبيعية
أما هذه الحروب العالمية فتختلف في طبيعتها عما سبقها من الحروب ، فهي حروب شاملة زلزلت أركان العالم جميعا وقلقلت أوضاع الحياة كلها وعم الضرر فيها ، فلم يسلم منه بر ولا بحر ، ولا حضر ولا ريف ، ولم ينجح من أذاها مسالم أو مقاتل ، ولم يقف أثرها عند الأمم المتحاربة بل امتد إلى كل أمة محايدة ومقاتلة ، قريبة من مبادئ القتال أو بعيدة . وأنهكت فيها قوي الغالب والمغلوب علي السواء . فهي تنتهي اليوم ولكن لا تنتهي معها المتاعب ، بل تخلف تركة ثقيلة من المشاكل لا تدع وقتا لراحة ولا تحتمل تسويفا ولا تأجيلا ، وتتطلب خططا دقيقة كخطط الحرب ونشاطا متصلا سريعا كنشاطها
وثمة جانب آخر يلازم هذه الحروب الحديثة ويقوي بعد انتهائها ، هو قيام حركات فكرية انقلابية تتناول أسس الحياة ونظمها وقيم الأشياء فيها ، وكأنما يساعدها انهيار الدول والحكومات وتداعي الأنظمة القائمة في اكثر البلاد على التفكير في بناء العالم كله على اسس جديدة والترويج لفلسفة جديدة للحياة ، فهذه التيارات الفكرية الثورية التي تظهر في اوان التقلقل والاضطراب تزيد الأمور تعقيدا بما يقوم بينها وبين المذاهب التقليدية وروح المحافظة من نزاع قد يصل لأبعد الحدود ، وهي عامل من العوامل التي تؤخر الاستقرار والعودة إلي الأحوال الطبيعية
يضاف إلي ما تقدم أن الحروب نفسها وما استعانت به من وسائل وما استحدثت من أساليب جديدة وما أفادته في تحقيق أغراضها من المبتكرات في المواد واستخدامها والقوى وتسخيرها ، كل أولئك يضع بين يدي الناس مواد جديدة ومصادر للقوى مستحدثة وأساليب في معالجة الأمور لم يسبق إليها ، فهي تهيئ لعالم جديد غير عالم ماقبل الحرب ، وتتطلب نشاطا في الانتفاع بتلك الوسائل وتعديل الحياة على مقتضاها
فنحن نفرغ من الحرب لنواجه تبعات أشد منها تقتضينا أولا التخلص من آثارها المادية وتعمير ما خرب وإصلاح ما فسد ، وتقتضينا ثانيا العمل على الوصول إلى حالة استقرار فكري واطمئنان إلي نظام اجتماعي سليم قوي الدعائم ، وتقتضينا أخيرا الأفادة مما احدثته الحرب في ترقية الحياة ورفع مستواها ، وهي غايات جسام تتطلب همما عظيمة متضافرة متعاونة تعمل منذ الساعة عملا قويا متصلا شاملا . ولقد كان من نتائج هذه الحرب ان انححصرت القوة المالية في الدول الكبرى الظافرة ، وأصبحت تملك من الوسائل ما تستطيع به أن تملى إرادتها على أمم الأرض جميعا ، وهو وضع لا يطمئن النفوس كثيرا لولا ما يصرح به أقطاب تلك الدول من نيات طيبة وروح إنسانية كريمة . ويبدو
أن هذه الدول تريد أن تنظم العالم وتعالج مشاكله على الوجه الذي يسمح به تفاهمها جميعا واتفاقها فيما بينها .
وهو مطلب طموح يلقي عليها من الأعباء ما ينوء به كاهلها على ما به من قوة وبأس وسينتهي الأمر بها أخيرا قريبا أو بعيدا إلى ترك أمور كل دولة لأهلها .
ونحسب كل أمة قمينة بأن تفكر لنفسها وتضطلع بحمل أعبائها الخاصة وحل مشاكلها . ولو فعلت الأمم كلها ذلك بروح طيبة تنشد السلم وتسعى للتعاون مع سواها من الأمم لكان ذلك أفضل في تقريب أمد العودة للحياة الطبيعية . ولعل أكبر المشاكل الحاضرة تعقيدا بالنسبة للأمم جميعا هي مشاكل النقد والتصدير والاستيراد . فالدول الكبيرة تفرض شيئا من التحكم والتضييق على الأمم الصغيرة في هذه الناحية . وحجتها في ذلك أن من المواد ما لا يمكن إطلاق تداوله ، وإلا حرمت منه أمم وظفرت منه أخرى بأكثر من نصيبها العادل
ونعتقد أن الاستيراد والتصدير يجب أن يطلقا بغير قيد ، وان تعالج مشكلة النقد على وجه ما ، وإلا انتهى الحال بالأمم إلى تقاطع وتباين وتحاجز وتباعد ، وشعور بالوفرة الكاسدة في بعض الأمم والحرمان الشديد في أمم اخرى ، وهي حالات نفسية شديدة الخطر تجر وراءها الثورات والحروب .
ونعتقد أن إعادة الإنتاج إلي ما يكفي حاجات الأمم وتنشيط التجارة الحرة بين الدول جميعا وتيسير التعامل وتبادل النقد هي أهم الأمور الأساسية الكفيلة بتحسين العلاقات بين الدول .
ومع أن الأمور المعنوية المتصلة بالكيان السياسي والحقوق القومية من الأهمية بمكان ، إلا أننا نرى أن حل المشاكل الاقتصادية أولى بالعناية العاجلة فلا حرية لجائع ولا استقلال لأمة فقيرة مكبلة بقيود اقتصادية تحول دون نشاطها ونهضتها .

