برتراند رسل فيلسوف انجليزي معاصر ، بل هو زعيم الفلاسفة الإنجليز المعاصرين ، أنفق الشطر الأول من حياته العلمية في دراسة الرياضة والمنطق ، فأكسباه وضوحًا في التفكير لا يكاد يدنو منه في ذلك أحد من معاصريه ... ولم تكد تضع الحرب الكبرى أوزارها حتى خرج برتراند رسل من صمته الدفين تحت أكداس المنطق والرياضة ، وانطلق في العالم كالشعلة المندلعة يخطف الأبصار ويأخذ الألباب ، جازعًا مما شهده العالم من صراع وقتال ، وقد راعه أن يرى ألوف الشباب يسيرون في خيلاء وزهو ليلاقوا حتفهم في حومة الوغى ! فبدأ يفكر في وسيلة الخلاص ، فكانت هذه الكتب التي أخرجها للناس ، وهذه الفصول التي يذيعها فيهم حينًا بعد حين .
وأول ما يستوقفني من رسل أسلوبه في التفكير , لأنه أسلوب أومن به وأحتذيه ، فهو يأبى أن يكون في تفكيره فردًا في قطيع ، ويقف عند المسائل وقفات تقصر أو تطول ، حتى يتبين فيها الرشد من الغي ؛ وليس أبغض على نفسه من رأي يأخذ به الناس في تسليم لا يقبل الشك ، بل ليس أبغض على نفسه من هذه الأفكار التي يطلق عليها الناس اسم " البديهيات" ثم يقبلون عليها إقبالا لا روية فيه ، ولكم هلل وكبر حين سمع برجال نهضوا يتحدون قداسة تلك البدائه ، وألحوا يطلبون لكل بديهية ما يؤيدها من دليل ، وكم هلل وكبر حين سمع بمن أثبت أن الخطين المتوازيين قد يلتقيان ، وأن الكل قد لا يكون أكبر من
جزئه ؛ ذلك أن رسل يحب لنا أن نفكر أحرارًا من كل أغلال وأصفاد ، ويحب لنا أن نشك حتى يتبين اليقين .
وهل في العالم كله حقيقة واحدة تستعصي على الشك ؟ ستقول : نعم ، وهل أشك أو يجوز أن أشك في أن هذا مكتب أمامي ، صنع من الخشب ، وطلي باللون الأصفر ، وانتثرت فوقه الكتب والأوراق ؟ ستقول هذا ، وسيجيبك رسل بأن الشك في هذا جائز بل واجب ؛ ولو أمعنت في الفكر لألفيت هذه الأمور الساذجة العابرة تحتمل كثيرًا من التفكير ...
انظر معي إلى مكتبك كرَّة أخرى ، ما لونه ؟ لا تقل في بساطة الأطفال إنه أصفر ، لأن ألوف الألوان تتعاقب عليه طول النهار والليل ، كلما اختلف مقدار الضوء الساقط . ولو رسمه فنان عشرين صورة في يوم واحد في أوقات مختلفة لخرجت كل صورة على شيء من الخلاف مع سائر الصور ... وما شكله ؟ ستقول : مستطيل السطح مثلا ، مع أنك لم تره مرة واحدة في حياتك مستطيلا ، وإن خالجك الشك ، فاجلس وحاول أن ترسم ما تراه على الورق ، إذن لوجدت السطح يضيق هنا وينفرج هناك ، بل لو جلس حوله عشرون راسمًا لما وجدت رسمين اثنين ينطبقان ، فليس لمكتبك شكل واحد بل أشكال متعددة وإن شُبه لك أنه مستطيل . ثم ما ملمسه ؟ ستسرع إلى الجواب بأنه ناعم مصقول ، ولكن تريث قليلا وانظر إليه بمجهر وحدثني كيف تراه ، ستراه وديانًا وجبالا وهضابًا تحت زجاجة المجهر ، وكلما
اختلف المنظار شدة وضعفًا اختلف معه سطح المكتب نعومة وخشونة ، فأي هذه الصور جدير أن يكون صوابا ؟ وأيها محكوم عليه بالبطلان ؟
وحسبي هذا ، فلن أطيل الوقوف عند مكتبك ، ولعلي قد وفقت إلى شيء أرجو مخلصًا أن ترسخ جذوره في العقول ، وهو ألا يلقي الإنسان أحكامه جزافا ، وألا يسرع إلى تصويب رأيه وتخطئة غيره إلا بالدليل والبرهان ، فها قد رأينا أتفه الأشياء يحتمل اختلاف الرأي . . . . فالأصول الأولى التي ننشرها عن رسل ، وننشرها عن إيمان وعقيدة ، هي أنه إذا كان في الموضوع رأيان ، فحكم العقل ، ولا تقض في الأمر بهواك ، وإنه من الغفلة أن يقضي الرجل العادي في أمر اختلاف فيه العلماء والخبراء ؛ فينبغي أن يكون لنا الضمير العلمي في شئون الحياة جميعًا ، ولو نجحنا في ذلك وحده كان كفيلا للبشرية بالنهوض السريع . خذ لذلك أمثلة سريعة مقتضبة ؛ يقول بعض علماء الاقتصاد : إن الاشتراكية سبيل النجاة بالإنسانية مما يرهقها من الكوارث الفاجعة ، فينهض قوم يعارضون ويزعمون أنها نزعة لا تتفق وطبيعة الإنسان ، ولو اصطنع هؤلاء ضميرًا علميًا ، لما ضاقوا صدرًا بالرأي الجديد ، ولأفسحو له في مجال التجربة ، لعله يعود على البشر بخير موفور ... نسمع عن أهل الميت أن المرأة يحل لها أن تتزوج أكثر من رجل ، ويسمع المسيحيون عن المسلمين أنهم يجيزون للرجل أن يتزوج أكثر من امرأة ، فيقابل كل فريق ما يسمعه عن الفريق الآخر بشيء من النقد ، ولو اتخذ أسلوب التفكير الصحيح لتريث في حكمه ، لعله يسخر من صواب .
نريد شيئا من الشك ، أو بعبارة أخرى نريد للعقل أن يسيطر ، وللعاطفة أن تنكمش حين نصدر الأحكام ، لأنها مضللة مفسدة للرأي في أكثر الأحيان ، ومع ذلك فالناس يصدرون كثيرا عن عواطفهم حين يفكرون . . . . فلو قام فرد بين الناس يزعم أنه ملك انجلترا ، لحكم عليه الإنجليز بالخبل والجنون ، وأودعوه السجن أو البيمارستان ،
ليسلم الناس من شره وأذاه ، أما إن نهض هذا الفرد بعينه وزعم للناس أن الأمة الإنجليزية تنزل بين الأمم منزلة الملك بين الناس ، لرفعوه وأكبروه ؛ مع أن الموقفين في عين الأجنبي المحايد متساويان : في الأول يعلو بنفسه باطلا ، وفي الثاني يسمو بأمته باطلا . ولكن الموقف الأول صادف في الناس نفورًا لأنه يصدم رغباتهم ، وصادف الثاني إعجابًا وقبولا لأنه يتفق وهواهم ؛ والواقع - كما أشرت - أن لا فرق بين الحالتين ، سوى أن هذا جنون جماعة ، وذلك جنون فرد واحد ، وسينزل على رأسك السخط والغضب إن ناقشت الجماعة في موضوع جنونها ، كما تعرض نفسك للخطر إن ناقشت الفرد المخبول في موضوع جنونه ... فانظر كم يصدر الناس في حكمهم عن الهوى . نعم هم يصدرون عن عواطفهم حين يفكرون ، ثم يقيمون الدليل العقلي بعد ذلك ، وهم يلوون هذا الدليل العقلي حيث شاءوا ، حتى يجيء مطابقًا لما أرادوا ؛ ونحن نطالبهم أن يعكسوا الوضع ، فيبدءوا بالمنطق العقلي لينتهي بهم إلى حيث يريد الله له أن ينتهي .
ولكن هذا عسير شاق ، فلنخفف الأمر بعض الشئ ، ونقول : إن غريزة الإنسان شطران ، شطر يعمل على امتداد الحياة ، حياة الفرد في شخصه أولا وفي نسله ثانيًا ، وشطر من شأنه أن يكافح الآخرين وينافسهم ليظفر لنفسه بنصيب الأسد ، وليهيئ لنفسه أسباب الأمن والنجاة ، على فرض أن غيره مصدر خطر واعتداء . . . أما الشطر الأول من الغريزة فينبع منه الحب والفن وكثير من متع الحياة ، وأما الثاني ففروعه المنافسة والوطنية والحروب . والأخلاق السائدة بيننا اليوم تقمع الجانب الأول أو تحاول أن تقمعه ، وتشجع الجانب الثاني وتستحثه وتقويه ، ولو انعكس الأمر لاهتدينا إلى الصواب ، فلنترك للغريزة أن تتصرف بطبعها فيما يمس دوام الحياة ، فليس من الخطر أن ننساق مع الغرائز والعواطف في الحب والفن ؛ ولكن (البقية على صفحة ٣٥ )
( بقية المنشور على صفحة ٢٧)
ينبغي أن يخضع للعقل وأحكامه فيما يتصل بمن نكافحهم وننافسهم . فاستلهم عاطفتك إن شئت في أصدقائك ومحبيك ، ولكني ألح في أن تحكم العقل ، والعقل وحده ، في أعدائك وكارهيك ، والعداوة قد تكون في الآراء كما تكون في الطبقات والأشخاص ؛ ابدأ منذ اليوم في أن تقف موقف الشك إزاء الآراء والأشخاص والطبقات والأمم التي لم تكن تصادف عندك القبول والرضى ، فلعلها صواب .
وأنا أدعوك إلى هذا عالمًا بما أنت ملاقيه من عقبات وصعاب ، فالإنسان بطبعه ينزع إلى إكبار نفسه ، فلن نجد بين الناس من يرتاب في قدرته وفي عراقة أصله وفي
ذكاء أبنائه إن كان له أبناء ، ثم لن تجد بين الناس من يرتاب في فضل مهنته وطبقته ، وفي سمو عشيرته وأمته ؛ بل أعم من هذا وأشمل ، بأن الإنسان لا يشك لحظة في أنه أفضل من الحيوان بعقله ، وسرعان ما يحكم على بعض فظائع الإنسان أنها " وحشية " مع أنها من أعمال الإنسان ، ثم يزعم أن الكون كله لم يخلق إلا ليهييء للإنسان سعادته ؛ فإن كان هذا رأي الإنسان في نفسه ، فعسير جدًا أن يظن بها الخطأ والضلال ، وأن يستمع للآخرين استماع العاقل العادل .
ولكن برتراند رسل لا ييأس من الإصلاح ، ويدعو إلى شيء هو سبيل الإصلاح ولا إصلاح بغيره ، وذلك أن يصطنع الناس في تفكيرهم شيئًا من الشك ليبلغوا اليقين .
