كتب أخى الدكتور طه حسين مقالا قيما فى "الثقافة" عن برجسون الفيلسوف اليهودى الفرنسى وموقفه النبيل واعتداده بكرامة العقل ، إذ "عرضت عليه الحكومة الفرنسية القائمة فى "فيشى" أن تحفظ عليه حقوقه كاملة لما أدى إلى العلم والأدب من خدمة ، ولما بذل فيهما من جهد ؛ ولكن هذا الفيلسوف الفرنسى أبى أن يقبل ما عرضته الحكومة ، وكره أن يمتاز من هذه الكثرة الضخمة من الاسرائيليين الفرنسيين الذين حرمهم النظام الجديد فى فرنسا حقوقهم كلها أو بعضها " .
ليس بعجيب - يا أخى - أن يشعر فيلسوف كبير كبرجسون فى القرن العشرين - فى عصر سادت فيه معانى الوطنية والقومية - بارتباط الفرد بأمته ، وشدة علاقته بجنسيته ، فيرفض امتيازا يعرض عليه دون أبناء جنسه ، ويؤثر أن يحتفظ بكرامة العقل وكرامة الفلسفة .
إنما الذي يدعو إلى العجب والإعجاب حقا أن يستولى هذا الشعور على امرأة بدوية أعرابية منذ أكثر من ثلاثة عشر قرنا ، فترفض منحة يمنحها خليفة المسلمين لها دون قومها ، وتزيد على برجسون فى تلميحها أنها لو قبلتها لكان ذلك عار الدهر وخزى الأبد .
إنها "سودة بنت عمارة " من قبيلة يمنية مشهورة اسمها همدان ، كانت تسكن شمالى صنعاء ، تأخر إسلامهم إلى عام الوفود ، فأوفدوا وفدا منهم إلى النبى (ص) ، فلقوه عند رجوعه من تبوك ، ببردهم اليمنية ، وعمائمهم العدنية ، على مهاربهم الأوجية ، وارتجزوا بين يدى الرسول رجزا يعتزون فيه بهمدان ، وأنها ليس لها فى العالمين مثال ، وأنها منيع الابطال ، وعادوا إلى قومهم ، ففشا الاسلام فى ربوعهم .
فلما كان الخلاف بين على ومعاوية ، وقفت همدان
بجانب على ، وكان منهم فى جيشه نحو اثنى عشر ألف جندى يحاربون معه فى العراق ، وكان على يعتز بهمدان ، ويعدهم قومه وحماته ، وينشد فيها :
ناديت همدان والأبواب مغلقة
ومثل همدان سنى(١) فتحة الباب
كالهندوانى لم تغلل مضاربه
وجه جميل وقلب غير وجاب
وكانت صاحبتنا هذه "سودة" قد منحت لسانا مبينا وقلبا لا يهاب ، آمنت بحق على فى الخلافة ، فوقفت تحرض قومها ، وتستخرج شجاعتهم ، وتثير حماستهم ، بالشعر حينا ، وبالنثر حينا ، فتقول لأخيها :
شمر كفعل أبيك يا ابن عمارة
يوم الطعان وملتقى الأقران
وانصر عليا والحسين ورهطه
واقصد لهند وابيها بهوان
فقد الجيوش وسر أمام لوائه
قدما بأبيض صارم وسنان
لقد انتهت الحروب بين على ومعاوية ، وقتل على ، واستتب الأمر لمعاوية ، ونعم بالملك وأبهته وعظمته ، وكان يستعيد من آن لآن ذكر ما كان ، فكان يسره ، أن يداعب أنصار على ويهيج أشجانهم ، ويعتز بحلمه ، وينمرهم بفضله ، ويعطف قلوبهم ، ويتألف نفوسهم ! وكان أكثر ما يعجبه من ذلك سيدات القبائل اللائى وقفن فى قومهن يحرضن ويشجعن ، ويخطبن ويشعرن ، أمثال بكارة الهلالية والزرقاء الهمدانية ، وأم سنان المذحجية ، ودار مية الحجونية ، فكان يبعث إليهن احيانا يستعذب
حديثهن ويسر بحوارهن ، ويأنس بفصاحتهن وحسن بيانهن ! واحيانا ينتهز فرصة مجيئهن لحاجة عرضت لهن ، فيتظاهر بمظهر المتشفى منهن ، إذ احتجن إليه بعد التأليب عليه ، ليتدفقن فى الحديث الرائع ، والقول الممتع ، والبديهة الحاضرة ، والجواب المسكت .
كانت صاحبتنا سودة من هذا القبيل ، عرضت لها حاجة مما يعرض للناس ، ولم تجد لها حلا إلا أن تلجأ إلى معاوية . لو كانت حاجتها فقرها لهان الأمر ، ولاحتملته فى صبر ، ولم تبذل وجهها لعدوها ؛ ولكنها حاجتها وحاجة قومها ، فإن صبرت على نفسها فإنها لا تستطيع الصبر على محنة أهلها . هذا ابن أرطاة واليهم من قبل معاوية يظلمهم وباخذ اموالهم ؛ والسكوت عن الظلم مذلة ، والثورة عليه لا تنجح ، إذ لم تتم وسائلها ، ورجاء معاوية أمر يفيض إلى النفس مشعر بالذل ، ولكن لا بد مما ليس منه بد ، فلأذهب إليه ، ولأ كلمه فى غير وهن ولا استخذاء ، ولأصارحه القول فى غير رجاء ولأكلمه بنفس اللسان الذى كنت أؤلب به الناس عليه ، فأكون قد أدركت حاجتى ، وحفظت كرامتى .
هيا إلى معاوية ! - السلام عليك يا أمير المؤمنين ! - وعليك السلام يا ابنة الأشتر . كيف أنت ؟ - بخير يا أمير المؤمنين ! - ألست الجادة فى تحريض قومك ؟ - دع تذكار ما قد نسى . - قد فعلت ، فقولى حاجتك . - هذا "ابن أرطاة" قدم بلادى من قبلك ، فحصدنا حصاد السنبل ، وداسنا دياس البقر ، وسامنا الخسيسة ، وسألنا الجليلة ، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة ؛ فاما عزلته فشكرناك ، وإما لا فعرفناك .
- إياى تهددين ؟
- رحم الله عليا ! أتيته مرة فى مثل هذا فبكى وقال : اللهم إنى لم آمرهم بظلم خلقك ، ولا ترك حقك ، وأخرج من جيبه قطعة من جراب فكتب بعزله !
سكت معاوية برهة ثم قال : اكتبوا بالانصاف لها والعدل عليها .
سكتت سودة برهة كالتى سكتها معاوية ، ولكن كان موضع تفكيرها هذه الضمائر "لها" و "عليها" ماذا يقصد بلها وبعليها ؟ أأراد شخصى ؟ أظن أن ذلك يسرنى ؟ ثم انفجرت سائلة : - ألى خاصة أم لقومى عامة ؟ - وما أنت وغيرك ؟ - هى والله - إذا - الفحشاء واللؤم ، إن كان عدلا شاملا ، وإلا وسعنى ما وسع قومى(١) . - اكتبوا لها - إذا - بحاجتها .
إن كان رفض "برجسون" كرامة العقل ، فرد "سودة " كرامة الطبع ، بل إن فى سلوكها خير مصداق لفلسفة "برجسون" إذ أشاد بقيمة الطبع أو الفطرة أو " اللقانة " أو ما شئت فسمه ، ورفع شأنه على شأن العقل . وكم راعنا البدو بحكمهم أكثر مما راعنا فلاسفة اليونان بفلسفتهم . تلك هبة الفطرة ، وجريان السليفة ، وسلامة الطبع ، ولطف البديهة ، وهذه إعمال الفكر وأناة التروى وجهد العقل ، ونتاج الاجيال ومولد الحضارة ؛ تلك معجزة الطبيعة كالماء يخرج من صخر ، والنار تنبعث من شجر أخضر ، واللبن من بين فرث ودم ، وهذه مألوف العادة كالعلم من عالم ، والماء من نهر ، والتمرة من شجرة ؛ وفى كل فضل ، ولكن الروعة للأول . والعجب إنما يكون من غير المألوف ،
