الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 345الرجوع إلى "الثقافة"

بطلان المجد

Share

كنت أركب في مركبة عامة وكان يركب قريبا مني جماعة من الأجانب سمعتهم يتكلمون الإيطالية وهم يضحكون ويتحدث بعضهم إلى بعض أحاديث خالية من الكلفة ، وليس عليها مسحة من الحزن . فعجبت أن يكون في الإيطاليين من يحسون ميلا إلى الضحك ، أو من يجدون في قلوبهم فراغا للسمر العذب أو للأحاديث السهلة المتعة ، وجعلت أستعيد ذكري الحوادث الحربية والسياسية التي خاضتها إيطاليا في هذه السنوات الست الماضية ، وأصور لنفسي ما كان ينبغي ان يملأ قلب كل إيطالي من الشعور بالحنق  وكراهة الحياة ، وما زلت أقلب هذه الأفكار حتي كنت أقرب من نهاية رحلتي ، ثم حدث بعض ما يحدث أحيانا في مثل هذه الأحوال فيحمل الجلوس على أن يتبادلوا الاحاديث ، فتعهد السبيل إلي شئ من المجاملة بيني وبين هؤلاء الإيطاليين ، ثم انطلق الحديث بيننا فشعرت بشيء من الجرأة علي ان اسألهم اسئلة تكشف لي عن شيء من خبايا نفوسهم . فما كان اشد عجبى إذ علمت انهم من صميم الإيطاليين ، وأنهم مع ذلك يذكرون الحوادث التي مرت ببلادهم بغير ان يحسوا بأسا او حنقا ، وأنهم يرون أن الحياة هي الحياة رغم كل الهزائم التي أصبيت بها بلادهم !

لقد كان هؤلاء يسمعون زعيمهم موسوليني وهو يخطب في حماسة يبشر الإيطاليين بسيادة العالم  ويدعوهم إلى خوض غمار الحرب في سبيل العظمة ، وكانوا احيانا تجرفهم الحماسة ، وتخلب الألفاظ ألبابهم ، ولكنهم كانوا مع ذلك بشرا لا يعبأون بشيء اكثر من الحياة نفسها فلما أصيبت بلادهم بالهزيمة ، وأخلفهم موسوليني ما وعدهم من السلطان والسيادة وطاح ما بشرهم به من المجد والنصر ، لم يزد شعورهم على لفتة ساخرة إلى الوراء ثم انصرفوا إلى أنفسهم لا يعبأون بشئ أكثر من الحياة نفسها . وها هم هؤلاء يسمرون ويضحكون ويتحدث بعضهم إلى بعض

كأن الحرب لم تفتك بأحد ، وكأن الضجة العنيفة التي آثارها موسوليني لم تنته إلي سكون موحش تحف به آثار الدمار من كل جوانبه

ولقد حملني هذا الحديث على أن أتأمل أحوال الشعب الألماني الذي نسمع اليوم عنه ما نسمع من جوع وعري والذي يصف الواصفون ما يعاني من آلام ومن اضطراب . فهذا الشعب الألماني اليوم لا يمتنع عن مؤاخاة الشعوب التي قهرته - فقد صدرت الاوامر إلي جنود الخلفاء الغربيين مرة أن يتجنبوا مؤاخاته ، ثم صدرت الأوامر أخيرا برفع الحظر وإباحة تلك المؤاخاة . ولا شك أن هذا الحظر الأول ، وهذه الاباحة الأخيرة يدلان معا على وجود رغبة التأخي بين الألمان وبين غزاتهم الذين قهروهم . وكيف يكون المنع إذا لم توجد الرغبة ؟ ثم كيف تكون الإباحة إذا لم يشعر قواد الجنود بالرغبة في المؤاخاة ؟ إنني لا أكاد أشك في أن هذه اللحظة التي أكتب فيها هذه الكلمات تشهد ألوفا من جنود الحلفاء يسيرون جنبا إلي جنب مع فتيات من الأنانيات يبادلونهن التحية والمجاملة أو ما هو أكثر من التحية والمجاملة . ولست أشك في أنه لن يمضي وقت طويل حتي تعود المودة بين الشعب المقهور وسائر الشعوب التي غلبته ويتبادل الجميع الخدمات ، وتعود قافلة الحياة تسير نحو غايتها تضم الجميع

وإذا فما الذي دعا إلي كل هذه العاصفة التي اجتاحت الأرض ست سنوات طوال ملأي بالآلام والكوارث وزعت فيها النكبات على الناس توزيعا شاملا وصرفت فيها الأموال والجهود في سبيل التدمير وإعداد عدة الموت ؟ وإذا فما الذي آثار العداوات وملأ القلوب أحقادا ، وأحال الانسانية إلي غاية تعج بالوحوش ؟

إذا هما رجلان سوف تشير إليهما الإنسانية إلي الأبد ببنان الزراية واللوم ، وهما هتلر وموسولينى . وأما ملايين الإيطاليين والالمانين فانهم لا يزيدون ولا ينقصون عن سائر هذه البشرية ، لا يعبأون بشئ أ كثر مما يعبأون بالحياة

كان موسوليني يعد الإيطاليين العظمة . فهل كانت تلك العظمة السياسية تفسح لهم ميادين السعادة ؟ وكان هتار يحرم قومه السعادة في سبيل إمداد الدبابات والمدافع فهل كان يعوضهم شيئا من تلك السعادة المفقودة إذا هو أخضع بولونيا لحكمه أو فتح بلاد البلقان ؟

لقد دلت تجارب الماضي على أن عظمة الدولة إذا قامت على الفتوح لا تزيد في سعادة الناس شيئا ، فإن البؤس لم يمتنع عن الروم عندما كانت دولة الرومان تشمل كل أرض العالم المعروف ، وإن الشعب العربي لم يكن خاليا من الشقاء عندما كانت دولة العرب تمتد من أكناف الهند إلي شواطئ الاطلنطيق . وما عظمة الفتوح إلا خدعة من أباطيل الغرور ، وما أحري الإنسانية ان تجعل قبلتها في الحياة سعادة الأفراد لا تحقيق المجد المزيف القائم على الكبرياء

كان العالم القديم أكثر حكمة وأقرب إلي الإنسانية عندما كانت الدول تفتح أبوابها لتبادل المنافع والخدمات ، فقد كانت الهند تتلقي تجار العرب وتدفع إليهم بهارها ، وكانت شعوب الشمال تأتي بالفراء عند شواطئ الأنهار فتلقيها عليها وتجد الأثمان على الأرض معروضة . فإذا أعجبتها تركت فراءها لكي يعود التجار فيحملوها كان العالم القديم أكثر حكمة حتى اتي الغرب بسياسة جديدة تقصد إلي الاستثمار والإذلال وجعل السيادة مطية للتجارة والصناعة . فمنذ ذلك الحين صارت معاملات الدول قائمة على مبادئ الخداع والقهر والقرصنة ، وصارت الأنانية هي الدافع الأول الذي لا يعرف الأعتدال

فإذا كان هتلر وموسوليني قد أوقعا بالعالم تلك الكوارث بغير جدوي ، فانهم تلاميذ سياسة الانانية التي سادت العالم كله منذ عرف الاستعمار .

ولا تحسب هذا العالم يعود إلي الاستقرار أو يعرف السعادة إلا إذا شكلت سياسة الدول الكبرى تشكيلا جديدا أساسه فتح الأبواب وتبادل الخدمات

لقد آن للانسانية ان تعرف ان سياسة الاحقاد التي

آثارها هتلر وموسوليني إنما هي سياسة مجد باطل وكبرياء شوهاء . لقد آن لها أن تعرف أن سعادة الأمم لا تستلزم بسط سلطان الجيوش على اطراف الأرض ، فان الملايين قد تسعد بغير المجد الحربي وقد تشقي تلك الملايين في ظل المجد المزيف وسلطان الدولة الخداع . وما جدوي سلطان الجيوش إذا كانت الملايين تشقي تحت جناحيه ولا يجني منه الفائدة إلا أفراد من أصحاب الكبرياء ؟

هؤلاء هم ساسة الدول يجتمعون في مكان بعد مكان يلتمسون الحلول ويحاولون تسوية الأمور بغية الخلاص من الكروب والويلات ، وما اجدرهم بأن يفكروا في أمر  واحد لو استطاعوه لكان فيه حل لكل المشكلات ، وذلك أن يفتحوا أبواب بلادهم على مصراعيها للجميع ويحلوا الشعوب جميعا من سيادتهم فلا يبقى بين الأمم رباط إلا تبادل المنافع والخدمات ، فمن عنده العلم افاد ومن عنده الزرع جعله وقفا على الجميع ومن كانت في ارضه الخبرات بذلها لكل من استطاع أن يجني منها خيرا . كل يعطي نظير ما يأخذ ، ويأخذ نظير ما يعطي . ولو توخي الساسة العدالة في تقدير قيم الأشياء ، وجعلوا تبادل المنافع هو قصد مؤتمراتهم لأغناهم ذلك عن كثير من المحاورات .

وما دامت سياسة الاستعمار والسيادة قائمة فلن يعدم العالم هتلر بعد هتلر وموسوليني بعد موسوليني وإن تطاولت على الخلف الأماد

لقد خلق الله الأرض وجعلها مهياءة للحياة . والإنسان اليوم قيم في هذه الأرض ، والخيرات فيها مشاعة للجميع ، فلا ينبغي ان يستأثر بالخيرات جماعة لأنهم اقوياء ، بل  ينبغي أن يكون في الأرض متسع لكل من يستطيع ان يشارك في خدمة الإنسانية جمعاء

فلنضرب تلك الحدود التي أقيمت ، ولنفك تلك السلاسل التي قيدت بها بعض الشعوب اخواتها ، وليكن ملك الأرض مشاعا للجميع أساسه قاعدة عادلة واحدة إن الذي يستطيع أن يفيد له الحق في أن يستفيد ويفيد

اشترك في نشرتنا البريدية