شغل الخطاب الذي ألقاء هتلر أخيرا في الريخستاج حيزا كبيرا من التعليقات في مختلف البلدان؛ ولكنا نستطيع بعد ان استعرضنا جميع هذه التعليقات ان نقول إن الخطاب لم يحدث أي أثر إيجابي..
وقبل أن يلقي هتلر خطابه بأيام، ذاع حديث " الهجوم السلمي " الذي تزمع ان تقوم به المانيا لتحاول إحراز السلم، بعد ان قضت على الدولة البولونية، وحققت برنامجها في شرقي اوربا بالاتفاق مع روسيا السوفيتية؛ وقيل إن
إيطاليا قد تقوم بدور الوساطة في عرض مقترحات الصلح المنتظرة، وصرحت الحكومة البريطانية من جانبها بأنها على استعداد لبحث اية مقترحات عملية للصلح على ضوء المقاصد والغايات التي دخلت الحرب من أجلها.
ولكن هتلر لم يوفق في خطابه أي توفيق، ولم يعدل شيئا من اسلوبه المعاد الذي ألفناه منذ أعوام؛ ولم يخفف شيئا من غلوائه وغروره، وتفاخره ووعيده؛ ولم يذكر أن المانيا النازية تخوض الآن غمار حرب حياة أو موت
مع بريطانيا العظمي وفرنسا؛ ولكنه تصور أنه يقف غداة انتصاره في بولونيا، نفس الموقف الذي وقفه غداة ظفره بالاستيلاء على النمسا، ثم بالاستيلاء على تشيكوسلوفاكيا موقف الظافر الذي يملى إرادته وشروطه على أوربا والعالم.
والواقع ان هتلر كان يتمتع بمثل هذا المركز قبل نشوب الحرب، وكان إلي وقوعها يقبض بيديه على مقاليد السلم والحرب؛ ولكنه مذ اثر ان يخوض غمار الحرب، تغير الموقف، ولم يبق في وسعه او من حقه ان يسيطر على سير الكارثه التى آثارها، فيوقفها متى شاء ليفر من عواقب سياسته الاعتدائية الطائشة؛ واضحت الكلمة اليوم للذين ارغموا على خوض الحرب للدفاع عن التوازن في أوربا، وانقاذها وانقاذ أنفسهم من خطر ذلك النظام الهمجي الذي شرعه هتلر، وجعل اساسه القوة الغاشمة، وغايته استبعاد الشعوب والأمم.
وقف هتلر في الريخستاج ليبرر اعتداءه على بولونيا وتدميرها على تلك الصورة الوندالية التي اثارت اشمئزاز العالم المتمدن كله، ويصفه بأنه نصر عسكري لم يسبق له مثيل في التاريخ؛ وبدلا من ان يقدم مقترحات عملية للصلح الذي يتوق اليوم إلي إحرازه بكل ما وسع، وقف ليملى شروطا جديدة وليقدم مطالب جديدة، ويلوح بتهديدات جديدة.
وتتلخص مقترحات هتلر او شروطه الجديدة في مطالبة المانيا بالمستعمرات، وفي ضمان سلامة اوربا بتخفيض السلاح، وعقد مؤتمر دولي لبحث المشاكل الأوربية، وهذا المؤتمر لا يتنسى عقده، حسب رايه، إلا إذا وقفت الحرب. أما بولونيا، فقد أكد هتلر أنه لا يسمح لأحد بالتدخل في شأنها، وان ألمانيا وروسيا ستقومان وحدهما بتسوية جميع المسائل المتعلقة بها، وأما تشيكوسلوفاكيا فلم يذكر كلمة عن مصيرها.
وقد أثار خطاب هتلر في جميع البلدان، ولا سيما انكلترا وفرنسا، تعليقات كثيرة، ولكنها أجمعت كلها تقريبا
على ان هتلر لم يقل جديدا، ولم يقدم مقترحات تصلح البحث والمناقشة.
وذاعت قبل إلقاء الخطاب وبعده انباء كثيرة عن الدور الذي يمكن ان تقوم به إيطاليا للتوسط في الصلح؛ ولكن يلوح الان ان إيطاليا لا تفكر في القيام بمثل هذه الخطوة؛ وربما كانت عند إيطاليا مثل هذه النية من قبل، وقد بذل السنيور موسوليني في الواقع قبيل نشوب الحرب جهودا محمودة لمنع وقوعها، ولكن جهوده اصطدمت بإصرار هتلر ونزقه واندفاعه؛ والظاهر انه بعد زيارة الكونت شيانو وزير الخارجية الإيطالية لبرلين، وبعد تبين الأثر السلبي الذي مني به خطاب هتلر في انكلترا وفرنسا وفي البلدان المحايدة على السواء، لم يبق لايطاليا مطمع في نجاح اي مسعى يبذل في مثل هذه الظروف لوقف الحرب.
كذلك ليس يلوح أن أمريكا أو غيرها من الدول المحايدة على استعداد لأن تقوم بمثل هذه الوساطة ما دام هتلر متمسكا بموقفه، وما دامت السياسة النازية هي التي تسير المانيا بنفس الروح والاساليب القديمة. وقد القي الرئيس روزفلت أخيرا تصريحا قاطما بأنه لا يقبل الوساطة في حرب أوربية.
ثم إن اشارة هتلر في خطابه إلي إيطاليا تدلي بأن علائق البلدين لم تبق على ما كانت عليه من القوة، وبأن محور برلين رومة الشهير قد فقد كثيرا من اهميته بعد التطورات الدولية الأخيرة التى ترتبت على عقد التفاهم بين المانيا وروسيا السوفيتية، والتي ادت إلي قلب الأوضاع الدولية في اوربا الوسطى وفي البلقان بصورة لا تتفق مع اتجاهات السياسة الإيطالية ولا مع مصالح إيطاليا؛ ومما يلفت النظر ان هتلر قد خص روسيا هذه المرة بكل عطفه ومديحه، وتحدث عن الصداقة الروسية الالمانية بحماسة في غير موضع من خطابه. أما إيطاليا شريكته القديمة في المحور وحليفة المانيا العسكرية، فقد أشار إليها ضمن الدول
المحايدة اشارة عادية ذكر فيها أنه ليس بين البلدين اختلافات إقليمية، وأن حدودها أصبحت نهائية .
وهذه دلالة جديدة تحمل على الاعتقاد بأن إيطاليا تبتعد شيئا فشيئا عن سياسة المحور الخطرة، وتشق لنفسها طريقها الخاص، بعيدا عن المغامرات الهتلرية، وبأنها تجنح شيئا فشيئا إلي سياسة الحياد المسلح، مسترشدة قبل كل شئ بمصالحها، ومؤمنة بأن هذه المصالح لا تحقق إلا في ظل حيثتها، وحيدة البحر الأبيض المتوسط .
على انه يبدو من جهة اخرى ان هتلر قد بدا يشعر بحرج المركز الذي انساق إليه، ويشعر بنوع خاص مما تواجهه المانيا من خطورة النضال الذي تشهره عليها الإمبراطورية البريطانية إلي جانب فرنسا؛ ومهما كان في عباراته الرنانة من غرور وتفاخر، فانه توجد حقيقة بارزة، هي ان هتلر يطلب الصلح من خصومه، ويتوجه بهذا الطلب بالأخص إلي بريطانيا العظمي؛ وهو يؤمن اليوم بما لم يرد أن يؤمن به بالأمس، وهو أن السلام لا يمكن ان يسود اوربا إلا إذا عقدت المانيا السلم مع بريطانيا العظمي
وهذا هو لب المسألة كلها ؛ فقد دخلت بريطانيا العظمي الحرب بعد ان ترددت طويلا في إعلانها ، وبعد ان اتاحت بترددها فرصا ذهبية لهتلر ليفرض على أوربا ، الوسطى سلطانه ؛ ولم تدخل الحرب إلا بعد ان استنفدت كل الوسائل لاجتنابها ؛ وقد كانت الحكومة البريطانية صريحة في تحديد الغاية التي حملتها أخيرا علي خوض غمار الحرب ، وهي القضاء على نظام الأرهاب الذي فرضه هتلر على أوربا ، والوفاء ، يتعهدانها للامم التي تعهدت بضمان استقلالها وفي مقدمتها بولونيا ؛ ويجب ان نضيف إلى ذلك ان نظام الارهاب الهتلري بما يحمله من المشاريع والمطامع الجنونية في القضاء على الامبراطوريات القديمة ، وتقسيم العالم من جديد ، وانتهاب ثروات الغير ، إنما هو خطر مباشر على بريطانيا العظمي وفرنسا ذاتهما ؛ وقد تحركت قوي
فرنسا ، وقوي الامبراطورية البريطانية كلها للقضاء على هذا الخطر ؛ ومن الصعب أن نتصور ، كيف يمكن ان تقبل الدولتان الديمقراطيتان الكبيرتان صلحا لا يحقق الغاية الجوهرية التي أرغمتا على خوض الحرب من أجلها .
وفي خطاب المسيو دالادبيه رئيس الوزارة الفرنسية الذي القاه ردا على خطاب هتلر ما يوضح بجلاء موقف الدولتين الديمقراطيتين من مسألة السلم الذي يطلبه المستشار الالماني ، فالسيو دالادبيه يصف هذا السلم " بأنه سلم يرمي إلى إقرار فتوحات الخداع والعنف ولن يحول دون إعداد فتوحات اخرى ، وبأن خطاب هتلر يمكن تلخيصه فيما يأتي " لقد سحقت بولونيا فلنكف إذا عن القتال ، ولتعقد مؤتمرا لإثبات فتوحاتي وتنظيم السلام " .
وأقوال رئيس الوزارة الفرنسية قاطعة في رفض فرنسا المطلق لما يقترحه المستشار الالماني . وقد جاءت تصريحات مستر تشمبرلن باسم الحكومة البريطانية في مجلس العموم مطابقة في روحها ومبناها لتصريحات مسيو دالادبيه ، فانكلترا مثل فرنسا ترفض إقرار الاعتداء ولا تثق بأقوال هتلر ولا تقبل سلما لا يقوم على ضمانات عملية صريحة
ثم إن شعور الارتياح الذي اثارته تصريحات مسيو دالادبيه ومستر تشميران في البلدان المحايدة يدل دلالة واضحة على ان المانيا الهتلرية لا تتمتع في محاولتها الخادعة بعطف ما .
والخلاصة أنه لا توجد بارقة أمل في نجاح هذه المحاولة الآلمانية لعقد صلح ما دام هتلر مصرا على إعدام بولونيا ومحوها نهائيا من خريطة اوربا ؛ ومن جهة اخرى فهناك مسألة جوهرية لا تستطيع إنكلترا وفرنسا إغفالها، وهي مسألة الضمانات ؟ فهتلر قد دل بسياسته وتصرفاته كلها على أنه يتبع سياسة غادرة لا ذمام لها ، وانه لا يؤتمن على عهد أو ميثاق ، وقد نقض جميع العهود والمواثيق التي قطعها ؛ واضحي من المحقق ان السياسة المكيافياية هي قاعدة النظام الهتلرى ، التى يستمد منها وجوده وحياته ؟ وهذا ايضا من ( البقية على الصفحة التالية )
الأسباب التي تحمل انكلترا وفرنسا علي الكفاح للقضاء على هذا النظام ؛ ومن المشكوك فيه ان تقدم الدولتان على التعاقد مرة اخري مع حكومة تقوم على هذا النظام الغادر ، قبل التحقق من الحصول علي ضمانات وثيقة محول دون تكرار مأساة تشيكوسلوفاكيا أو بولونيا .
