في مثل هذا اليوم منذ عام كان مولد طفل وإنه ولدي .
ها هو ذا بين يدي السلاعة ، لم يزد على ما كان يوم رأيته لأول مرة ، إلا بضعة أرطال من اللحم ، وبعض شعاعات من لمح العين ، وطائفة من الخواطر والذكريات تهمس بين نفسه ونفسي ، وتصطرع بين نظرة منه ونظرة منى
في مثل هذا اليوم منذ عام تلقيته لأول مرة من يدي حاضنته ، صامتين لم انبس ولم تنبس ، مطرفين ثم أسأل ولم يجيب .
وخلوت إليه أحاول أن استنبئه فلم ينبئ ، وأدنى وجها من وجه احاول أن ألمس انفاسه فلم يلمسني ، وشددت بدي عليه أحاول ان ابكية ليفتح عينيه فلم يبك ولم يفتح عينيه أكان يدري ان الصورة التي ضم عليها أجفانه لن تتراءى له بعد فأمسكها أن تفلت وأغمض عينيه ؟ ياليته ولكنه لم يرها ، وأحسبها لم تره لذلك ، فقد نفخت فيه آخر انفاسها وذهبت مغمضة العينين إلي غير معاد ، وخرج إلي الدنيا بلا أم ؛ ما حاجته بعد إلي أن ينظر ويري ؟ .
تعالى إلي يا ولدي ! إنني أنا أبوك وأمك منذ الساعة إن كان لكل طفل في الحياة أب وأم !
ووضعته بيدي في مهده الاول ، وجثوت إلي جانبه أبكي بلا دموع ، وكانت الريح تعصف ، والدار خالية إلا من طفل جائع ، وأب سقيم ، وذكري أم
كذلك كانت حفلة استقباله منذ عام ، واليوم عيد مولده
وليد بلا أم ، كالمسيح : خرج إلي الدنيا بلا أب ، ولكن المسيح وجد ثديا يدر ، وصدرا يحنو ، وقلبا لا تشغله الذكريات عن خفقات الحنان والحب !
وسمعته يبكي لأول مرة ، وفتح عينيه ثم أغمضهما وشدد قبضتيه علي صدغيه ؛ أ كان يأمل ان يري شخصا غير من رأي فاختصر النظرة ؟ فهيهات هيهات ! لقد ذهبت " تلك فلن تعود
وترادفت عليه المراضع من " أمهات السوق ووجد الدر ولم يجد الصدر فعاف الرضاعة ؛ وبكي ، بلا صوت ولا دموع وذوي ، ولا حان ولا عاطف ؛ ولزم الصمت أسابيع ، لا يبكي ولا يتململ ، إلا نظرة خرساء ليس لها همس ، عجماء ليس لها معني ، بلهاء ليس لها حس ولا عاطفة !
ليس هذا الذي أراه طفلا من بني آدم ، إن هو فيما يبدو لعيني إلا صورة مصغرة من " إنسان صناعي " خلقه كيميائي بارع يتحدي القدرة البارئة ، خرج من " مصنعه " جسم إنسان في حركة آلة ، ثم لا شئ بعد من إنسانية الإنسان أو من طبيعة الكائن الحي !
واجتمع بعد شتات ما بقي من اشلاء ، الاسرة المحطمة ، وسعت الصغيرتان حول مهاد أخيهما ، واحدة تدرج ، وواحدة تحبو وسألت كبراهما : من هذا يا أبي ؟ . . وعيت بالجواب
لقد مضت أسابيع مند كان ما كان ، ولكني لم أحاول يوما أن أسأل نفس : من هذا الذي أري ؟
أذلك ولدي الذي لبثت سنوات وسنوات اهتف به في يقظتي وفي أحلامي وأسأل : " أين أنتم يا أحبائي ؟ " ( ١)
ولكني لم أتخيل قط في بقظة أو في منام أن يكون ذلك الذي كان ، بلي إنه ولدي ، ولكن اين
مني مكانه ولا أم ؟ . . وهل تري الأب ولده أول ما يراه إلا في عيني امه ؟ فأين منى ؟ وهل تكون سعادة الأباء بالإبناء إلا ان تتمثل صورتها في مرآة اربع أعين ؟ .
أذلك ولدي ؟ نعم فأين صوته في نفسى ؟ وأين صورته في مرآة قلبي
أئنه لكذالك ؟ فمنذا يهمس في أذني بأماني غده ، ويلاحظي في تخيل مستقبله ، ويشاركني في النظرة إليه ، ويباريني في العطف عليه ، ويذكرني كلما نسيت أن لي ولدا وأنني أبوه ؟ .
ماذا من الفرق بين أبوة الأب وإنسانية الإنسان في العطف والمحبة ؟ . . أيزعم أحد أنه يدري ؟ . .
هنا رجل وطفل ، وهناك رجل وطفله ، كلا الرجلين عطوف محب حسن الرعية لمن ولي امر ، فما اشبه شيئا من احدهما بشيء من صاحبه ، ولكن احدهما اب والآخر إنسان ؛ فما ابعد الفرق بين عطف وعطف وبين محبة ومحبة وإن تساوي الأثر والنتيجة في رأي العين .
إن ثمة شيئا عظيما يفرق بين معني ومعني وبين صورة وصورة ، شيئا يحسه القلب ولا تراه العين ، وإن فيه لمفتاح السر الأعظم المغلق عليه قلب كل رجل وامرأة لا يفتحه شيء غيره ، وإن فيه لمفتاح السر الأعظم الذي انطوت عليه حكمة الزواج !
وإنني مع ذلك ليخيل إلي بإزاء هذا الطفل أني رجل غير أبيه ؛ بلي ، إن له على حقا ، وإنني لأحمل همه وأرعاه رعية كل ذي ولد لولده ، ولكن اه ! مالي وإياه لا نلتقي في نظرة إلا ارتد بصري إلي الماضي في لهفة وحنين وارتد بصره ، ولا يخطر في نفسي مرة دافعته خواطري المتزاحمة فأبعدته عني ؟ . اهي وحشة البأس أم ومضة السر الذي كان مغلقا فانفتح بابه على الموماة والسراب
ليتني أدري ! ولكنه ولدي !
إنه أخوك يا ابنتي فكوني له أما صغيرة !
وشب الطفل علي يدي واستدار العام ، هذا عيد مولده وإنه يوم الحداد
وكما تلقيته من يدي حاضنتة أول يوم والريح تنوح والجو عاصف تناولتنا اليوم بين يدي وفي قلبي مثل زفيف العاصفة من لوعة الذكري
آه يا بني ! انظر إلي طويلا ، إنني أنا أبوك
مالك تحول عينيك إلي بعيد كأنما تنتطر مقدم أحد يتلقاك بين يديه مهنئا بالعيد ؟ إن الذي تنتظره يا بني أن يعود ! . . أم تري عينيك الصافيتين تريان ما لا أري وتكشفان لك عما وراء الغيب فأنت ناعم بما هنالك ونحن في الحرمان ؟
أضحك واملأ الدنيا حولك زياطا ومرحا ، أو لا فابك وأملأها صراخا وندبا ؛ ما أنت إلا أنت ؛ طفل بلا أم في عيد مولده الاول ؛ فالتمس لنفسك ما شئت من اسباب المسرة أو أسباب المساءة ؛ لقد اقترنت في حياتك ذكري بذكري ؛ فاحتفل بعيد الحياة أو بذكري الموت ، ما شئت منهما ، ولكن لا تسألني شيئا ، لقد مات في نفس ابيك منذ ذلك اليوم القريب كل معاني السرور والالم فما له فرحة بعد ولا فرحة ولا هو يملك من أسبابهما شيئا
اضحك أو ابك فإنما الحياة هذان ولا شئ غير هذين ، وإنها بهذين لخدعة وأضحوكة ساخرة وحباله صائد !
لا تحترس من شئ ولا يخش شيئا ولا تؤمل في شيء ؛ فانما الاحتراس والخشية والأمل ، كل ذلك اضاحيك يسخر بها القدر من الإنسان الحي حين يتوهم ان له في الحياة إرادة !
الاحتراس والخشية والأمل ؛ الماضي والحاضر والمنتظر العدة والوسيلة والغاية : كل هذه أسماء سماها
الناس بلا مسمى ، ليعيشوا على التوهم حينا ثم يموتوا ، وما بشئ من ذلك كانت حياتهم ولا كان الموت ، ولكن بالقدر المقدور منذ الأزل في صفحة الغيب
أتراك وعيت هذا الكلام يا بني أو لم تعه ؟ ولكني لا أريد لك أن تعيه ، فإنما هو حديثي إلي نفسى وإن أمامك الحياة فخذ منها ما شئت ودع وكن انت كما تريد لنفسك .
وددت لو كان حديثي إليك يا بني في هذه المناسبة غير هذا الحديث ؛ وقد كنت زورت لك في نفسي كلاما غير هذا منذ سنين ، فأين هو مني الساعة ؟ . . ولكن أين أنا من نفسي الساعة :
وكنت يوم رأيتيك يا بني في أحلامي منذ سنين - قد رأيت لك صورة غير هذه التي أري ، وكانت من خداع المنى ، فاليوم تتراءي لي هذه الصورة وقد غاب نصفها في التراب فتجد لي ذكري ، وما اطيق ان احدثك ، ولكن صفحات غير هذه الصفحات ستعرفك كيف كان أبوك لك وأنت ما تزال بعد أمنية تختلج في صدر فتى وفتاة ضربت التقاليد بينهما الحجاب بضعة عشر عاما قبل أن يلتقيا ، ثم ما كادا يلتقيان حتي افترقا إلي غير لقاء
ذانك أمك وأبوك ؛ فإذا قدر لك يوما في الحياة ان تجد بعد حرمان فاحرص على الاجتماع عما وجدت وأشعر نفسك لذته قبل أن تفقد اسبابه ، ودع الغد انه بحكم فيه بما هو مقدور في لوح الغيب ؛ إن الجدة بعد الحرمان أذان لمن يعي بأن وراءها الحرمان الأبدي الذي لا ينتهي !
لقد حدثتك طويلا يا بني ولم أقل شيئا ؛ وما أريد أن أطوي عنك في هذه المناسبة من خبري شيئا ؛ ولكن
أمرا ذا بال يحبسني عن الكلام .
إنني علي موعدة غالية ، إنني ذاهب الساعة إلي ذلك الملتقي القريب الثاني . . لأحدثها حديثا من حديثي ، وأحسبها تنتظر ، ولعلني أعود . .
