الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 209الرجوع إلى "الثقافة"

بعض مناهج الدراسة الأدبية

Share

-٣-

إن خير زاد يتزوده دارس الأدب وناقده بعد الثقافة الضرورية في نصوص الأدب شعره ونثره وقصصه ، وبعد الإلمام بالفروع المعروفة عندنا في مناهج الأدب قدر صالح من دراسات علم الجمال نظرية وتجريبية ، وقدر من الثقافة الفنية التي يشترك فيها الأديب والمصور والموسيقى والمثال . ولكن علم الذوق في عصرنا الحاضر أصبح جزءا من دراسة أوسع طبعت بطابعها القرن الذي نعيش

فيه ، هي دراسة السلوك الإنساني في نواحيه العقلية ؛ أي دراسة المواهب الفطرية والمكتسبة في الإنسان ؛ دراسة العناصر التى تتألف منها شخصيته من غرائر وانفعالات وعواطف وإرادة ومزاج وذهن وذكاء وتفكير ، دراسة الأصناف الإنسانية العامة التي ينتمي إليها هذا الفرد أو ذاك ؛ دراسة العقل الواعي والعقل الباطن وأثر كل منهما في الحياة والفكر والفن والدين والاجتماع ؛ دراسة الإنتاج

الفكري وصلته بمنشئه ، ثم مسالكه إلي قلوب دارسيه ومتذوقيه . وبعبارة أخصر أصبح علم الجمال جزءا من علم أوسع هو علم النفس ، الذي شهدت الخمسون سنة الأخيرة نهضة شاملة في طرق دراسته ونتائجه وميادين تطبيقه والذي تناوله الباحثون من وجهات نظرهم المختلفة كل يستمد من معينه زادا لصناعته وثقافته : فهذا مرب وذاك طبيب ، وهذا مشرع وذاك سياسي ، وهذا شاعر وذاك

روائي ، وأصبحنا نري مئات المؤلفات تؤلف عن سيكلوجية الفن والدين والسياسة والحرب والجنس والأدب ... ورأينا النقاد - على الخصوص - وقد فتحت لهم دراسات الإنسان أبوابا ومنافذ إلي فهم شعره ورواياته و إنتاجه ، فراحوا ينادون بضرورة الانتفاع بالدراسات السيكلوجية في فهم الفن والأدب ؛ وهم في ذلك بين قاصد

وغال : فمناد ينادي بضرورة بناء النقد علي قوانين السيكلوجيا ؛ وآخر يستعمل الطرق السيكلوجية في دراسة التأثير الأدبى في نفوس الجمهور ؛ وثالث يحذر من تحويل النقد إلي دراسات نفسانية ، ويكتفى من علم النفس بأن يحدد له ما يستعمله من تصورات كالطبع والذوق والذكاء والإيحاء ، وبأن يجلى له أثر العقل واعيه وباطنه في إنتاج الأدباء

كل ناحية من هذه النواحي التي ذكرتها عنوان لدراسات ومؤلفات مشهورة في أوربا وأمريكا ، يعرفها لا المتخصصون فحسب ولكن جمهرة المثقفين هناك ، ويلعب الراديو والصحف والمؤتمرات والمحاضرات العامة دورا كبيرا في نشر هذه الثقافة السيكلوجية عندهم ، وكما يقولون : " لا شئ ينجح مثل النجاح " ، فقد جاءت النتائج العملية لهذه البحوث في مختلف نواحيها مشجعة على تثبيت أقدامها وجذب الناس إليها . ويكفي أن نذكر

هنا على سبيل المثال بعض الأسماء البارزة في دراسات سيكلوجية الفن والأدب : فقد ألف " سبيرمان " - فيما ألف - كتابه " العقل المبدع " تناول فيه الأسس السيكلوجية للإبداع الفني ، وحلل بعض الآثار الفنية من وجهاتها النفسانية . وكتب " بونج " - فيما كتب - " الأصناف السيكلوجية " و " سيكلوجية العقل الباطن " و " الإنسان الحديث في بحثه عن روح " ،

وقد حدد في الكتاب الأول خصائص الصنفين اللذين يسميهما المنطوي والمنبسط ( أو داخلي الاتجاه وخارجي الاتجاه ) من الناس ، وما يصدر عن كل منهما عادة من فلسفة أو علم أو فن أو شعر ؛ وتناول في الثاني عناصر العقل الباطن ومسالكه والرمزية وضروبها وما يتصل بكل ذلك من الوشائح الأسرية والشعائر الدينية والمنتجات الأدبية ؛ وعقد في الثالث فصلا طريقا عن " علم النفس والأدب " حدد فيه نوع الصلة بين الناحيتين وطبقها في

بعض دراساته لأعمال " جوته " وغيره . وحاضر " برت " وآخرون علي الراديو في " كيف يعمل العقل " فتناولوا - فيما تناولوا - سيكلوجية الفن وطرائق التأثير الأدبى . ونشر " برت " وتلاميذه بحوثا في التذوق الأدبي وتطوره عند تلاميذ المدارس ، وصلاته بالمواهب الاخري كالذكاء . ونشر الكثيرون بحوثا تطبيقية تحليلية ، من أمثال " هربرت ريد " الذي يقول في مقدمة إحدي مقالاته :

" لقد كان العلم والفن دائما طريقتين مستقلتين في كشف الحقيقة وعرضها ؛ ولكن كلما نما فرغ جديد من فروع العلم يكون موضوعه العقل نشأ موقف جديد . فإن العالم لا يستطيع أن يستمر طويلا في كشف مجاهل هذه المملكة حتى يحتك بتلك المنتجات التي يخرجها العقل الإنساني ،

والتي نسميها أعمال الفن ، وحتي يضطر إلي أن يجد مكانا لتلك المنتجات ، فعلم النفس الآن يحتك مباشرة بميدان النقد الأدبي يهاجمه ويقتنص أسلابه ، ولقد كان رأيي دائما أن واجب النقد الأدبي في هذه الحالة أن يقتص لنفسه ، وأن يلتقط من علم النفس أمضي أسلحته وبهذا اقتربت شيئا فشيئا من نوع سيكلوجى من النقد الأدبي ، لأنني تأكدت أن علم النفس - ولا سيما التحليل النفسي -

يستطيع أن يمدنا بشروح لكثير من المعضلات الخاصة بشخصية الشاعر ومنهج الشعر وتذوق القصيدة " . ثم يقول : " أنا أعتقد أن النقد يجب أن يعني لا بالعمل الفني في نفسه فحسب ، ولكن بعملية الكتابة ، وبالحالة العقلية عند الكاتب إذ ينزل عليه الإلهام ، ومعنى هذا أن النقد يجب أن يعني - لا بالعمل الفني المنجز فحسب - ولكن بالعامل أيضا ... وإذا اتفقنا على هذا فلست أدري كيف يستطيع الناقد بأن يتحاشى الاعتماد على علم النفس العام " .

ولكن الدراسات النفسانية في مصر لا تزال في

مهدها، والمتخصصون فيها من ذوى المؤهلات العلمية  لا يزيدون على أصابع اليدين عدا ، وجهودهم فيها موزعة  بين تخريج المدرسين وبين الترجمة والنقل ، وقليل منهم من  حاول القيام بدراسات مصرية الصبغة ؛ ولا تزال كليتا  الآداب فى القاهرة والإسكندرية تعتبران دراسات  السيكلوجيا متممة للفلسفة وتابعة لها ؛ ولا تزال كلية

العلوم تعتبر السيكلوجية فلسفة لا تستأهل أن يتخصص فيها طالب العلم لتخصصه في البيولوجيا أو غيرها من الدراسات ، وكثير من الناس في مصر إذا سمعوا اسم علم النفس تبادر إلي أذهانهم مذهب " فرويد " في التحليل النفسي وما يتناول من الكلام علي الجنس ، أو مذهب " سبيرمان " في مقاييس الذكاء ومحاولته ان يقيس مالا يمكن قياسه ! وأن يبني علي أساس هذا القياس نتائج عملية في التعليم والتوجيه المهني .

فالناس - إذا - معذورون إذا نظروا إلي هذا العلم بعين الريبة ، والذوقيون من النقاد الناشئين معذورون إذا رأوا في إدخال هذا العلم في ميدان الأدب عبئا جديدا يثقل كاهل النقد ، بعد أن أثقلته - في نظرهم - تقسيمات " قدامة " وتحليلات " عبد القاهر " وتدقيقات " السكاكي " وتفريعات من جاء بعدهم ! وربما يميل صبرهم

فنادوا : دعونا من علمكم ونظرياتكم والذاتي والموضوعي وخذوا في الأدب فتذوقوا نصوصه وانقدوه . ولهم أحيانا منطق مسل حقا ، فهم يرفضون الاستعانة بعلم النفس في فهمهم للأدب ، ولكنهم لا يسمعون ناقدا يتناول ناحية سيكلوجية حتى تثور ثائرتهم لرأي يقوله هو عن دراسة

وتحقيق ، ويرفضونه هم على أساس الإلف والعقيدة . وإذا كتبوا في الأدب استعملوا ما شاء لهم الخيال من تصورات سيكلوجية دون ضبط أو تحديد أو رجوع إلي مصادر علم النفس . فهم في الواقع غارقون من فرعهم إلي قدمهم في

السيكلوجيا ولكنهم لا يعلمون . مثلهم كمثل "جوردان" الذي ظل يتكلم النثر أربعين سنة ولا يدري !

غير أن الدراسات العربية في كلية الآداب بالقاهرة وقفت من هذا الاتجاه الحديث الموقف الخليق بالإنصاف العلمى ، فأفسحت له مكانا في دراساتها لطلبة الشهادات العليا ، وعهدت - في سنة ١٩٣٨ - إلي الأستاذ أحمد بك أمين - ومعه كاتب هذا المقال - بإنشاء دراسة لطلبة الماجستير عنوانها " صلة علم النفس بالأدب " ، وأظهر الدكتور طه حسين بك - وكان عميد الكلية - رغبته في

أن يتتبع جهود هذه الدراسة ويقف على ما تصل إليه من نتائج . وقد بدأنا الدراسة إذ ذاك بعرض مجمل لعلم النفس الحديث ، وبينا مواطن الاتصال بينه وبين الأدب ، وحددنا بعض النواحي التي يمكن ان تؤتى فيها هذه الدراسة ثمارا طيبة : فمنها رسم صورة للشخصية الإنسانية ومنابع الإنتاج الفني فيها ، ومنها بحث مقدار الصلة بين شخصية

الأديب ومظاهر أدبه ، ومنها سيكلوجية التأثير الأدبى في النفوس ، ومنها العقل الباطن واثره في الإنتاج الروائي علي الخصوص ، ومنها الكشف عن الثروة السيكلوجية التي خلقها مؤلفو الأدب العربي ومتصوفة الإسلام ، وهكذا مما تنكشف عنه نتائج الدراسة بعد . والحق أن الكلية بهذا عبرت تعبيرا علميا عن اتجاه حقيقي موجود في الإنتاج الأدبى في مصر وفي دراساتها النقدية . والتتبع للمؤلفات التي وجه بها ( طه حسين ) حركة النقد في مصر ، ولا سيما

" حديث الأربعاء " و " مع المتنبي " و المجهود الخصب الجبار الذي بذله ( أحمد أمين ) في  " فجر الإسلام " و " ضحي الإسلام " ، وللدراسات التي قام بها ( العقاد ) عن "ابن الرومى " و " شعراء مصر وبيئاتهم " والمقالات التي نشرها ( أمين الخولي )  عن  " البلاغة وعلم النفس " ولغير هؤلاء من أدبائنا ونقادنا الحديثين - يدرك تغلغل النواحي السيكلوجية في دراسات الأدب العربي قديمه وحديثه ، بل

ضرورتها لها . وفي رأينا أنه يجدر بطلاب الأدب العربي أن يتبينوا جهود أساتذتهم ونقادهم في هذه النواحي ، وأن يجعلوا هذه الجهود موضع دراسة وتحقيق ، ويتخذوا من بعضها موضوعات لرسائلهم وبحوثهم ، شأن إخوانهم في الجامعات الأوربية الراقية ، وفي هذا مظهر من مظاهر البر بأساتيذهم ، واطراد لسير الحركة العلمية إلي الإمام

وفي عزمى إن شاء الله أن أعرض من بعض هذه الاتجاهات المعاصرة نماذج للدراسات الحديثة في الأدب ، فأصور المنهج العملي لبعض مشاهير كتابنا في نقدهم ودراساتهم للأدب ، وما وراء ذلك المنهج العملي من أساس نظري ، وما يعتمد عليه ذلك المنهج - غير الأدب - من دراسات وما يستخدمه من تصورات هي الآن أجزاء أساسية في بناء دراسات الجمال أو النفس أو الاجتماع أو غيرها من العلوم .

اشترك في نشرتنا البريدية