الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 31الرجوع إلى "الثقافة"

بلنت، Wilfrid Scawen Blunt

Share

شاعر هام بالجمال فتيا

ثم أمضي شبابه في النضال

لم يرد نعمة الحياة ، ولكن

عاش للحق ، والنهي ، والكمال

تظفر البشرية في مدى تاريخها السالف والمتلاحق ، بافراد من الخامة الممتازة ، يتألقون في قصة الدنيا الطويلة ، تألق النجوم الزهر في كبد السماء . وقد تهبهم الحياة احيانا كل ما تصبو إليه النفوس ، من كرامة النسب والجاه ، والعبقرية والثراء . ولكن أرواحهم المتعطشة

إلي فيص المثل العليا ، تزهد في نعيم الدنيا وأغراضها الزياف ، ويقطعون مرحلة العمر كفاحا عن الحق والحرية ، وتعلقا بالكمال المطلق ، ويضحون في سبيل ذلك بكل شيء ؛ فإذا ما صهر الآلم نفوسهم ، وهز الآسي أفئدتهم ، تطهرت أرواحهم ، ووجدوا في كل ذلك رضي القلب ، وراحة الضمير . ولكن الحياة ستظل دائما بخيلة بالنفوس الزكية ، والصفوة الممتازة - من هاته القلة الشاعر الانجليزى العظيم ويلفرد اسكوين بلنت .

ولد بلنت في سنة ١٨٤٠ ، من عائلة عريقة النسب ، رفيعة الجاه من عائلات مقاطعة سسكس ، وتربى تربية عالية ، درس فيها وحصل كثيرا من العلوم والفنون . فلما بلغ الثامنة عشرة اشتغل في السلك السياسي . وتنقل في ربوع الدنيا ، وعمل في السفارات بين شرقي أوربا وغربها ، ورحل إلي جنوبي أمريكا ، وقد أفاده عمله السياسي في اتصاله ورجال السياسة وأقطابها ، وأفادته تنقلاته المتعددة ، وما رأي من بلاد ، وعاشر من رجال ، فائدة عظمي ، كان لها أكبر الأثر في اتجاهات فكره ، وروح شعره ؛ ولكنه وهو الكاثوليكي المذهب ، كان حائر النفس مضطرب القلب . حاول عبثا أن يوفق ما بين الكاثوليكية وتعاليمها ونظمها ، وبين ما انتهت إليه فتوحات العلم الحديث . ولم يجده نفعا المجهود الذي بذله في القراءة والتفكير ، وفي العمل السياسي الذي كان يقوم به .

ثم لا قي  Sir Richard Francis Burton  الشاعر ، والرحالة ، واللغوي ، والمؤلف والمستشرق الانجليزي .  وسير  Burton   جاب كثيرا من بلاد الهند ، واكتشف بقاعها المجهولة ، وتنقل في أفريقيا ، واكتشف بحيرة تنجانيقا ، وخدم في السلك السياسي ، وزار مكة والمدينة ، مختفيا في ثياب الدراويش ، وكتب عنها كتابه المشهور ، " قصة حج إلي المدينة ومكة " وهو الذي ترجم كتاب " ألف ليلة وليلة " إلي الانجليزية في ستة عشر مجلدا ، وله كتب وتواليف كثيرة . نقول تصادق سير بيرتون وبلنت ، وكان بلنت يري من وراء هذه الصداقة إلي الاستفادة من علم صديقه ، ومعرفته بالعالم ، وطبائع البشر ، وقراآته المتعددة ، لعل في هدى هذا الصديق وتوجيهه ما يدخل على نفس بلنت يقين الإيمان ، والتمسك بدين من الأديان . ولكن بيرتون لم يطفىء ظمأ صديقه الروحي ، ولم يهدىء وجيب نفسه الصارخة ، وبقي حياته شاكا ، لم

ترتفع به تأملانه إلي نهى الايمان ، ولم يستقر على شىء من اليقين والاطمئنان .

في هاته الفترة ، فترة التنقلات والرحلات ، بقى الشاعر الشاب بلنت ، متأجج العواطف ، فياضها ، تتدافعه الصبابة ، " يشدو ، ويرتجل الفريض ، ويعشق " ؛ ولكنه في أعقاب سنة ١٨٦٩ وهو في التاسعة والعشرين تزوج الليدي  Anna-Noel  حفيدة الشاعر الانجليزي العظيم ، لورد بيرون ، وتخلي عن السلك السياسي ، وأخدها ورحل بها يجوب آفاق الشرق العربي ، ويضرب في أرجائه ونواحيه . يحب بقاعه ، ويفتتن بماضيه وتاريخه ، ويتشببب بأهله وأدبه .

كانت زورة بلنت وزوجه لمصر في سنة ١٨٧٥-٧٦ ، ولكنه لم يشعر وهو في مصر او في انجلترا أنه في وطنه الروحي الذي يحس فيه بالاطمئنان والسكون ، ولكن كان موطنه الروحي الذي تتعلق به نفسه ، وروحه وكيانه ، في صحارى نجد الممتدة الآفاق ، في هضابها الخضراء، ونسائمها الرقراقة  وكانت صبوات نفسه في أن يعيش عيشة البدو ، بري ببصره من وراء حدود الصحراء لعله يستشف سر الوجود الدفين ، وان يتغلغل في قلب جزيرة العرب ، فلا يجد امام ناظر يه غير الرمال والصحراء والسماء،

سكن بلنت وزوجه خارج القاهرة مع البدو . وأخذا رويدا رويدا ، يأنسان بعيشة البدو ، ويتعلقان بحريتها التي لا تفوقها في الوجود حرية ، والتي هي في روحها وأسالينها مزيج من الأرستقراطية والديمقراطية .

وفي سنة ١٨٧٨ تأهبا لرحلتهما المشهورة في قلب نجد ، وعلى الرغم مما صادفهما من الأخطار والمتاعب ، فقد تركت تلك الرحلة في عقل بلنت الشاعر أثرا بعيد المدى . فود لو أنه لاقي حتفه في تلك البقاع ، ودفن في سفح جبل شمو المتعالي الاركان ، المخضل الحوانب . بقيت تلك الرحلة

حديث بلنت وزوجه المعاد . وكأنما أراد القدر’أن يجعل من بلنت صديقاً حميما للشرق والاسلام ، فانقلب فى أعماق نفسه بدويا خالصاً ، وظل حتى آخر حياته ، وفى الوسط الانجليزى ، يرفل فى ثياب البدو الواسعة الفضفاضة.

لم تكن حياة بلنت الزوجية سعيدة الجوانب ، ولكنها كانت مشوبة بالنغائص والشقاء . فارقته زوجه بعد أمد، وتركت له فى وصيتها مفاجأة محزنة ، كأنما كتب على آل بيرون ان لا يحوط حياتهم ما يحوط حياة الناس من هناء ونعيم . وعلى الرغم مما انتهت إليه حياتهما من فراق وشقاق ، فقد قاما فى مستهل زواجهما ، بكثير من جليل الأعمال ،معآمعآ وكان لزوجه ما كان لها ، من الأخذ .بناصره ومساندته فيما كان يتعلق به ويدافع عنه . ولكنها لم تستطع فى يوم ما ، أن تحدّ من وثبات نفسه الجامحة وروحه المتعلقة بالكمال ، وكيف لهما أن يتفقا  وهو مثل للحس المرهف ، والروح العالية ، وهي كجدها لورد بيرون ، متأججة المشاعر ، متقلبة العواطف ، تتعلق بالشئ فتسجنُّ به ، ثم تنصرف عنه بغثة إلى شئ آخر ؟

استقر بلنت فى مصر بعد رحلته إلى مجسد ، وأصبح مهتما بالشؤون الاسلامية ، يؤمن بما يحتاج إليه الإسلام من نهضة ، ورجوع به إلى تعاليمه الأولى ، وأن يخلص من أو شاب الخرافات ، والمعتقدات الدخيلة ، وأخذ يعمل ويفكر لعدة سنوات مع الأعلام من رسالات المسلمين وقادة الرأى فيهم ، على تحقيق نهضة الاسلام ، تلك النهضة التى كان يرى فى تحقيقها أن يُصبح الاسلام نورَالكون ودين الجماعة البشرية ؛فألف فى ذلك كتابه المشهور (( THeFuture of Islamمستقبل الاسلام))   لم يعتنق بلنت الاسلام دينا ، فقد بقيت شكوكه الأولى هى هى ، ولكنه ظل أكثر الناس حماساً إلى الدفاع عما  فى تعاليم الاسلام من سمو وجمال.

كان بلنت يعتقد يومذاك بوجوب التفاهم والتعاون بين بريطانيا العظمى ، وبين الأمم الاسلامية . وزاد فى اعتقاده أن انجلترا يجب أن تقف بجانب الأمم الاسلامية كصديقة مخلصة لها ، بعد ما شاهد ورأى فى رحلته إلى نجد ، وفي تنقلاّته بين فارس والهند . فأنجلترا على حد قوله إن لم تنهض بهذا الواجب لخير الإسلام والأمم الاسلامية ، فقد تنهض بذلك الصفيع أمة أوربية غيرُها .

كان يعتقد أن لانجلترا رسالة إلهيةّ عالية يجب أن تؤديها فى الشرق،ولكنه بعد أن مرت به الأحداث ، ورأى اتجاهات تلك الرسالة ، قلب رأيه ، وغير معتقده . فوقف منذ سنة ١٨٨٠ إلى ما بعد ذلك ، موقفَ البعض والمداءمن الحكومة الانجليزية . لما كان لها من تصرفات أزعجت نفسه ، وألهبت فؤاده فى مصر وايرلندا ، فناصر عرابى باشا وشد أزره ، وكافح عنه كفاح المستميت ، بعلمه وشعره ، وماله ومكانته فى قومه ؛ كان فى أول الحركة العرابية المدافع عن آرائهم ، والأخذ بناصرهم ، والشارح للحكومة الإنجليزية نبيل مقاصدهم ؛ فلما لم يُجّد ذلك نفعاً عادى وزارة غلادستون ، وراشقها وراشقته . ثم جاء بالمحامين إلى عرابى باشا ، ووقف فى صفه إلى أن انتهت حركة العرابيين ، وظل حياته صديقا حميماً لهم ولذويهم . وكتب عنهم كتابه المشهور((التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر)) الذي نقله إلى العربية الأستاذ الكبير عبد القادر حمزة باشا.

كان لبلنت بعد ذلك موقف اَخر مع حكومة بلاده فى سبيل المسألة الارلندية ، وانتهى به ذلك الموقف إلى الاعتقال والسجن . ولكن السجن والاضطهاد والتشهير لم يلن من عناد ذلك الحر المتمرد ، ولم يصده عما اعتزمه من نصرة الحق والدفاع عن الحرية والتمسك بالكمال ، وذلك أنبل غايات الحياة .

سكن بلنت حين كان بمصر ، ضاحيةْ عين شمس الجميلة قريباً من دار صديقه المرحوم الامام الشيخ محمد عبده ، وأفردها فى حديقة جميلة ، كان يجتمع فى ظلالها كثير من المفكرين المصربين من سياسيين ورجال دين وأعلامْ أدب ؛ وبين جدرانها كانت تدور المناقشات’ حول موقف العرابيين والدفاع عنهم وتوجيه نشاطهم , وفي جنياتها عرفت مصر’ ، وعرف الشرق’ والاسلام ، صديقاً وفياً مخلصاً ، لم يطلب من تعلقه بكل ذلك عرضاً من أعراض الحياة ، فقد كان بلنت رفيع النسب ، موفور العلى ، تقلب في ريعان شبابه فى ارقى المناصب , وكان بين هذا وذاك علماً من أعلام الفكر والمكانةَ الأدبية فى عصره,  ولا تزال أطلال’ تلك الدار قائمةّ إلى اليوم ، يراها العابر فى بكور الربيع ، تتسلق شجيرات الجهنمية ، يزهرها الآحمر المتأجح ، حيطانها وجدرانها .

ذلك هو بلنت الرحالة ، ورجل السلك السياسى, وعاشق الحريات ، والمدافع عن الحق ، والمتعلق بالكمالِ- أما بلنت الشاعر الموهوب ، فقد ترك وراءه ديواناً فى مجلدين ضخمين ، يزخران بالشعر الرقيق ، والفكر العميق ، والطرافة والابتكار ؛ فهو فى شعراء القرن التاسع عشر الإنجليزى معدود فى طليعة الشعراء ، رقة أسلوب ، وطرافة معنى ، وسمو روح ، وطول نفس ، قال بلنت فى مقطوعة عن ((هجر صديقة حميمة)) :

لقد مات حبى رغم أنفى ، فليتنى

أقَضّى حياتى ماجناًبتمشق

وقدمات والَامالُ فيه ،كأنها

دم في عروقى ، طاهر يتدفق

وقد مات فى فصل الشتاء ، ولم أكن

لأحسبه ، كالأبك يضوى وَيَذُبّل

تساقط ، كالأغصانِ ِجف نضيرُها

وأوراُقها الصفراء ، تبلى و ُّتهّمَل

غدا ًفى الربيع الطلق ، يا قلب ُحسرةُّ

تحوم بك الأطيارُ ، والأبك ُأجردُ

وتجتازه محزونة ّفى نشيدها

تقول اليلى ،بالأبكِ أولى واحمدُ

أجل ! ليت زهر الروض والأبك والهوى

نفير ُ، ألم يأت الربيع المحبب ؟؟

وياليت ذاك الحب ، طال جنونه

ونيراَنه فى قلبها تتلهب

.

ولكن تهادى الصيف ُ، والأبك ُمحدبُ

ومن حوله الدنيا نعيم ُومورد

ومات الهوى ، والحب في رَيِعَانه

وطار بعيدآعنه،إلفُ يغرد

وكتب إلى السيدة ٠٣٨ تلك التى أحبها حبا عميقاً ، بعد أن كشفت له حبها ، وطمأنته على إخلاصها وودها ، ثم هجرته وانصرفت عنه ، فسلاها ونسيها  ((بمقطوعة أسماها(( النسيان:

أين الوفاء الحلو يسحر لبه

وحديثك المعسول فى بحواء

ولقاؤك الموعود’فى غَسق الدجى

والقبلة’الحرّى ، تَسُيلُّ صداه

وسؤالك الحيران : هل هو مخلص

أو أن كثراً في النساء ظباء؟ ؟

ومناك فى الدنيا هواء وحبُّه

لك خالص’ ، طولَ الزمان هواء

أنسيت يوم نوى الرحيل لأهله

فرجونه ، أن يستديم بقاء

أتراك ، لما إن تعلق قلبه

بهواك ، هان على وفاك وفاء

قد كان طيرك مخلصا فمنعته

روض الهوى ، فمضى إلى مغناء

الآن يلهو بالحمائم ساخرا

ويذيق صائدة القلوب جفاء

إن كنت ذاكرة ، فقد نسى الهوى

أو كنت ناسية ، فما أنساه

لم يكن بلنت مؤلفا وشاعرا ، ومجاهدا من مجاهدى الحرية ، بل كان فوق ذلك أيضا مستشرفا ، يتذوق الأدب العربى ، ويفهم روائعه ، ويعجب بما فيه من بهجة وجمال ؛ فقد أصبحت الميثالوجيا الأدبية المنتشرة بين تضاعيف شعره أغلبها عربية ، أسماؤها وأمكنها ، وأحداثها ؛ ثم تعدى ذلك إلى ترجمة المعلقات - وهى روائع الشعر الجاهلى - إلى الانجليزية ، وهى كما أظن الترجمة الثانية للمعلقات .

وهكذا يمضى بلنت فى تعريب المعلقات ، وتعريف الناطقين بالانجليزية بالأدب العربى . ومن قصائده قصيدته المشهورة ، " الريح والاعصار " وهى قصيدة سياسية ، قوية الأسلوب نارية المعنى طويلته ، نشرها في سنة ١٨٨٣ ، يندد فيها باحتلال انجلترا لمصر ، ويسخر مما تواضع عليه الساسة من تقاليد ، وحب للتوسع والاستعمار ؛ وقد أشاد فيها بمجد مصر ، وبالقوة الحيوية الكامنة فى نفوس أبنائها ، وتنبأ فيها بكثير من النبوءات السياسية التى تحقق أكثرها . وشعر بلنت جميعه لا غنى لمهذب مثقف عن قراءته والنظر فيه ؛ ففيه من جمال المعانى السامية ، والروح الانسانية

الغالية ، غداء عقلى وروحى ، لكل مفكر وأديب .

تقدمت الأيام ببلنت ، وهذه طول النزال والكفاح ، ومشت إليه الشيخوخة ، فرجع إلى أملاكه بسكس ، وقضى حياته الباقية وحيدا إلا من كتاب يقرأه ، أو صديق يتحدث إليه ، عرف إقبال الدنيا ، وحلاوة الحياة ، وجمال العواطف ، وشدة الكفاح والصراع فى سبيل الحق ، كما عرف غدر الأصدقاء ، ومرارة الأسى ، وهجر الأحباب ، وجرح فؤاده الظلم فناهضه وقاومه ؛ فلما كانت سنة ١٩٢٢ ، توفى بلنت شيخا متهدما على أعتاب الثمانين ، وأوصى أن لا تقام عليه طقوس الدفن المعهودة ، وكتب فى وصيته يقول : " يجب أن أكفن فى بساط رحلاتى الشرقى القديم ، دون أن أوضع فى صندوق من أى نوع ، وأن ألحد فى قبرى كما يلحد أبناء الصحراء " ، وهكذا خرج من الدنيا ، ومن ورائه أحدوثة حافلة بالرجولة ، وسمو الروح ، ونبل القصد ، وقد كان شعاره الذى يردده دائما :

" لا تصفو حياة إنسان إذا لم يقض عهد الشباب فى العواطف الملتهبة ، وعهد الرجولة فى النضال المتصل وعهد الشيخوخة فى الذكريات والتأمل . أما كمال الحياة ففى الأخلاص والوفاء " رحم الله بلنت رحمة واسعة ، وألحقه بالشهداء والصالحين .

اشترك في نشرتنا البريدية