الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 1الرجوع إلى "الفكر"

بمناسبة مرور ٢٣ سنة على وفاة، ابى القاسم الشابى، تذكار الاعتبار

Share

من الاشاء التى تدعو الى التعجب والاندهاش . اننى مع صلة الصداقة المتينة التى ربطتني بابى القاسم وهى صداقة اكدتها امور طبيعية كاتفاق السن والمواطنة وتعارف الاسلاف ، ومع امتداد المعاشرة بيننا بدون انقطاع ولا فتور ، ومع تقديري الذي لا يحد لعبقريته ونبوغه ، وشعورى بانه يبادلنى العطف والحب - مع هذا كله ، مضافا اليه انتحالى الشعر ومقدرتى على نظمه ، لم ارثه بقصيدة ، لا في حفلة الاربعين التى كنت انا القائم على اعدادها واخراجها ، ولا بعد مرور عام على وفاته ولا عامين ولا ثلاثة . . . . بل لم ارثه الا بعد مرور سبع سنوات بقصيدة تليت في حفلة تذكاره ثم نشرت .

ويستطيع الباحث فى هذه الظاهرة الغريبة ان يعللها مثلا بشدة وقع المصاب او بالشعور بالغربة والانفراد وفقدان النصير ، فقد كنا معشر صحابته المصريين على الوفاء له نعد على الاصابع ، وكنا نرمى بتلك الصحبة كما يرمى الرجل بالشر والمروق عن المجتمع لقوة الدعاية وخبثها وتوفر اسبابها ضدنا ، ولقد كان المرحوم محمد البشروش وهو من خواص بطانة الشابى ولازمه عند مقامه بتوزر يحدثني عن وقائع ومثل لا تقاد الفتنة ضدهما فى مدن الجريد ، منها ان بعض المتحمسين للديانة كان يتقرب الى الله بوضع نخامته فوق المقعد الذى يجلسان عليه خفية ، ثم يفاخر بعد ذلك بهذه المآثرة . . .

وهذا مثال يسجل الحالة النفسية التى كان يعيشها انصار الشابى واصدقاؤه ، فكاننا نحن الاجدر بالرثاء والتعزية منه ومن عائلته ، ولقد كان الاستاذ محمد الحليوي معبرا أصدق تعسر عن احساسنا جميعا حينما افتتح رسالته الى إثر اطلاعه على الفصل الذي نشرته لى جريدة " النهضة " فى نعى ابى القاسم وفي وصف اخر حديث لى معه وهو يحتضر فقال : " اعزيك ولا أتعزى " !

نعم ، يستطيع الباحث ان يعلل حالة الافصاء ( ١ ) تلك بما يريد ، او يتركها بدون تعليل ، فهذا هو الواقع ، غير ان مرادي من هذا ان تلك السنوات السبع كانت طويلة جافة وصفت فيها ضجرى بابيات من تلك القصيدة :

ايه ابا القاسم المتوج بالمجد     اما طال عندك الامد ؟

هل اتصلت الغداة بالملا الاعلى    وبالمورد الذي ترد ؟

هل اتصلت الغداة بالملا الاعلى     طليقة لا يعوقها الجسد ؟....

. .تمطت السبع بيننا فمشت    مملة ، كالقرون ، تتئد . .

كانها حملت صبابتنا    وآدها من فراقك الكمد . .

فاعبر مداها ، فانت طيف رؤى    لم تحوه حقبة ولا بلد

أشرق علينا - كما عهدتك - والا      كيل فوق الحبين منعقد

وانشر ضياء على شبيبتنا       وليأتها من نبوغك المدد!

ولئن كانت السنوات السبع طويلة مملة عجفاء ، فقد تضاعفت اليوم ثلاث مرات وصار يفصلنا عنه ربع قرن من الزمان ، وتلك فترة كافية لانشاء جيل كامل من بني الدنيا وقناء جيل اخر منهم ، ولقد وقع هذا بالفعل كما لا احتاج الى التاكيد . . . فقد تغير المجتمع بذهاب جيل وقدوم جيل مكانه ، وتجلى لمن يرى مبلغ التحول الذى طرأ على الافكار والنزعات والميول

ولعل ذكرى صديقى الغابر قد نالت وسعها من مظاهر التكريم والتمجيد وضربت شخصيته القوية فى انحاء دنيا العرب واقتحمت مكانها بين اهل الفكر الخالدين الابرار ، فلعل عواصف الانفعال والانبهار قد هدأت لتترك المجال البحث التاريخي الخصيب عن مدى الاثر الذى تركه الشاعر فى الشعب الذى انبثق منه . والسؤال عن تأثير الشابى على التيار الادبى وعلى اتجاهات الشعر الحديث هو الموضوع الذى يصادمنا اول شىء بعد الفراغ من حركات التمجيد والذكريات العاطفية المحضة .

والظاهر ان مرور ربع القرن كاف للفراغ من قصائد الرثاء وخطب الاشادة والفخار لننظر : ماذا ترك لنا الشابي ، ترك لنا شعره الخالد نعم ، وترك معه غير الشعر من المقاطيع النثرية البديعة التي سوف تجمع وتنشر ، وترك لنا مع هذا روحه الدافق بالحياة والشباب ، ولكنى لم أسأل من هذا ، بل أسأل عن الاثر الواضح او غير الواضح الذي يجب ان نجده في مجموع المحصول الادبى لمدى ربع قرن ببلادنا التى انجبت هذا المارد الجبار ، بل أسأل عن تلك الموجة الكاسحة التى احدثها انطلاق ابى القاسم الشابى فوق عباب زاخر من ادب التقاليد القديمة وبقايا الاحقاب البالية ونفايات القرون.

هذا سؤال له اهمية علمية وعملية عظيمة ، وله اهمية انشائية وتوجيهية اعظم فهل آن لنا ان نستبدل " لجنة ذكرى الشابى " وهى لجنة وجدت وتكررت مدى ثلاثة وعشرين عاما فى صورة واحدة ... " مملة كالقرون تتئد .." وقد تمرس بها الناس حتى صارت عادة وتقليدا متعارفا معهودا ، بل الاعجب ان موادها وخطباءها وشعراءها وحضورها ، كل ذلك كان صورة طبق الاصل من حفلة الاربعين التى وقعت عام وفاته .. نسخة ذلك كذلك ، والحمد لله على ذلك.. فهي " مناسبة تصاد وفرصة تغتنم " ليظهر هذا الشاعر وذلك الخطيب ، ويذاع الخبر والاسماء على الناس.

ولقد - والله - وقع فى حفلة الاربعين التى كنت ناموسها ان اقتحم التخت شاعر - مرحوم - عرف بمناوأته للشاب فى حياته ، اقتحم الناس وطلب مجالا ليلقي قصيدة في رثائه وتمجيده فارخي له العنان لينشد قصيدة افتتح اكثر ابياتها لقوله " يا زميلى.. يا زميلى.. " ولا حاجة للقول بان هذا السيد يعمل على توطيد اسمه ودعم عنوانه كشاعر ونابغة يدوى صوته ويذكر فى كل ناد ...

هل آن لنا ان نعوض تلك " اللجنة " التقليدية بلجنة موضوعية صامتة ، أعني مفكرة ، قوامها رجال يدرسون الاثر التوجيهى الذى احدثه الشابى فى ادب الاجيال التى توالت بعده فى المجتمع التونسى والافريقى وفي الادب العربى بصفة عامة ؟ اما ان لهذا العمل الرصين الخصيب رجالا من ادبائنا المضطلعين اليوم بالحركة الادبية والمسؤولين عن تجديد الروح الفنية في الشباب ، فذلك امر واقع لا شك فيه ، واما انا فحسبي ان احدث هؤلاء الرجال كما يقول لبيد " احاديث القرون التى مضت"... احدثهم بصفتى معاصرا لانبثاق نجم ابى القاسم.. احدثهم حديث الماضي : كيف تلقي المجتمع الادبى اوائل شعر الشابى ، وكيف كان جيل الشابى يعرف الادب والشعر وينتج الادب والشعر ...

وحينما اتحدث عن الظروف المباشرة لظهور الشابى سيعذرنى القارىء اذا انا تحدثت عن نفسى قليلا ، فهذا الحديث الذى يتعلق بى مع كونه لا ينيلنى فخارا ولا تيها ، هو مفيد لتبين الوان الطموح التى تتراءى للشباب في ذلك الزمن السحيق ... ووضعا لحوادث التاريخ فى مكانها اذكر ان للصحفى الشهير السيد الطيب ابن عيسى صاحب جريدة " الوزير " دورا مهما وان لم يكن ذا اثر عميق ، فهو قد ملا فراغا وشغل اذهانا لا يستهان بعددها .

وكما انه لكل شئ سبب ، فان سبب اضطلاع جريدة الوزير بزعامة الحركة الادبية مابين سنة ١٩٢٥ و ١٩٣٠ كان سياسيا ، وذلك لاختلاف وقع بين رجال الحركة الدستورية بزعامة الشيخ الثعالبي رحمه الله وبعد الحرب العالمية الاولى ، فهذا الشقاق اوجد تشكيلة متفرعه عن الحزب سميت " الحزب الدستورى المستقل " كان من زعمائها صاحب الوزير واخرون ، ولكن الحزب الاصلى اكتسح هذا الشق وضيق عليه الخناق ، فكانت جريدة الوزير من ضحايا ذلك الاكتساح وراى صاحبها ان يبعدها عن النطاق السياسى ووجد في طريقه شابا صغير السن ذا نشاط ادبى وفنى كبير ، وكانت ميوله تطمح الى حضور حفلات الطرب والتمثيل فتبرع للجريدة بالقيام على اشغالها من طبع وتصحيح وتحرير فى مقابل منحه بطاقات الاستدعاء المجاني الذي تتلقاه الجريدة للحفلات ، وان يحرر لها القسم الادبى والمسرحى والفنى ويكون لها " مندوبا ".

وصارت الوزير فى يوم من الايام مرآة للادب التونسى ، تظهر منها اعداد ممتازة يشارك فيها " امير الشعراء " خزنه دار وسعيد ابو بكر ومحمد الفائز القيروانى وصالح سويسى ، وهذه طبقة الكبار ، اما الصغار الناشئون فعلى رأسهم المرحوم شاعر الشباب محمود أبورقيبة وجلال الدين النقاش ومصطفى خريف ومحمد الدهمانى والهادي العبيدي الخ .

ويجدر بنا ان نتساءل : هل احدثت هذه الحركة تجديدا في اسلوب الشعر التونسى ؟ نجيب اولا بان مدارك مدير الجريدة لم تكن متعمقة فى الادب ومثال ذلك انه نشر اقتراحا ليجرى فيه مسابقة بين الشعراء ، ونشر ابياتا قديمة طلب من القراء تشطيرها وتخميسها وتسديسها وتسبيعها الى تعشيرها ... وثانيا ان الشاب المسيطر على تحرير الجريدة يشبه المدير سوى انه اصغر منه سنا ، فالاثر سلبى اذن.. ويهم على ذكر ذلك الاقتراح - ان تثبت بان الشعر التونسى اذ ذاك كان

لا يزال متأثرا في طبقاته العليا بطرق شعراء النهضة الاولين كناصف اليازجي ومحمود قابادو ، وهى طريقة العناية بالزخرف اللفظى ، وكان ادب التشطير والتخميس والتطريز والتوريخ والمعارضة سائدا تلك الاجيال حتى ان امير الشعراء خزنه دار كان يترصد للقصائد العظيمة التى تدرجها صحافة الشرق فيخمسها او يشطرها مثل قصيدة فؤاد الخطيب " الله اكبر فالظلام قد علموا " وقصيدة حافظ ابراهيم " لارعى الله عهدها من جدود " وقد ظل ذلك دأبه رحمه الله حتى شطر " البردة "

انا رجل مخضرم ، فلا تطلبوا مني السخرية بهذه المناهج ، واذا لم اشطر ولم اخمس فقد عارضت مرة او مرات ولكنى ، اذكر ان لتلك الالوان من الادب جوانب فنية لاريب فيها ، وعندها مجال للابداع والاحسان يعرفها كل منصف الا ان الذين قاموا بها فى عهود جدتها كانوا يستظهرون عليها بقوة الثقافة الادبية وسعة الاطلاع على اساليب اللغة ومعرفة اسسها القديمة ، بينما كان صغار الشبان اذا هم يتطاولون الى انتحالها لا يكادون يبدعون شيئا بسبب ضعف مداركهم في اللغة والادب على ان التهافت على التلاعب بالالفاظ غير مامون العاقبة ، فقد عثر فيه فطاحل الادب كأبى العلاء المعرى وأبى القاسم الحريرى والصفى الحلى وهم من هم في قوة الملكة والطبع الفنى ، فهل عجيب ان يخفق فيه من هم أقل منهم فضلا عن شبان صغار ضعاف المدارك والاطلاع ؟

الا انه من الانصاف للتاريخ ان نشير الى ان النزعة التجديدية فى الشعر التونسي الحديث قد سبقت ابا القاسم الشابى . وان محاولات سعيد ابى بكر ومحمد الفايز القبرواني وان لم تكن جذرية تتناول روح القصيدة واتجاه نسقها ، فقد كانت نسمات الابداع والبحث عن الجديد تخفق على ابياتها.

وظهر ابو القاسم الشابى بقصيدتين احداهما من الشعر المنشور والاخرى من المنظوم ... فكان لصداهما دوي كبير

ولقيته بمكتبة الخلدونية ، وكنا كثيرا ما نتلاقى هناك ونتصاحب عند الخروج من المطالعة ، وكان يسبقني في دروس الزيتونة

والحديث يجرى بيننا عن قصائد شعراء المهجر الامريكى العرب . واذا اسعفت الظروف فسيكون لي كلام آخر عن المجتمع الادبى بتونس اثر ظهور ابى القاسم الشابى سلام الله عليه ورضوانه

اشترك في نشرتنا البريدية