الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثاني عشرالرجوع إلى "الرسالة"

بنجن على ضفاف الرين

Share

كان ثمت جندي ملقى على الأرض فى بلاد المغرب ينتظر موته.  لم تعن به ممرضة، ولم تذرف الدمع على فقده امرأة.

ولكن عني به صديق وقف إلى جانبه وهو يلفظ النفس الأخير.  ومال على المحتضر بنظرات كلها إشفاق وحسرة ليسمع ما قد يقول.  تناول الجندي المشرف على الموت يد رفيقه وقال بصوت  متهدج مرير: لن أراك يا وطني - يا وطني العزيز بعد:  بربك خذ رسالتي وابلغها أصدقائي البعيدين كل البعد،  فقد ولدت فى بنجن - فى بنجن على ضفاف الرين!

قل لاخوتي ورفاقي عندما يحتشدون حولك،  ليسمعوا قصتي المحزنة فى مزرعة الكرم،  قل لهم إننا قاتلنا بشجاعة وإقدام، فلما انتهى اليوم كانت الجثث

مبعثرة فوق الثرى عليها صفرة الموت تحت الشمس الغاربة  وبين الموتى جنود مارست الحرب وعركتها،  صدورهم دامية من اثر الطعن،  وبعضهم صغير السن لم يلبث أن أظلم صبح حياته،  وواحد منهم من بنجن - من بنجن الجميلة على ضفاف الرين.

"قل لأمي أن اخوتي الباقين سيكونون لك خير عزاء!  قل لها لقد كنت عصفورا هائما يحسب وطنه القفص  وقد كان أبي جنديا وكنت فى طفولتي أهتز طربا عندما أسمعه  يقص عن الحروب أروع القصص.  فلما مات وتركنا نتقاسم ميراثه المتواضع  قلت لهم خذوا ما شئتم ولكن دعوا لي حسام أبي.  وبشغف الطفولة المرحة علقته حيث تسطع الشمس ، على حائط الكوخ فى بنجن - بنجن الهادئة على ضفاف الرين.

"قل لأختي لا تبك علي ولا تحزن!  إذا رأت الجنود عائدة إلى مستقرها بخطى مطمئنة فرحة،  قل لها لا تبك، ولا تعول بل لتنظر إليهم بفخر وزهو  لأن أخاها كان جنديا مثلهم، ولم يكن يهاب الردى  وإذا تقدم إليها أحد الرفاق من الجند يخطب ودها  فاسألها باسمي أن تنصت إليه، لا آسفة ولا مانعة:  ولتعلق ذلك السيف القديم فى موضعه، سيف أبي وسيفي  حبا فى بنجن القديمة - بنجن الغالية على ضفاف الرين.

"وثمت فتاة أخرى ليست بأخت، صحبتها فى الأيام السعيدة  السالفة، ستعرفها من ذلك الحبور الذى يتلألأ فى عينيها،  بريئة لم يمسها العار، متهكمة يحلو لها أن تهزأ وتسخر.  غير أني أيها الصديق أخاف على أشد القلوب جذلا من أن  يثقلها الحزن.

قص عليها حديث الليلة الأخيرة من حياتي، لأنني سأموت  قبل طلوع القمر.  ستذهب من جسدي الآلام وتخرج روحي من السجن.  كأنني أحلم بها وأنا واقف معها نشاهد الشمس وهي تغرب وراء

تلال بنجن المكسوة بالكروم - بتجن الجميلة على ضفاف الرين .

"إني أرى النهر الأزرق يتدفق ماؤه، واسمع أو يخيل إلي  أني اسمع: أناشيد الألمان التى كنا نغنيها فى صوت متناسق عذب  فنتردد بين النهر والسهول المنحدرة فى جوف الليل الصامت  الهادئ.

إني أرى عينيها محدقتين في، ضاحكتين زرقاوين، وكأنني  أسير إلى جانبها، فى تلك الطرق المحببة إلي، تلك الطرق التى أذكرها  بالإجلال والتقديس، وأحس بيدها الصغيرة آمنة فى يدي.

ولكنا لن نلتقي مرة أخرى فى بنجن - فى بنجن العزيزة على  ضفاف الرين "

أخذ صوته الأجش يضعف ويفنى، وصارت قبضته كقبضة  الطفل وارتسمت فى عينيه أشباح الموت، ثم تنهد وامسك عن القول.

فمال عليه صديقه لينهضه؛ ولكن سراج حياته كان قد خبا.  لقد مات الجندي المسكين فى أرض نائية عن وطنه.

عندئذ طلع القمر على مهل واطل على الكون  وعلى الرمال المخضبة بالدماء إثر المعركة، وعلى الجثث المتناثرة  "المبعثرة" .

وفي هدوء، أرسل أشعته الشاحبة على ذلك المنظر المفزع.  كما يرسلها على بنجن البعيدة - بنجن الجميلة على نهر الرين.

اشترك في نشرتنا البريدية