الشرق والغرب شرع واحد فى المسائل التى تتناول الآحاسيس والعواطف ، بل الحب - بنوع خاص - فى مختلف أنواعه وحالاته ، والمرأة هي هى فى كل مكان وزمان . والتحليل الدقيق للقصص الأربع التى تفضلت حضرة الأديسية الكبيرة محررة " رسالة المرأة " باستطلاع آراء القارئات فيها ، يجعلني أرد تصرفات المرأة فى كل منها إلى تلك الأصول البدائية التى ركزت فى نفسها مركبات قوية متناقضة تكاد تكون من الغرائز النسوية لأنها اندست فى أغوارها حقبا طويلة دون أن تدريها ، فطبعت سمتها على حياتها وآرائها ، ووجهتها إلى نواح متشعبة كانت مصدرا خفيا لأعمال تنفع وتضر على السواء . ولعل من أعظم هذه المركبات ما يسمى " مركب النقص " فإن المرأة منذ بدء عصور التاريخ البشرى قد كانت فى الغرب موضوع حب الرجال وإعزازهم ، وكان التغني بمحاستها والتشبيب نها موضوع قصيدهم وأناشيدهم ، على أنهم رغم بلوغهم أوج التعبد لها ، ما يرحوا حتى العصور الوسطى بل والحديثة يوجون خيفة منها ويعدونها بلاء مقيما وشرا مستطيرا . وكانوا إذا تفوقت إحدى النساء فى ذكائها أو بسالتها يتهمونها بالسحر والشعوذة ، ويجعلونها غرضا لسهام طغمة كبيرة من رجال الدين . أما فى عصور الوثنية والجاهلية فى الشرق فقد أجلوها على عروش الربوبية ، وجعلوا من العذارى الجميلات كاهنات لمعابد أصنامهم ، ثم بقيت من العصور الوسطى وما بعدها كأنموذج لحسن ضائع ، وكقنية ثمينة يدخرها الملوك والولاة فى قصورهم ، أو ملهاة جميلة يتسلون بها بعد عودتهم من غزواتهم ورحلات قنصهم ، ثم اتخذوا منها إكليل الغار الذي يتوجون به كل بطل صنديد مكافأة له على شجاعته ،
أو ثمنا لعبقريته ومواهبة . . ولقد أدى هذا كله إلى اشعار المرأة بعجزها ونقصها ، ودفعها إلى تغذية رغبتها فى الظهور امامهم لا بمظهر الند والنظير فقط ، بل محاولة التفوق عليهم وعدم الاستخدام ، والجد فى الظفر بإخضاعهم لنفوذها الأمر .
وعندى آن هذا هو " مركب النقص " الذي يعده كثيرون من كتاب المرأة غريزة أساسية من غرائزها ، بل ميلا قويا من ميولها الفطرية التى تغربها بحب السيطرة فى إيجاع وإيلام للرجل ، ولكنى أرى أن هذه الغريزة المزعومة ليست أصيلة فى المرأة ، بل هى فى الحقيقة صورة ظاهرة من صور الحب التى مرجعها حب الذات ، والتى يختصر تاريخ النزاع المديد الشديد الذى قام بينها وبين ذلك الرجل الذى ظل احقابا متعاقبة يقهرها ويحتجزها كغرض من أغراض العاطفة الرخيصة . على ان ذلك النزاع لم يلبث ان استحال إلى حرب نظامية تطورت وصارت خطة سياسية أو وسيلة نسوية ، أخذت الآن تتضاءل وتتقلص حتى لتكاد يختفى فى أعلى طبقات السيدات تهذيبا وأرقاهن علما وثقافة . .
أجل ، هى صورة ظاهرة من صور الحب التى مرجعها الذات والرغبة فى إثباتها بشكل أكمل وأوضح ، وتحديد مكانها فى حيز الوجود . بل هى مظهر راق لحب الذات مصدره إنجاب المرأة بالقوة ، ذلك الإنجاب الذي ينسبه سبسر فيها إلى نمو شعورها الديني ، وحنينها إلى اللياذ بقوة اعظم من قوتها ، فهى حين تظهر سيطرتها على الرجل ، إذ تطالبه باستعراض مجازفات إقدامه وصلابة مكسره وصرامة بأسه أمام الملأ ، إنما تريد أن تتبذخ بقوته ، لأنها كما تقول الكاتبة الإيليزية جورج أل اليوت : " لا تستطيع أن تتعلق بالرجل الخوار الهشم " . ثم إنها حين تستفز فيه روح المنافية والغيرة ، ولو عن طريق الخطار بحياته ، تعمد إلى امتحان حبه ، وتتطلع إلى مبلغ تهافته على الاستئثار بإعجابها ، وإرضاء نزعات تدلها وتبهها ، بطرائق تسير ذكرها فى الآفاق ، وتفشى تدلهه بحبها على الألسنة ، وترجع صدى هيامه بها فى المحافل ، وتذهب سمعه فى الناس ، ولا تتوافى فى سبيل سعيها لامتلاك قلبه عن
إثارة زهوه بتقريظ شهامته وتملق رجولته وإطراء نخوته ، فلا يتوانى هو بدوره عن حمل نفسه على المخاوف والمعاطب واقتحام الهلكات والمتالف
ولكي نقرب من إنصاف المرأة مع ذلك ، أصرح بأن ما يبدو منها من حب السيطرة ، لا يمكن أن يؤخذ على معناه المطلق ، لأنه لا يتجاوز ميلها الفطرى إلى التسلط على قلب الرجل ، ونيل الحظوة فى عينيه . ولئن رغبت فى أن تكون محبوبة منه بكل قواه ، فانما رغبتها الأولى أن تكون هي المحبة . وأكبر اعتقادى أن ما تبذله من قبيل استمالته إليها ، ليس إلا نتيجة لتلك الرغبة الملحة ، وعلى كل حال فرغبتها ورغبته مترابطتان ، والغالب أن يكون الحب متبادلا بينهما . ولقد قدمت أن المرأة الراقية المهذبة ، قد تمكنت بفضل العلم الناضج من معالجة " مركب النقص " الذي أذكته فيها سيادة الرجل فى مثل البيئات والأحوال الخاصة التى سردتها حضرة الآنسة الفاضلة " زينب الحكيم " فى قصصها ، وأصبحت الفتاة اليوم تتوخى فى عهد خطبتها وسائل متزنة للسيطرة على قلب خطيبها وشريك حياتها ، فأبت أن تتبع ما كانت تتبعه أختها فى العهد الماضى من ضروب إحاطته برعاية الأم الحانية على طفلها الرضيع بنواهبها العديدة ، لأنها قد تحققت
ان فتى اليوم ، يكره القيود التى تغل الإرادة وتشل القوى ، ويرفض الانصياع لمن تمحضه النصح على الولاء ، بارتداء الملابس الصوفية إذا ما لاحت بوادر الشتاء ، واستصحاب زوج إضافي من الجوارب السميكة إذا خرج لمباراة فى لعبة الجولف ليتقى بها الأمطار فى حالة عطولها ، وان يتمشى بفالوذج اللبن والبيض ، وان يعنى بتهوية مسكن العزوبة المجدب من أناقة المرأة وعنايتها ؛ لأن الحياة الرياضية ، التى يحياها فتى اليوم ، فى فرق الكشافة والجالة والتدريبات العسكرية ، قد جعلته واسع الحيلة فى شؤون المعيشة ، شديد الاعتماد على نفسه ، كبير القدرة على العناية بصحته وبمسكنه ، وأصبحت فتاة اليوم تتجنب إظهار امتلاكها له أمام الناس ، والتحدث بحقوق الاختصاص التى وضعتها عليه كما لو كان بعض الدواجن التى تدلها
وتستصحبها معها فى المنتديات العامة مباهية بسيطرتها عليه . وأصبحت تتجنب الاعتداد بنفسها ، والاستعلاء عليه وإبداء البرودة نحوه والإكثار من معاتبته والتفلسف فى محاليل كل صغيرة وكبيرة من تصرفاته ومحاسبته على كلماته والإغراق فى اخذه بمغالبات جدلية ومناقشات منطقية ، وإمللاله بسرد النظريات العلمية والتخيلات الروائية ، وإذاعة المعلومات وآخر النشرات الإخبارية الشائعة بين أفراد طبقتها ، والظهور أمامه بمظهر الحزن والاكتئاب والتجهم ويقظة الضمير والإفراط فى ادعاء الورع والتدين ، ونحوير الأمور وبحريفها وقلب ظاهرها لباطنه ؛ وأخذت تبدو أمامه على الدوام متبللة الغرة ، قريبة منال البشر ، طيبة النفس فكهة الأخلاق ، فى احتشام الفتاة ، وخفر العذراء ، وكرامة السيدة وجلالها وصراحتها وثقتها ومحبتها ووفائها وطاعتها . ولعله يحسن فى أخيرا أن أنتحى ناحية الرجل فأقول إنه يستطيع تحقيق المثل الأعلى للفتاة كزوج حين مجتمع فيه أنبل منزات الرجولة وأكرم أخلاقها وأمجد مناقبها ، فتجد فيه القوا المخلص العطوف المطاوع ، والشريك الحازم الرشيد الأمين الكريم الذي يتفانى فى توفير أسباب الراحة والطمأنينة لها ، ويتعاون معها على إسعاد العمران ، وآسمو بالمجتمع الإنساني إلى مراقى
الكمال المنشود .
