الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 344الرجوع إلى "الثقافة"

بين المسموع والمقروء، عروس يذبح في صبيحة عرسه

Share

اليوم الخميس .

والساعة بعد العاشرة مساء .

وقد استمعت توا للمذيع الإنجليزي يذيع على الملأ نتيجة الانتخابات البريطانية.

ولست أدري ما سبب هي لهذه الانتخابات . بل لست أدري ما هم الناس بها ، فلست وحدي الهموم بها . بل لا احب احداً تابع التاريخ البريطاني ، وتابع الحرب وسفيها الطوال لا يخفق قلبه عند استماعه لنتيجة قد يتبدل من جرائها أناس عرف اسمهم في حكم انجلترا طويلا ، وسمع  أصواتهم على المذياع طويلا ، ورأي صورهم على الشاشة عشرات المرات وقد نقول مثانها

وقد يكون هذا الهم لمجرد حال مألوف يحول ، أو قد يكون من بعض الفضول ، كفضول المتفرج بالسباق ، يشرئب بعنقه نحو الجياد وقد احتر الشوط وتقاربت الأعناق . ولكني

أحسب فوق هذا أنه هم أدخل من النفس من هذا ، فلعله مرتبط باشتياق عنهم دخيل إلى علم أي اتجاه تتخذ حوادث الدنيا من بعد هذا الانتخاب . ومن ذا الذي لايهتم بحوادث دنياه إنى لأحسب حتى الميت ، لو عاودته اليقظة من بعد اجتياز الحدود ، لأهتم لدنياه ، وحوادث دنياء ، اهتمام رجل الدنيا بأخبار بلد خلف

إن الدنيا تحكمها اليوم أمم ثلاث أو أربعا ، وقد تستدعي المجاملة إلى جعلها خمساً . ومستقبل العالم يشكل في هذه الأيام التي تكتب فيها ، ويشكله ، لا أمم ثلاث ، ولكن رجال ثلاثة ، أحدهم هذا الذي انتخبته أو تنتخبه إنجلترا ليكون رئيس وزرائها . فاهتمام الناس بانتخابات إنجلترا اهتمام باختيار الرجل الذي سيقع على عاتقه ثلث هذه التيمة وإنها لتبعة تنوء من بعضها الجبال .

وهدر المذيع بنيئه، فما الذي قال ؟

قال إنه لأول مرة يكسب حزب العمال الانتخاب كسبا لا شبهة فيه . فقد زاد عدد نوابه ، ونقص عدد النواب المحافظين ، حتى صار أولئك ضعف هؤلاء ، وإنه لن يمضي أربع وعشرون ساعة حتى يكون الملك قد استدعي

زعم العمال ، المستر أتلي ، لترأس الوزارة . وترأس الوزارة في انجلترا معناه تزعم الآمة إلي حين .

إذاً لقد مضي تشرشل . إذاً لقد هوي الرجل الضخم الذي حمل التبعة في أشد أيام أمته حاوكة في التاريخ . وهوي وهو في القمة من مجده وعلى غير انتظار . وهوي بعد أيام من دخوله العاصمة الألمانية واستعراضه الجيش استعراض البطل المنتصر . وهوي وهو أحد الثلاثة الذين قلنا إنهم يصورون صورة العالم في قادم أيامه ، برضا العالم أو افتئاتا عليه . وهوي بعد أن صار الذي فعل سورة مسطورة في كل قلب ، وصار اسمه على كل لسان ، على اختلاف الألسن واختلاف البيان .

فما الذي جري حتى انزلوا الزعيم الفارس من فوق  فرسه ؟

ما الذي جري حتى ذبحوا العروس المنتقي في صبيحة عرسه ؟

أكان هذا عن تغير قلب ؟ أكان هذا عن إبدال كراهة بحب ؟ أكان عن تقدير واحترام ثم نزل الرجل بين قومه قدرا وحرمة ، وحدث هذا بين هشية وضحاها ؟

الحق أن الرجل لا يزال يستمتع من أهله بالشكر اعترافا بالجميل الذي لا يسديه إلا الرجال القليلون ، في الأجيال القليلة ، في الساعات النادرة ، إلى أممهم . والرجل اليوم إذا طلب المال لتدفق إليه المال من خصومه ومناصريه على السواء . وهو إذا طلب الألقاب ، وكان ممن بشتاق الألقاب ، لأعطي قبل أن ينطق اللقب الأعلى إجماعاً ، وأعطي من الأوسمة أشدها التماما.

ولكن القوم هناك فرقوا - وهم أعرق الأمم تدربا على الحكم ، وأفهم الأمم للسياسة ، وأقل الأمم الدفاعا وراء عاطفة - فرقوا بين زعيم حرب وزعيم سلم ، وعرفوا أن من يصلح للحرب قد لا يصلح للسلم ، وأن مزاجا يلبس الرجل في الحرب فيكون منه الدفاع واقتحام ، وتهييج  وتهريج ، وفر من بعد كر ، وكر من بعد فر ، مزاج غير

صالح إذا ما ذهبت غمة الحرب وأصبح صباح السلم يبشر بالراحة العزيزة في وئام بين الأمم ورفاق وأمزجة الأنفس لا تخلع وتلبس في سهولة كما تلبس وتخلع ثياب الأجسام .

وعدا هذا فالرجل الفخم نحا في أقواله ، وجري في أعماله ، من بعد السلام النسي ، متحي ومجري زاد شكوك الناس في أن زعيم الحرب يصلح أيضا لأن يكون زعيم السلم .

فما انفرط عقد الحكومة الائتلافية حتى تردي تشرشل ثياب الحزبية . وكان له بصفته رئيس الوزراء القائم أن يسبق إلي المذياع يذيع على الأمة برنامجه . فدهشت الأمة من تلك الحملة الماكرة الجائزة التي حملها على رجال حزب العمال وهم الذين حملوا معه في الأمس القريب بعض أعباء الحرب ، ولهم فضل في الغلبة كما له فضل ؟ حمل عليهم حملة شعواء لم يكن ليحملها إلا غريب عن أمته . وقد أسماهم دكتاتوريين ، وسماهم أوكاد نازيين ، بل سماهم أوكاد بلا شفة ، وهو يعلم أن مقدرات إنجلترا لم تكن قد انفصمت بعد عن مقدرات البلاشفة وزعم أن العمال لن بنجوا في الحكم إلي إذا استخدموا الجستايو أداة للحكم وإخضاعا للناس

لقد نزل تشرشل في هذه الحملة إلى منزلة لا نعرفها إلا في مصر ، وفي بلاد البحر الأبيض المتوسط . ولكنها غريبة كل الغرابة على شعب بجيلته هاديء ، بطبعه بارد ، يحب الرياضة ويحل فيها النصفة والعدل ، ويمقت التجنى في حدود بلاده ، ويمقت المغالاة في غير صدق .

لقد نزل تشرشل الميدان الانتخابي ، بنفس المزاج الذي صاحبه في الميدان الحربي ، فقال عن قومه قولا شبيها بالذي كان يقوله عن الألمان واليابان وهو آمن . ونسي أن موقع القولين في الأذن الانجليزية غير واحد . ونسي أنه إذ كان يقول بالأمس ، كان يقول وهو زعيم امة وزعم الأحزاب جميعا ، والرجل الذي ألقى الناس من كل لون قيادهم ضمانا لبذل أكبر مجهود للحرب . أما وقد انفرط عقد الحكم المؤتلف فقد صار رئيس حزب . ونسي أن الناس إذا أكبروا تشرشل رجل الأمة وبطلها ولسانها

انصرفوا عن تشرشل رجل الحزب ونباحه

وحذر العمل الأمة ، عند بدء الحملة الانتخابية ، مما درب عليه حزب المحافظين من تدبير الحيل ، ونصب الفخاخ ، للساعة الأخيرة من الانتخاب ، إذ يطلقون على الناس أكذوبة نضر بالحزب الخصيم ولا تعطى له الفرصة في الرد قبل وصول الناخبين إلي الصناديق .

حدث هذا في الخطاب الشهير ونحن بإنجلترا ، خطاب وبتوقيف ، فقد كان المحافظون وقعوا علي كتاب لروسي من زعماء الشيوعية إلي أحد نواب العمال بإنجلترا يستحثه  على البذل للاشتراكية والشيوعية فاحتفظ المحافظون بهذا الخطاب الشخصي سرا ، حتى جاءت عشية الانتخاب الأخير ، فأطلقوا صوره إلى الجرائد ، فأزاع الناس إزاعة  كبيرة ، فذهبوا إلى الصناديق فصوتوا ضد العمال ، فكانت هزيمة ماحقة . ولم يكن يدري العمال عن هذا الخطاب شيئا . وكان لابد لهم من التحري للرد ، ولكن اين لهم الرد والمحافظون لم يمكنوهم من وقت لذلك .

حذر العمال الأمة من تلك الأفاعيل . وصدق تحذيرهم . فقد قال الأستاذ لاسكى ، رئيس الجمعية العمومية لحزب العمال ، قولا عن مسئولية وزراء الحزب للحزب . فما أسرع ما التقط حزب المحافظين هذه السقطة المسائية واتخذوا منها موضوعا لحملة . وفسر العمال ، وفسر لاسكى ، ما الذي كان يعني مما كان جديرا أن يقنع الخصماء . ولكنهم لجوا . والشعب المتنور يكره اللجاج . والشعب المتنور يكره من يحاول نقل الخصومة من الموضوع إلي الشكل ، ومن الخطير إلي التافه ، بغية النصرة بأي سلاح . وظن القوم أن المسألة هدأت ، فإذا تشرشل ، في اللحظة الأخيرة يعود إلي الموضوع ، ويرسل بخطاب فيه إلى زعيم العمال ، أتلي ، فيصل الخطاب إلى الجرائد قبل أن يصل إلى الزعيم وقبل أن يستطيع أن يرفق الرد بالخطاب ، فيرفق التهمة بالدفاع عنها عندما تصل في الصحف إلي أيدي الناس .

وعدا هذا ، فان تشرسل ، في حملته على العمال ، حمل

على أمة صديقة عظيمة شريكة له في السلاح ، فنفي عنها صفة الدينقراطية ، وهو اللقب العزيز بين الاحبة هذه الأيام ، فناوأ هذه الأمة المخوفة العداء . نعم إنه لم يصرح باسمها ، ولكنه لمح تلميحا كتصريح ، فكان أول من فهم تلميحته الدب الأوربي الحبيس . فشاعت من بعد ذلك الشائعات انه لابد من حرب جديدة بوقدها تشرشل  هذه المرة . واتهمه بذلك خصومه ، وهو الذي أعطاهم صك الإتهام ، فخاف الناس من حرب قادمة وهم لم يصحوا بعد من تلك الحرب القائمة .

وعدا هذا وهذا ، فقد أزداد سلطان هذا الرجل البطل زيادة خشي منه الحس الانجليز الصميم، وهو حس في السياسة صادق ، أن ينقلب البطل دكتاتورا  بحكم الطبيعة الإنسانية ، وبحكم الظروف . والمعروف عنهم انهم دائما يقلمون أظفار النسر والباز إذا هو فرغ من الصيد . ومن يجمل الضرغام في الصيد بازه

تصيده الضرغام فيمن تصيدا فهذا تعليق عابر على ما كان من الانتخابات البريطانية وتعليقة أخرى : هي أن نصرة العمال وهزيمة المحافظين صحيحهما اختفاء الاحزاب الأخرى ، أو ما يقارب اختفاءهم . ومغزي هذا جدير بالنظر . فمعناه أن بريطانيا تعود إلي نظامها التقليدي من قيام حزبين يتداولان الحكم ، وأنها تكره أسلوب القارة الأوربية الذي يقضي بتعدد الاحزاب فيقضي هذا بقلقلة الحكم وضياع استقراره . ولعلنا نجن المصريين قد عرفنا الآن من التجارب المرة كيف أن ربط الابل الكثيرة المختلفة في الحبل الواحد يؤدي إلي اختلال السير واختباله ، والذهاب بالقافلة إلى غير بعيد .

وسؤال يسأله المصري : ومأ موقع مصر من هذا التبديل والجواب الذي يجب أن يعرفه كل مصري : لا شئ ووجب أن لا يكون شئ . وإن أمة لا تجد لنفسها أملا في الخلاص إلا تلصصا من بين أهواء الأمم وأهواء أحزابها  أمة ثم تخلق للبقاء

اشترك في نشرتنا البريدية