فلما يأتي التاريخ لنا برجال ثلاثة ، أب ، وابن ، وحفيد ، وكلهم لهم في التاريخ ذكر ، وكلهم تسموا باسم واحد حتى ما يكاد يدري سامع ايهم تعني إذا ما سميت .
وكلهم تسموا ، فانتسبوا إلي النطفة الأنثي التي انجبتهم ، لان النطفة الذكر انكرتهم ، فأولهم ولد في الحرام ، أعني الجد ، وكذلك ولد الحفيد .
وأم الجميع زنجية من أهل السواد ، فلم يمنع هذا أحدهم أن يكسب مجدا كما يود أن يحسب ذلك أهل البياض.
ولم يمنعهم حتى النغولة ، والنشأة المريبة ، من أن يكسبوا مجدا . فالطبيعة التي ابدعها الله كثيرا ما تأبي ان تسير ومنطق الإنسان في الأشياء والناس . فطبع الطبيعة الحياد . فهي لا أنف لها يحمد الطيب ويذم الفساد ، وهي
لا لسان لها يتذوق الحلو ويعاف الأجاج . وفي الطبيعة يجوز أن تبذر البذرة في غير طهارة ، في الحمأة الآسنة ، ولكن مع هذا تنشق عن نبات أخضر كأبنع ما يكون النبات . وقد يكون في نتن هذه الطينة سر هذه الفراعة والنضارة .
أما الرجال الثلاثة الذين عنهم نحكي ، ولهم تقدم ، فهم اسكندر دوماس ، واسكندر دوماس ، وأسكندر دوماس
وإليكم قصتهم في اختصار شديد :
أما اسكندر دوماس الأول ، فيعرف بالقائد أو الجنرال . فقد كان بلغ هذه الرتبة في جيش نابليون . أما أبوه فمركيز بيتري ، كان ذهب إلي جزر الهند الغربية ، وهناك جرى على عادة البيض من ذوي اليسار ، فاتصل بزنجية فأولدها ابنه هذا في غير زواج . وكان اسم هذه الزنجية مارية . وكان لقبها دوماس . فأضفته على ابنها ، واضفته من بعد ذلك على فرنسا ، فصار رمزا عظيما على الأدب الفرنسي ، وسوء الأدب ، على السواء .
وماتت الأم عام ١٧٧3 . وعاد المركيز إلي فرنسا عام ١٧٨٠ فحمل ابنه معه . وكان بالطبع في لونه قتومة وفي شعره تجعد ،
وبلغ المركيز الرابعة والسبعين ، ففكر عندئذ في الزواج الشرعي ، فتزوج خازنة بيته والقائمة على اموره. وكان يجري عطاء على ابنه ، فقل بهذه المناسبة عطاءه لابنه . فغضب الابن من هذا أو ذاك ، أو منهما معا ، فترك أباه وانضم إلي الجيش.
وجاءت الثورة الفرنسية وهو لا يزال جنديا " "نفرا ". ولكن ما ذهبت الثورة وأخذت فرنسا تدفع عن نفسها غائلة من حولها من الدول ذات التيجان حتى ابلي دوماس في ذلك بلاء حسنا ، فلم تمض اربع سنوات حتى بلغ رتبة القائد ، أبلغه إياها عدم مبالاته بالمخاطر ، وقوة شديدة فاقت قوة الرجال ، حتى سموه العفريت الأسود . فقد حكى عنه انه كان يجلس على فرسه ، ويمسك بيديه عارضة في السقف فوق رأسه فيحمل نفسه إليها ويحمل الحصان وفي حرية النمساويين دافع وحده عن جسر على نهر فحماء . فما فرغت ذخيرته حتى استل سيفه . وما انكسر سيفه حي هوي على جتة جندي ، وأمسك بقدميه ، واتخذ من جسمه عصا يطوح بها ويضرب .
وحضر إلي مصر مع نابليون . وفيها اختصم مع نابليون وغادر الجيش . وهنا ، ولأول مرة ، ذكروا له سواده وسبوه يه . وعاد إلي فرنسا ، إلى زوجته التي كان تزوج - نعم تزوج زواجا شرعيا فلم يجر على غرار ابيه . وكانت زوجته ابنة لصاحب خان . وفي عام ١٨٠٢ أولدها ولده الشهير ، اسكندر دوماس . وبعد سنوات مات الأب ، وترك الأم وولدها في حاجة إلى العون .
وكتبت إلي نابليون تطلب العون ، فحول كتابها إلي بعض حاشيته ، ثم انتهى رجاؤها إلى أعداء زوجها من تلك الحاشية فكان هذا به آخر المطاف .
ونشأ الولد دوماس - وهو الذي عرف فيما بعد
بدوماس الكبير - في الفقر ، فلم تتمهد له سبل التعليم ولم يتمدرس إلا لدى قس بلدته . قضى فترة في التعلم عنده فلم يتعلم منه كثيرا . ودخل العقد الثاني من عمره فالتحق بمكتب محام ، وفي هذه الأثناء اتصل بصديق وأخذا معا يكتبان نماذح من الفدفيل لم تر المسرح ابدا . وبلغ الحادية والعشرين فمل الجهل ، ومل الثقافة ، فذهب إلي باريس ، واحد يتعقب اصدقاء ابيه في الجيش حتى وجدوا له عملا ، كاتبا بمكتب دوق أرلينز.
ولم يمض له عام واحد في باريس حتي كان اتصل بخياطة ، فأولدها ولدا ، عرف فيما بعد باسكندر دوماس - الصغير - وأولدها إياه في غير الحلال . وبعد سبع سنوات شاء له الهوي ان يعترف بابنه ، وان يضمه إليه ، فاضطر إلى ان يلتجيء إلي القضاء . وحكم القاضي له أخيرا ، ولكنه غفل عن ضم ابنه إليه ونسي أمره زمانا . فهكذا كان .
وأسكندر دوماس - الكبير - معروف بالطبع بقصصه التاريخية ، قصص الحرب والصراع . فمن لم يسمع بقصة الفرسان الثلاثة ، وقصة كونت مونت كريستو ، وغيرها عشرات ومئات . ولكن دوماس لم يكن يعرف من التاريخ شيئا . فأخذ يتعلمه بعد الحادية والعشرين . واخذ يقراينهم لأنهم بعده . وبعد ذلك دار على التاريخ الفرنسي يكتبه قصة ، قصة . وبلغ من الجلد على الكتابة مبلغا عظيما . كان يكتب ثماني عشرة ساعة في اليوم الواحد . ولقي نابليون الثالث فسأله عن تآليفه فقال إنها بلغت اكثر من ألف مجلد .
وهو لم يكتبها وحده ، فقد كان له أعوان كثيرون ، أشهرهم أوجست ما كيه . كان اوجست ياتى بالثوب التاريخي ، فيأخذه دوماس فيقصه ، ويوحد بين أجزائه فيخرج منه القصة الجيدة كما يخرج الطرزي الماههر من قماشه اللباس الجميل . وقيل له في ذلك ، فقال : وما في ذلك ؟ إن هؤلاء اركان حربي ، وقد كان لنابليون اركان حرب
ولكنه لما بلغ الكبر ، واعجزه الفقر وذهب به التهتك ،
ولم يبق له غير اسمه ، كان يضعه على ما لم يكتب .
حكوا عنه انه لقي ابنه دوماس - الصغير - في الطريق يوما . فبعد تصبيحة الخير سأل ابنه متهللا : اقرات يا ولدي قصتي الأخيرة ؟ فرد الابن على الفور : لا يا ابي . فهل قرأتها أنت ؟ !
أما صلات دوماس - الكبير - بالنساء فذات شروح وشروح . فلم يكن لهذه الصلات حد في العدد ولا في النوع . وهو إن يكن قد عرف ما الشهوة الطارئة المتجددة ، لم يكن يعرف ما الحب المقيم الدائم.
وحدثت له حادثة العمر ، فتزوج إيدا فريار . قيل إنه تزوجها لأنه قدمها إلى دوق أرلينز ، فقال الدوق له بعد ذلك : إني احب ان السيدة التي قدمتها إلى زوجتك ! فما كان منه إلا أن تزوجها بعد ذلك خجلا . وقيل انه إنما تزوجها لان اقيم عليها عرض عليه ٨٠٠٠ جنيه مهرا يذهب عنه بدين كان أثقله.
وحكوا أن دوماس حضر من سفر يوما إلى بيته قبل الاوان ، فلما دخل البيت وجد به صديقا قديما يخرج من حجرة النوم وهو في قميص النوم . فقال له : لا بأس عليك . إن بيتك بعيد والجو قارس . وأرقد صديقه يقضي الليلة على اريكة في حجرة الجلوس . وذهب هو ونام مع زوجته . واستيقظ ، فوجد الصديق يرتعد من البرد . فعطف عليه وسأله ان يأتي إلي سريرهما ليستدفئ معهما فيه وينام . قال له : ياروجر ، إننا اصدقاء العمر ، فهذه العشرة القديمة لا تأذن لنا بالنزاع من أجل امراة ، حتى لو كانت هذه المرأة زوجة واحد منا .
وحتي في شيخوخته ، لم يعدم الكاتب الكبير ، فضيحة ضحكت لها باريس كلها : اتصل بمثلة لها جمال ولها دلال . ولا يدري احد كيف وقعت في حبائله ، وهو الشيخ الذي لم تبق له بقية من مال او جمال ، أو حتى قوة ، وطلب رساما يرسم لهما صورة في وضع أقل ما يقال فيه إنه فاضح . واستهوي الرسام الريح ، فاحتفظ بالأصل ، ومنه طبع من
الصورة النسخ العديدة وباعها . وكانت قضية طالت كسبها دوماس اخيرا . وامرت المحكمة بمصادرة الصور ، ولكن بعد أن وصلت إلي كل بيت من بيوت باريس .
وصار الكاتب الكبير من بعد ذلك أضحوكة العصر
ولذعه كاتب بمقال ، فطلبه إلى المبارزة ، وكان لا شك سيكون كبش الفداء . ولكن تدخل ولده ، دوماس - الصغير - فحمى والده من موتة غير جميلة .
وقضي أيامه الأخيرة يقرأ قصصه ويعيدها . وقد وجدوه يوما يبكى بكاء حارا ، فبحثوا عن سر هذا ، فعلموا انه يبكى على موت إحدى الشخصيات البارزة في إحدي رواياته.
ومات في بيت ابنه ، وفي كنفه ، عام ١٨٧٠ .
أما الابن ، ابن الحرام ، فيضيق المقام عن تاريخه . ولكن يكفي ان تذكر بأنه هو صاحب القصة العالية الشهيرة ، غادة الكميليا ، وصاحب قصص أخرى عديدة. وكان في قصصه معلما مؤدبا . وقد عانى في طفولته من أجل أبوته عناء كبيرا . وأوذي من أجل ذلك إيذاء شديدا ولكنه صبر . ولجأ إلى القلم يدفع عن نفسه الفقر وعن أمه الهوان.
قال عن امه : إنها امراة طيبة القلب ، اشتغلت كثيرا حتى ربتني .
وقال عن أبيه : إن طبيعته ، بفلتة من فلتات القدر ، كانت طيبة . وما جاءه الرزق بنجاح قصته الأولى حتى اعترف ببنوتي ، ومنحني اسمه .
وظل الابن يعني بأبيه طول حياته ، ويسنده إذا مال ، ويرفعه إذا وقع ، ويغفر له الكثير . وكان يعامله ، لا معاملة الابن لأبيه ، ولكن معاملة الأخ لأخيه وكان الأب لا يسيئه من ابنه إلا أنه " كثير الوعظ " .
وكسب اسكندر - الصغير - مالا كثيرا بعد ذلك . ودخل الأكدمية الفرنسية التى لم يدخلها أبوه ومات عام ١٨٩٥
