الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 350الرجوع إلى "الثقافة"

بين المسموع والمقروء ، ، تسعة تصيب ، وعاشرة تخيب

Share

صاحب قصتنا اليوم طبيب في بلد ناء عبر البحار

أتم دراسته الثانوية فدخل كلية الطب وقضي فيها سنوات لم يسمع فيها غير الحمد ، ولم تقع في يده  اثناءها غير شهادات بالثناء عطرات ، إلي جانب مكافات مالية كسبها بالعمل المتواصل والفطنة المؤاتية

وختم دراسته فنال الوسام الذهبي . واطال دراسته من بعد ذلك فنال زمالة الكلية الملكية للجراحين بلندن

ويشاء القدر بعد سنوات أن يجد نفسه طبيبا في مدينة صغيرة من مدن الريف ، يحيى تلك الحياة الراتبة الهادئة السلسة ، والتي قد تسأم أحيانا . وكان يتعلق بالجراحة تعلقا كبيرا ، ويعد نفسه جراحا أولا ثم طبيبا بعد ذلك .

وأراد أن يؤكد ذلك فكتب على لوحة داره " جراح وطبيب " . والحق انه في أيام تلمذته عاون في جراحات كثيرة شتيتة  ، ولكن لم تتح  له الفرص التي يتزعم فيها تلك العمليات . ومنذ حضر إلى هذا البلد الريفي الصغير ندر أن يأتي إليه احد بجراحات ذات بال - بجراحات تستأهل ان يباشرها زميل من كلية الجراحين بلندن ، فان أقصى الجراحات التي جاءت له لم تسم إلي أكثر من دمامل وخراريج . فكان من ذلك ان نسي الجراحة على توالي السنين

وبأتي كوبيد إلي قلب الجراح الشاب بقوسه وسهمه فيضربه في الصميم . فقد تعلق بفتاة هي ابنة مزارع في مزرعة قريبة من البلدة . ولم يلبث ان تزوجها ولم تكن الفتاة قد عرفت من الدنيا غير الريف ، ولا من البلدان غير هذا البلد الصغير . وكانت جميلة ، في وجهها بياض اللبن وحمرة الورد وفي عينيها ابتسامة لا تزول أبدا

وشعرها تدلي علي كتفيها في خصل محواة صفراء - وفورة الحياة ملأتها فأعدت كل من قاربها . كانت تضحك وتزأط لغير ما شئ إلا أنها سعيدة بالحياة

ولم تعجب بشئ إعجابها بمنزلها ، فقد كان لها خير بقعة في الأرض . ودارت على حجره تنظف أثاثه وتلمع تحفه ، وتمر بالريشة على مساقط التراب ، فتجد في كل هذا لذة لا تعدلها لذة . كان همها أن تري هذا العش ، الذي هو لها ولزوجها ، دائما نظيفا لماعا

ولكن كان أكبر إعجابها بزوجها كان جميلا ، وكان مخلصا ، ثم علم  فيه كثير . كان علمه من ذلك النوع الذي لا يتطاول إلي فهمه عقول الظغام . ويأتيه صديق في المساء فيأخذ وإياه يتحادثان عن الفيتامينات والهرمونات وعن ضغط الدم والتهاب الكلى ، ويتحدثان بذلاقة وفي غير عسر ، فتجلس إليهما تنصت فاغرة فاها من الدهشة لهذا العلم الخفي النادر الذي احتواه زوجها الحبيب العزيز

كانت بزوجها سعيدة ، وكان زوجها بها سعيدا ، ولم يدع شيئا يجلب لها السرور إلا اتاه  . وكان به مس من غرور ، وعبئته فرادته غرورا . كانت تقول له إنه خير من حملت الأرض . وقالته مرارا وتكرارا حتى بدأ بداخله ان الذي تقول قد لا يخلو من حق  . وطلبت إليه ان يبروز شهاداته الكثيرة ويعلقها على حوائط الدار ، فأبي ، فزادت إعجابا بابائه . زادت إعجابا بهذه العبقرية المتواضعة

وفي صحو هذه الحياة الصافية تتراءي غمامة سوداء

في صباح يوم أحست هذه الزوجة الصبية الهانئة بآلام  . ويفحصها زوجها فيعلم انه الاعور - انها الزائدة الدودية ، وانه لا بد من استئصالها . لقد كانت آلام كهذه تأتيها في صباها الاول ، ولكنها انقطعت من زمان بعيد ، ولم تكن بمثل هذه الشدة التي جاءتها اليوم . ويقرر الزوج انه لا بد من عملية ، ويختار الجراح الذي يقوم بها . ويطلع زوجته على ما اعتزم ، فتأبي كل الإباء . تأبي أن يقوم بإجراء العملية ذلك الجراح الشيخ العتيق الذي اكل عليه الدهر

وشرب ، الدكتور هارون . لا أبدا . لا يمكن ان يمسها ذلك الرجل العفن . فان كان لا بد من عملية فليس لها إلا رجل واحد ، ذلك زوجها الحبيب . زوجها العبقري هو وحده القمين بها . وهي لن تثق بأحد سواه . ثم  ما فائدة المهارة والعلم والفن إذا لم يبذلهما الرجل لزوجته أول باذل .

ولم يحاول الزوج أن يرفض ما سألته ، وعقد إطراؤها إياه لسانه فلم يقل لها إن مجرد فكرة إجراء العملية تصيب رأسه بدوار و قلبه يخور ومعدته بالغثيان . وذهب تملقها إياه بالبقية الباقية فيه من بصيرة ، فاعتزم ان يقوم بالعملية . وزاد في عزمه ما قد يثيره إجراؤها في البلدة من اثر محمود ، فلا شك ان الناس سيقولون هذا جراح ماهر وثق كل الثقة بنفسه فلم يتردد في إجرائها حتى على زوجته . وعدا هذا ، فمساعده في إجرائها سيكون زميله طبيب البلدة الآخر . ولا شك أنه سيزداد إعجابا عند ما يراه يقلب احدث ما عرف الطب من اداة للجراحة في خفة يد ولباقة إصبع ثم ثقة زوجته به لا بد أن يحتفظ بها ، وإيمانها بمهارته لا بد أن يحققه . ونسي أن هذه أول عملية كبري . أجراها في حياته

وفزع إلي كتبه يقرأ فيها ليسترجع كل ما نسي من تفاصيل . وتراءت له العملية في كل تفاصيلها يسيرة هينة ، وذكر أنه حضر هذه العملية مرارا وتكرارا ورآها تجري في سهولة بالغة . ونسي ان كل شئ في اليد الماهرة يتراءي سهلا بالغ السهولة . وقرأ أن هذه العملية تكون بسيطة لا تعقيد فيها في تسع حالات من عشر ، وذكر أن الحالات التى حضرها كانت كلها من النوع البسيط ، فكفر بأن هناك حالة عاشرة تتعقد فيها الامور .

وجاء يوم العملية فنقلت الفتاة إلي الحجرة التي أعدت لها ، وأرقدت على منضدة ، تراءى من فوقها صباها يانعا مزهرا . ونظرت إلي زوجها في دثاره الأبيض وابتسمت له . ثم مدت إليه يدها ، فرفضها خشية ان تمس يده  وهي معقمة ، فقالت له : اخلع عن وجهك هذا الجد ، إني

لست خائفة ، وإني بين يديك أمنة ولكن أرجو منك أن تكون إلي جانبي عند زوال البنج فاني أريد أن افتح عينى أول شئ عليك .

وبدأت العملية ، وضرب بمشرطه في ذلك الجلد الأبيض الناعم الجميل . وما تبجس منه الدم حتى كادت تخور من الرجل قواه  ، وتراءي له أن يحجم من بعد إقدام ولكن غروره ابى عليه ذلك فاندفع . وأراد أن يتظاهر بالهدوء فأخذ يحدث مساعده الطبيب الآخر عن الجو وأشياء لا تتصل بالعملية في كثير أو قليل

وجري كل شئ مجراه الطبيعى وعادت إلي الطبيب ثقته بنفسه فارتاح . ولكن ما بلغ من الجرح غوره حتى ظهر له ما لم يكن في الحسبان . ظهرت له انسجة ملتحمة مختلطة لا يبين بعضها من بعض . ولم يكن قرأ عن شئ كهذا أبدا . ولم يكن فيما حضره من عمليات رأي شيئا كهذا أبدا . إنها الحالة العاشرة ، الحالة المعقدة ، هي التي تراءت له الساعة على غير انتظار . فأخذه القلق  ، ثم أخذه الخوف وأحس كمن ضل طريقه من بعد هدى . وصمت فلم يتكلم ، وصنع ما صنع ليحتفظ بهدوئه. وبذل الجهد من بعد الجهد ليجد من هذه الورطة مخلصا ، ثم فارقه اتئاده وأخذ يخبط خبط الأعشي . وحدث شئ فظيع : شيء انفجر فانبعث منه الدم الكثير . فأحس بأن قلبه قد وقف ، وبأن رأسه قد دار . وتجمع على جبينه عرق بارد  ، وأخذ يغور بأصابعه وهي ترتعش في أعمق الجرح فسأله مساعده الطبيب : ماذا جري ؟ فكان جوابه جواب من فقد عصبه . قال له : اخرس .

واراد ان يصلح ما افسد ، فرفع الاداة من بعد الاداة ، حتى امتلأ جسم المريضة بما انتشر فوقه من عدد ورفع يده  إلى جبهته يمسح ما كساها من العرق ،فخلف عليها خطوطا من الدم حمراء وارتعدت فرائصه فأراد بأن يذهب بارتعاده فظل يدق الأرض بقدمه دقا .

ونظر إلي الحجرة بعين هائجة كأنما يطلب العون من أركها ونظر إلي وجه زوجته بطلب منها المدد  الذي كانت تسبغه عليه فعز ذلك الآن مددا . ونظر إليه صاحب البنج  يقول : إلي كم تستمر العملية ؟ إن النبض خافت ، وهي لن تستطيع أن تستمر طويلا .

فلم يكن له من بد غير رقع الفتق وسد الجرح . وارتمي من بعد ذلك على كرسي وقد وضع وجهه في يديه وفيهما الدم غير قليل . وحملت المريضة إلى حجرة اخري . والطبيب المساعد انسل من الحجرة انسلالا صامتا لم يفه بكلمة وبقي الطبيب وحده في حجرة العملية يفكر في الذي جري . ووجد منديل زوجته على الأرض فرفعه إلي فمه وأخذ يعضه عضا . ماذا صنع ؟ ولمن صنع ؟ إنها زوجته من دون نساء الدنيا .

وقام فاعترضته على الحائط مرآة ، فنظر وجهه فيها ملطخا بالدم ، فتراءي له انه وجه القاتل من بعد جريمة

وذهب إلي حيث رقدت زوجته ، فوجد الستائر مرخاة ، والجو مثقلا بالذي فيه من اثير ، ونظر إلي الفراش فتبين جسم زوجته تحت الغطاء نحيلا ، وتسمع لأنفاسها في هدوء الحجرة الرهيب فلم يسمع شيئا ، وكان على جانب السرير الممرضة ، وكان على الجانب الآخر صاحب البنج ، فظلا صامتين لا يقولان شيئا ، وما كان هناك من شئ يقال .

فخرج الزوح كالمجنون يطلب الرجل العفن ، الرجل العتيق الذي أكل عليه الدهر وشرب ، الدكتور هارون . فحضر الدكتور بعد قليل ، وفي حجرة صغيرة حاول الزوج في قول مضطرب ان يصف له ما جري . ودخل الجراح على المريضة ففحصها فلم يلبث طويلا ، وخرج وأغلق باب الحجرة من ورائه . ووجد الزوج ينتظره هالعا ، فوضع يده  على عاتق الزوج وهز رأسه ، ثم مضي يطلب باب الدار دون أن يقول شيئا

اشترك في نشرتنا البريدية