الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 456الرجوع إلى "الثقافة"

بين المسموع والمقروء, بيت من طين

Share

هذا حديث امرأة أمريكية، من اللاتي تعودن البيوت تبنى من الحديد ومن الحجر مصنوعاً ومطبوعاً، تسمو في الجو الثلاثين والخمسين والمائة طابق فما فوقها، وتسمى بناطحات السحاب، تذهب إلى الهند، فتبني لنفسها بيتا من طين، ثم هي من بعد ذلك تسكنه ثم هي من بعد تجربة تمتدحه وتؤثره من البيوت على كل عال ساحق من بيوت بنات العم سام وابنائه.

ونسألها لماذا هي هكذا تؤثره .

فتقول: لأن في مراقبة بنائه تفرج ومتعة، ولأنه خير ما يحفظ من حر وبرد، ومن مطر وريح، ثم هو في تلك البقاع النائية لا يأكله النمل الأبيض الذي يأتي على بيوت الخشب. وهو بيت قليل الثمن. وإذا أنت سئمته وأردت بيتا غيره، على تقسيم غير تقسيمه، وعلى اتجاهات غير اتجاهاته، فما عليك إلا أن ترفع عنه سقفه، ثم تتربص عاصفة المطر أن تجئ ، فإذا هي جاءت إذابته سريعاً، فجعلته عجينا من طين كما كان اولا؛ وعندئذ تعيد بناءه وتقيم أركانه، كما كنت فعلت أولا، وعلي هواك الجديد.

نزلت هذه السيدة وزوجها بالهند أول مرة، ونزلا عند اصحاب لهما، ولما طال بهما المقام، قال لها زوجها ذات مساء، وهو يتأهب لسفرة غير قصيرة: لقد مكثنا هنا طويلا، والضيف مهما خف ثقيل، فانظري في بناء بيت لنا، وانظري ما انت صانعة في هذه السبيل. أربع حجر فيها الكفاية، وهي إذا أصاب تصميمها خطأ كان تصحيحه امرا هيناً، أو كانت الخسارة غير بالغة.

ورحل الزوج، وبقيت الزوجة تفكر. إنهما يسكنان

جبلا ، ويسكنانه حيث يعلو عن الأرض ٨٠٠٠ قدم . وهم قرب خط الاستواء، فالبيت المطلوب لابد ان يتحمل حرارة تتقلب ما بين ستين درجة مئوية ودرجة صفر، أي درجة تجمد الماء، فما دونها. وقد تنقلب سريعاً فتصعد العشرين والثلاثين من الدرجات، أو تهبطها، في أربع وعشرين ساعة. وعلي البيت أن يصمد للرياح الموسمية وهي شديدة عاصفة. ثم هناك النمل يأكل المائدة وهي من خشب في ليلة واحدة.

واستنصحت الناس، فقالوا لها لا يحل المشكل إلا بيت من طين، ذو حائط عرضه قدمان، وله سقف من الخزف المطبوخ،  وذكروا لها أن في القرية مقاولا يقوم ببناء هذا البيت، ولكن لابد مفاتحته في أمر البناء من زيارة أو زيارتين للود . فهكذا كانت عادة القوم.

وأرسلت السيدة إلي المقاول تستزيره، فما لبثت أن رأت عند بابا هنديا طويل القامة، حسن الطلعة، ملففا في ملاءات بيضاء، فكان اشبه بالأمير منه بالمقاول. وانحنى في أدب ثم جلس علي الأرض وتربع، وسألها عن نفسها، كم عمرها، وكم لها من الولد، وسأل عن صحتها وكل هذا على سبيل التعارف. أما البيت فلم يذكر من امرء شيئا إلا وهو يغادر. قال لها : إن بناءه بيتها فرصة من فرص حياته النادرة.

ومضت بضعة أيام ، فإذا به يزورها زيارة للود ثانية وفي نهايتها ذكر البيت. قال: إنه يترك لها تقدير تكاليفه . فلما قالت له إنها غير ثمينة بذلك، سألها عن شكل البيت، كيف تريده فخططته على ورقة، فأخذ الورقة ثم انصرف، وبعد أيام أرسل رسولا يحمل إليها ثمن البيت: إن بيتاً ذا أربع حجرات واسعة ، وله فرندات عريضة، وسقف من الخزف المطبوخ ، يتكلف بالعملة الأمريكية خمسمائة ربال.

فقبلت السيدة هذا الثمن.

ومضي اسبوع ولم يحدث شئ. وفي اليوم الثامن أقبل على قطعة الأرض المختارة رجل عجوز بيده كوز به رمل أبيض، وظل يروح على الأرض ويغدو، والرمل يتساقط من كوزه، حتى تم رسم البيت واستبانت حدوده. وفي نفس اليوم حضرت مواد البناء: أعواد طويلة من شجر الكافور، وشئ من الجير والرمل، ولا شئ غير هذا . وفي الصباح التالي حضر العمال

ونظرت السيدة إلي القادمين فلم تفهم أول الأمر أن هؤلاء ، هم العمال، ذلك لكثرتهم ولاختلافهم، فهم ما بين نساء ورجال، وبين صبية وصبابا. ثم اتضح لها ان المقاول جاء بأهل القرية كلها، وان لكل من أهلها في بناء البيت عمل، إلا من هم دون الخامسة من الأطفال.

أما العجائر فقامت على رعية الولائد؛ وأما الرجال فحفروا في الأرض حفرة كبيرة؛ وأما النساء فحملن إلي الحفرة الماء، ثم حملن بعد ذلك قصعات الطَّفل قصعة فصعة . أما الأولاد فانتزعوا ملابسهم ونزلوا إلى الحفرة بما فيها من طفل وماء وأخذوا يعجنون هذا يذاك عجناً طيباً؛ وأما البنات فقعدن على مرقب يرقبن السحب لينذرن بالمطر إذا اقبل  وكان للسيدة حقل من شاي، فهذا قعد حوله بعض الأشياخ يدفعون الأغنام أن تعبث فيه.

ولما بلغ عجن الطين قوامه المطلوب، راحت النساء تشكل منه الآجر، وتعطيه من بعد تشكيله للبنات يرتبنه في الشمس الحارة ليجف وذهب الأولاد، يكسوهم الطين، إلي الأرض التي سيقام عليها البيت يمهدونها لتفرش بالأسمنت فتكون منه أرض الدار. وخلط الرجال الأسمنت بالان وبسطوه على الأرض. وفي هذه الأثناء جاءت عربة بجرها ثور، وعليها حمولة من الخزف المطبوخ.

وبهذا انتهي عمل اليوم الأول ، وانفض العاملون والعاملات انفضت القرية كلها.

وتبع هذا فترة من الزمن تهيئ الفرصة للأجر أن يجف

ولأهل القرية أن يسمروا ويزأطوا وخرجت أنغام الرباب والمزمار من القرية تصعد الجبل إلي السيدة ليل نهار.

وجف الآجر حتى صار كالحجر. وعندها استؤنف العمل

كان البناء عمل المجتمع القروي كله. تفرش النساء الملاط، وتحمل الاطفال الأجر يضعونه في مكانه السوي من الحائط. وارتفعت الحوائط في سرعة هائلة. ولكنها ما كادت تبلغ العلو المطلوب حتي صاحت صائحة على الرغب العالي تنذر بسحب في السماء قادمة.

ووقعت هذه الصيحة موقع الهلع من قلب السيدة صاحبة المنزل. كان معناها عندها أن بيتها لابد ذائب تحت المطر كما يذوب الملح في الماء. ولكن لا. لقد فاتها أن في أهل هذه القرية البدائية عبقرية وعباقرة كما في المدن والمدنية تماماً .

لم تكد صيحة الطفلة المنذرة تبلغ الأسماع حتى هرع الأولاد إلي الرجال فركبوا أكتافهم ليبلغوا من الحوائط اعلاها وإلى هذه الأعالي تسلقوا ، وعليها رقدوا، وإياها احتضنوا يحمونها من المطر بأجسامهم والذي عليها من لباس. ومس الولد برأسه قدمي صاحبه فكانوا كالسلسلة انتظمت وتشعبت أما سائر القوم فاحتموا من المطر حيث أمكنت الحماية وانفتحت أبواب السماء بالماء، ثم اقلعت. وبقى البيت قائما كما كان.

وأقاموا على البيت سقفه، فكانت قوائمه من خشب يعلوها طبقة من خزف ولم يكن في البيت شئ آخر من خشب، وهو طعام النمل الابيض، غير النوافذ؛ وهذه النوافذ صنعها نجار محترف ما هر. وكسوا الحوائط من بعد ذلك بالجص الأبيض  ولما فرغوا كان البيت لطيفاً جميلاً.

وانقضت القرية تطلب منازلها بعد الفراغ . ولما لم يأت أحد يطلب لهذا البيت ثمنا قلقت السيدة

بعض القلق، ولكن أصحابها هدأوا من قلقها لأنهم عرفوا بالتجربة ما لم تكن تعرف.

ومضي اسبوع، ثم إذا بها تسمع نغماً موسيقياً مقبلاً نحو الدار، فخرجت تستطلع الخبر، فإذا موكب يقترب.

كان على رأس هذا الموكب ولد يزمر. وتبعه المقاول يحمل عودا عليه ليمون. وتبع المقاول ولد يحمل كعكة كبيرة عليها زواق. وأخيرا جاء عامل يحمل صبنية من النحاس عليها ظرف. أما عود الليمون فللبركة. وأما الظرف فكان فيه ورقة بتكاليف البيت.

واعتذر المقاول للسيدة كثيراً أن جاءت التكاليف

فوق ما قدر. لقد زادت عما قدر زيادة حسبها فكانت ريالين وسبعة وخمسين سنتا.

وعاشت السيدة في المنزل سنين، خالت في أثنائها أن المنزل يزداد جدة.

وسألت أهل الناحية كم بقي مثل هذا البيت. قالوا : إذا ولد فيه ال الطفل استطاع أن يستظل بسقفه حتى يرى أبناءه وأحفاده وأحفاد أحفاده.

بارك الله لها فيه، وبارك الله لكل مصري يستطيع ان يجمل من بيوت مصر، وهي من طين، بيونا من الجودة بحيث تستطيع ان تسكها، على استمتاع ، سيدة تأتى من حيث المنازل تنطح السحاب.

اشترك في نشرتنا البريدية