عرفت رجلا قريت ذاكرته ، فذكر بها الكثير من الأشياء ، ولكنه ضعف عن ذكر الأسماء . وكان شعر بالحرج أكبر الحرج ، عند ما كان يأتيه فى متجره زبون قديم ، فيقابله بالتهليل والترحيب ، ويذكر له آخر مسألة لفيه ، وآخر شئ اشتراه ؛ ويجىء على ذكر اسمه ، فلا تسعفه الذاكرة ، وعندها يداور ويحاور ، ويناديه بكل صفات الإعظام ، وأسماء الاحترام ، إلا ذلك الاسم الواحد الذى لا يصدق إلا به النداء .
ويأتى دور كتابة الوثيقة بالثمن ، وهنا لا ينفع اللف والدوران ، فيسأل ذلك العزيز القديم عن اسمه ، فيقول : قل ياسيدي ، أريد أن أعرف اسمك كاملا ، فيجيب الزبون فى شىء من الغرابة : على عبد القدوس ، فيقول : أعرف ذلك ، ولكنى أريد الاسم الأوسط ، فيقول ليس للاسم وسط ، فيقول : إنى آسف ، وقد كنت دائما أظن أن الاسم على أحمد عبد القدوس . وتنطلى الحيلة أحيانا ، وتخفق أحيانا ، ولكنها على كل حال كانت تنفع مخرجا من ضيق .
وأحرج من تحرج الذاكرة من الرجال والنساء : رجال المسارح ونساؤها ، فالممثل ليس من صفائه أن يحسن التمثيل وكفى ، بل لابد له من الذاكرة . وليست الذاكرة ذاكرة ألفاظ وجمل وسطور فحسب ، بل لا بد له من أن يذكر أين يبدأ وأين ينتهى . ويعسر هذا عليه خاصة فى المحاورة والمداولة ، لا سيما إن كانت بين أكثر من اثنين . وعلى الممثل فوق ذلك أن يذكر فى أى مكان من المسرح ينطق بما ينطق .
ومن أجل هذا الجرح كله استنوا سنة التلقين فى المسارح .
والملقن يتخفى فى كل مكان بالمسرح لا تقع عليه الأنظار ، ويكون على مقربة من الممثل المحرج فيناله همسه " بالدليل ". وكثير من الممثلين لا يحتاجون إلى الملقن ، ويكفيهم منه وجوده ، فاطمئنانهم بوجوده ، وهذا يعطيهم الثقة بالنفس ، ويجنبهم العثرات .
ولكن كثيرا أيضا مايحتاج الممثل إلى الملقن فلا يجده، أو يجده ثم لا يسمع همسه . وللممثلين فى ذلك ، والممثلات ، طرائف تحكى وتشاع .
كان الممثل الكوميدى " فل باكر " يمثل فى الرواية الشهيرة ، رواية " الابن المسرف " . وكان يمثل الابن . وغاب الممثل الذى مثل الأب ، وحل محله شخص جديد . وتزيى بزى الأب فى أثواب رجل هرم ، والتحى لحية بيضاء طويلة . ودخل السرح فجلس يستدفىء إلى جانب الموقد . وتناول الصحيفة يقرأها . وبعد ثوان دخل الابن ، فصاح بأبيه : " ها أنذا أبى أعود مرة اخرى إلى بيتنا " ، وانتظر الجواب ، وانتظر الترحيب ، فما كان جواب ، ولا كان ترحيب . لقد أنصت الممثل الأب الملقن فلم تبلغه لقانته ، فعاد الابن يصيح لأبيه : " ها أنذا يا أبى . . " وانتظر الجواب فما كان جواب . عندئذ اتجه إلى النظارة وهو يقول : " إن أبى العزيز الشيخ لم يسمع مما قلت كلمة " . وانتقل إلى غيرها .
وحدث للممثل الشهير " روبرت جليكار " ، أن هرش على من أعانه فى دوره من الممثلين بأن دار على المسرح يمينا ، وكانت الخطة أن يدور يسارا . وتابعه الممثلون وهم فى دهشة من أمره . وانعكست الحركة فى الدوركله ، وكان سبب ذلك أن فردة شاربه اليمنى كانت قد سقطت ، فدار حتى لا يدرك القوم ما حدث .
والممثلة " بيجى ريان " ، أرادت أن تستغنى عن الملقن ، فكتبت كل "أدائها " على ظهر الستار الأول من ستائر المسرح بحيث تراه ، ولا يراه المتفرجون من بطن الدار . ومضى المنظر الأول بخير . ودخلت إلى المنظر الثانى ، ونظرت ، فإذا " الأدلة " طارت . لقد تغير المنظر فأصاب حتى الستار الأول . ولفوه فارتفع إلى السقف وفى عليه " الأدلة " الغالية .
وفى رواية " العيش مع والدى " ، فصل يظهر فيه الوالد من فوق سلم الدار ليلقى ولديه الصغيرين عند أسفله ، ولكنه ظهر على السلم فوجد المسرح خاليا كان المعجبون أرسلوا للصبيين بهدايا ورسائل للإعجاب والتحية ، فاشتغلا بها وراء الكواليس ، ونسيا أن وراءهما دورا يلعبانه . ودخلا إلى المسرح متأخرين ، فما كان من الممثل اللبق ، إلا أن عاتبهما معاتبة الرجل الكبير أطفاله على أن لم يكونا عند قام السلم عند ما دخل ، وذكر لهما ما كان عليهما أن يقولاه له ، فأصلح بذلك ما فسد ، فى أسلوب ظن معه راؤوه وسامعوه أنه بعض الرواية ، إلا من عرفها .
وفى الأبرا الشهيرة " لوهن جرين " فى أحد مناظرها منظر تدخل فيه بحعة إلى المسرح . وفى ليلة من لياليها تطوع زوج المغنية الأولى أن يعفى الملقن من واجبه ، ليقوم هو به . واتفق مع من يدخلون البجعة إلى المسرح أن يشير إليهم بوقت ذلك ، يرفع منديله ، فيدخلوها . وكان التلقين عملا له جديدا ، وتبعة ثقيلة لم يتعودها . وثقلت عليه فأثرت فى أعصابه ، وكان الصيف ، فأخذ العرق يسيل من جبينه . فرفع منديله إلى رأسه يمسح العرق . فظن القائمون بأمر البجعة أنها الإشارة ، فساقوا البجعة داخل المسرح . فما رأتها الممثلة حتى اختصرت دورها اختصارا لتحيى البجعة فى ى تخطرها . وكان من ذلك ان تقدمت الرواية على الموسيقى خمس دقائق . وإن استطاعت الممثلة أن تتقدم لم تستطع الموسيقى أن تجاريها . وأنزل
الستار ، والموسيقى تعزف أشد العزف استكمالا لدورها . فكان هذا حدثا فى تاريخ المسارح عظيما .
وإن لقى الممثلون الحرج من نسيانهم ، فقد يلقى الملقنون حرجا لا يقل عن حرجهم . وأكبر حرجهم يكون فى انتظار الحرج أن يسعفوه . فحرجهم من النوع العصبى الذى يجده المرء وهو ينتظر الواقعة أن تقع ، والنازلة أن تنزل .
ومن صفات الملقن الصبر . ولكن قد يحدث ما يضيق به صدر الملقن ، فينفجر . حدث هذا لملقن معروف ، وقع له فى رواية ، أن ممثلين خمسة ، فى منظر واحد ، ظلوا يرسلون له الإشارات بطلب الإسعاف ، وهو يسعفهم ولا يلاحق . وكيف يسعف خمسة فى مسرح واحد ، فى منظر واحد . فلما بلغ الضيق به الغاية ، أمسك بالنسخة التى يلقن منها وقذف بها فى بؤرة المسرح ، وهو يصيح غاضبا للممثلين : هذه هى الرواية ، فاستخرجوا منها ما تريدون .
وقد يحدث أن ينسى الممثل ، فيكون ملقنه الممثل الذى يشاركه ، لأنه أحفظ منه . حدث مرة فى رواية أن كان زوج وزوجة يتعاركان . وسب الزوج الممثل زوجته . وأرادت أن تكيل له الصاع صاعين . ولكنها وجدت صاعها فارغا . ونظرت للملقن فلم تسمع منه . عندئذ استدار لها الزوج وهو يقول : إنك لا أمل فيك يا عزيزتى . لا أمل فيك أصلا . حتى السب لا تجيدينه ؛ إنى لو كنت مكانك ، وسمعت سبا كهذا من زرجى لأجبته بكذا وكذا . وبهذا قال ما كان يجب عليها أن تقوله ، وخلص الموقف ، ولم يفطن له أحد .
إن اللباقة ، وحضور الذهن ، ضرورتان لازمتان لأدوار المسارح ، وهما كذلك لازمتان لأدوار الحياة . فكم خدمت الكلمة الواحدة ، أو الحركة الواحدة ، أو الفعلة الواحدة ، من مواقف ، وكم دفعت من مكاره .
