واستطرد محدثي يقول : إن الانتحار شائع بين الطلبة في اليابان شيوعا عجيبا . وإن طلبت أسبابه وجدتها في سوء صحة الطالب ، وفي المجهود المفرط الذي يبذله في الدرس ، وفي ارتباك نفسه واختبالها بين الذي يتعلم كبيرا وما تعلمه وتنشأ عليه صغيرا . وسبب آخر ، أن الحب يأتي الطالب اليااني فيخيب فيه . وفي أمم الغرب يطلب الرجل لنفسه الموت ، فيدخل رأسه في فرن الطبخ ، ثم يفتح صنبور الغاز ، فلا يلبث ان يموت موتة غير رائعة . ولكن الحال غير هذا في اليابان . فالرجل هناك إذا طلب الموت لنفسه اختار له أسلوبا رائعا صارخا
ومن أشهر هذه الأساليب وأروجها الهبوط من حالق عال ، من سطح ناطحة من ناطحات السماء ، أو من حرف بركان يقف الهاوي منه على فوهته ثم ياتي بنفسه فيها . وكثيرا ما مررت بأشهر شوارع توكيو ، شارع جنزا ، فوجدت البوليس يمسح ما سال علي أرضه من دم ، ويلم ما اعتثر على رصيف الشارع من قطع من اللحم والعظم - عظم ولحم كانا منذ دقائق إنسانا يتحرك وبتكلم ، ويجري في مجاري الحياة ، ثم توقف ، وعن عمد توقف . رأيت بعض هذا في ظهر يوم وانا غاد إلى عملى . وبعد بضع ساعات ، وانا رائح من عملي ، وجدت على الجانب الآخر من الشارع نفس الذي وجدته في الصباح ، زحاما على لحم وعظام - نفس أخري ضاقت بها الحياة فقذفت بنفسها من نافذة الحياة
وكثيرا ما يكون الانتحار بسبب الحب . وعندئذ بهم المنتحر صفة المكان الذي يضحي فيه بروحه على مذمح الحب في معبد العشاق . وهو عندئذ يختار السكان الجميل الذي يأتلف والعاطفة الجميلة التي دعت إلي رحيل وجب ان يكون الوداع فيه في احضان الشجر بين الزهور وعلي أغاريد ال الطيور . وتتعدد حوادث هذا في المكان الواحد البديع ، فتسوء سمعته ، وهنا يتدخل رجال الشرطة يحمون سمعة المكان كما يحمون سمعة الرجال
ومن امثال ذلك جزيرة أوشما . وهي تقع من البحر قرب الساحل غير بعيد من العاصمة . وكان بها بركان . ولم يكن البركان خامدا ، ولكنه تأثر ثورة هادئة تغري الناس بارتياده . ولم يكن في هذه الجزيرة غير هذا .
ولأمر ما شاء شاب ياباني وشابة أن يختما حياتهما على هذه الجزيرة أول خاتمين . كان قد أصابهما الحب ، وكان حب يفاعة اشتدت في نفسه ثورته وضاع أمله ، فركبا القارب إلى تلك الجزيرة ، ثم صعدا الجبل ، حتى إذا بلغا فوهته ، كتبا على الورق كلمات للوداع حارة ، ثم أمسك كل بيدى صاحبه ، وقدفا بنفسيهما فى تلك الفوهة قذفا
وخرجت الصحف في الصباح الباكر تفئ بالذي حدث عند جبل النار هذا . فتحركت للقصة القلوب ؛ وما ثبتت جزيرة أو شيما أن صارت السكان المختار لكل من خاب في حبه ، فأراد أن يحتج له ، قبل مغادرة دنياء ، احتجاجا مسموعا من فوق هذا المنير الذي ذاع في الناس صيته وارتفعت عندهم حجته . ومشي الناس افواجا يطلبون مسرح هذه المآسي . وتبدلت الجزيرة من حال إلى حال . لم يكن بها خان واحد ، فإذا بالفنادق تنبت فيها كما تنبت الأزهار . وتعددت سبل النقل إلي الجزيرة بحرا ، وتقاربت أوقاتها . وكان الزائر يطلب التحرك في الجزيرة فلا يجد غير عربة واحدة أو عربتين ، وبعض الخيل . أما الآن فقد دخلتها التكسيات وكثرت . وتعددت
الدراب فيها فبلغت المئات ، لتحمل الزوار أفواجا إلي قمة الجبل . وجلس الناس عند فمه ينتظرون فيه على الكمد ويفكرون . ويخالون ويتخيلون . وقد يخرج أحدهم من الجد الأسود إلي المزح المارح ، فيصيح في الناس : الفوهة واسعة ، فمن يكون التالي أيها العشاق ؟
واخيرا تحرك البولبس يحمي الناس مما هم فيه ، وذهب إلي فوهة البركان وأقام على أخطر جوانبها سياجا . وأقام عليها مرايا كبيرة عاكسة ، تعكس للناس صور ما في جوف الجبل من حمم منصهرة متفقمة راغية حياشة . وكان لهذا العمل بعض الأثر ، فنقص عدد المنتحرين ولكنه لم يتوقف . وحدثت من بعد ذلك حادثة مروعة حقا حركت مشاعر الناس وألهبتها . مأساة للحب مفجنة . وعندئذ عمدت جريدة يومية إلى عمل شئ . خطر لها ان تبعث إلى جبل النار ببعثة علمية يكون نصيب الأسد فيها لرجل يوضع في سبت من الزجاج ، يغلق عليه إغلاقا ، ويمهد له فيه سبيل الحياة ، من هواء وماء وضياء . وكذلك يوصل بتلفون . ثم يدلي الرجل بسبته في الفوهة ، ويأخذ يصف ما يري وهو هابط فيها . ويحكي كل ما يرى للناس فوق الأرض بصوت مسموع تحمله الكهرباء ، وارتأت الجريدة أن في الذي سيحكي لا شك ما يخيف ويغزع ، ورجت ان بكف الأحباب بعد ذلك عن تلك المغامرة العظيمة النابية
وأعلنت الجريدة إعلانها في العلماء ليتطوعوا . فما تطوع لهذا منهم احد . أبوا جميعا ان يهبطوا في السبت هبوطا ، على غير عشق ، قد يكون فيه الموت على غير تأجح في العاطفة . وإذا فماذا تصنع الحريدة بعد هذا الإعلان الواسع ؟ إنها لا يسعها ان تتقهقر . وإذا وجب على الرجل الذي ابتدع الفكرة أن يقوم هو مهذا الدور ، وجاءوا إلي المحرر المسكين يبلغونه قرارهم . فانتفض الرجل انتفاضا ، فما كان يخطر له وهو يبتدع الفكرة أنه سيكون كبش الفداء . واحتج ولم يجد له احتجاج . ورتب أمور دنياه
وأمنت الجريدة على حياته تأمينا كبيرا . وجاء اليوم الموعود وتكوكب الناس عند حافة البركان ، وكان جهاز الهبوط قد تجهز . وخطب الخاطبون ، وتحدث وكلاء الجريدة عن الغرض من هذا العمل ، وقالوا : إنه واجب علمي بحت لغرض واحد هو خدمة الناس والإنسانية ، ولم يذكر هؤلاء الوكلاء كلمة عن الريح الفادح الذي ربحته الجريدة برواجها الهائل من وراء هذا العمل الإنساني الجليل . وتسلق المحرر إلى مكانه من الجهاز وهو تأثر الجأش أصفر الوجه . وما هي إلا دقيقة حتي أغلق عليه الجهاز . وما هي دقائق حتى كان الرجل في قفصه المحكم يهبط إلي بطن الأرض . وأخذ الرجل يصف ما يرى تحت الأرض ،
ويردد المذياع صداه للناس من فوقها . ووصف الجدران وما برز فيها من صخور ، ووصف ما اشتبك في رؤوس هذه الصخور من أجسام ادمية منعها اشتباكها من الوصول إلى مداها . وتحدث عن غازات حارة تتصاعد من العجينة النارية المتفجرة بقاع الفوهة ، فنهز السبت المغلف الذي هو فيه هزا . وتطايرت من تلك العجينة الحامية كتل من نار مرت بالسبت ، فكادت تصيبه ، ولكن الله سلم
وزادو الرجل في جوف الجبل هبوطا ، فأخذ يشكو الغاز الذي كاد يخنقه ، ويشكو الأهوية الصاعدة ، وقد أخذت تؤرجح مركبه أرجحة تزيد كلما هبطوا به خطورة . وبدأ الضعف يدخل على صوت الرجل ، وبدا الإعياء يصيبه ، وعندئذ قدرر القائمون بالأمر انهم بلغوا مما ارادوه الغاية . فرفعوا الرجل فلما فتحوا عنه وجدوا وجها أبيض كالقطن ووجدوا أضلاع عام تجفة . وعبنا جاحظة من هول ما رأت وأعصابا محطمة من طول ما صبرت .
وتقدم رجال الإسعاف يردون الرجل إلي الحياة . وانتهت التجربة العلمية ، او التى هكذا أسموها . واشبعت رغبات الألوف من الناس الذين اجتمعوا ، وارتوت أحاسيسهم من تلك اللذة السوداء .
وتسألني عما يحدو بأهل البابان ان يقتلوا انفسهم هكذا ؟ وإنك لواجد سبب هذا فيما طرأ على اليابان في السنوات الأخيرة من تبدل في الرأي والعقيدة والعادات
ومن ذلك رأيهم في الحب . ففي الأجيال الماضية لم يخطر لرجل قط ان يتحدث عن حبه لزوجته . إذا لمسه العار الذي لا يمحي . إن الزوجة تختار للرجل اختيارا ، فلها منه حقوق الزوجة ، أما الحب فللخليلات والبغايا . بدأت آراء الغرب الحديثة تدخل اليابان . واخذت فكرة الحب وضرورة بروزها بين الزوج والزوجة تشيع في الناس .
والهبت خيال الشباب من بنين وبنات . وقراوا وقرأن قصص الغرب وما احتوته من صنوف الحب ، فزاد خيالهم وخيالهن بها إغابا . وطلب الشبان الشابات لحب ، وذهبوا بهن الي أسرهم يطلبون التأمين على ما اختاروا لأنفسهم من زيجة .
وعندئذ يصطادم الحاضر بالماضي ، والحديث بالقدم ، والشبان بالشيب ، فتابي عليهم الأسر ما زعموا ، فيضيع الأمل فيهم . وتسود الدنيا في اعينهم ، فيجدون المخلص في مثل ما كان لبطل قصة قراؤها من خاتمة . وما ذاك إلا الموت يهويان إليه معا ، حضنا في حضن ، وشفة على شفة
فكرة جميلة ! ولكن جمالها لا يبقي طويلا بل ما جمال فكرة يفني بها الحب والأحباب ؟ .
