الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 306الرجوع إلى "الثقافة"

بين المسموع والمقروء

Share

مخالب القطط

كتبت في " الثقافة " منذ عام كامل ، مقالة عنوانها " كلبي " أعجب بها كلبي كثيرا ، واعجب بها سائر الكلاب ، فجاءتني طائفة منها تحييني بالورد والريحان .

وفي الأسبوع الماضي هزني الشوق إلى حمرة الورد ورائحة الريحان ، فقلت أكتب هذه المرة عن قطتي ، فلست أحسب أن القطط أقل وفاء من الكلاب .

فكتبت مقالة شائقة حقا في قطتي ، وفي قط ولد لها انجبته من اشهر قليلة ، فكان نجيبا . وتحدثت فيها عن جلد لهما أملس كالحرير ، في ترقط كترقط النمر جميل ، وعن عين خضراء ، وانف فطساء ، ووجه نبيل ؟ وتحدثت عن حركة كحركة الفهود ، وجلسة كجلسة الأسود . كل هذا قلته ، وقلت أكثر منه ، وخيرا منه .

وقد كنت علمت قطتي القراءة استجابة للدعوة القائمة بمحو الأمية ، وقياما بواجب كل رب اسرة ان يمحو ما استطاع منها في بيته ، ثم في بيت الجيران ، وجيران الجيران ، ثم الأبعدين

وخرجت لحاجة عن داري ، وتركت مقالتي الثمينة منتشرة على مكتبي . أفتدري ما حدث

عدت فوجدت القطتين قد استعارتا منظارين لي ، وجلستا على المكتب تقرأان . وما احستا برجوعي حتى عكفتا على المقال تمزقانه  شر تمزيق . وفعلتا ذلك في سرعة البرق ، فما استطعت ان استخلص منهما قطعة من ورق . ما كنت أحسب أن بمخالب القطط هذه السرعة هذه القسوة .

وهل تدري لماذا كان هذا ؟ كان لاني غفلت فذكرت شيئا حميدا عن كلبي ونسيت ما بين القطط والكلاب من عداء قديم مقيم .

في الكتب

قال المتنبي :

أعز مكان في الدنا ظهر سابح         وخير جليس في الزمان كتاب

وقال بيكسن

تحفظ رفات الملوك والعظماء كريمة في مقابر فاخرة ، أما رفات الكتاب فتحفظ كريمة على الأرفف في دور الكتب ،

وقال منتسكيو : ما أصابني ألم أو نزلت بي ضائقة ، إلا خففت من هذا وفرجت من هذه بقراءة ساعة في كتاب طيب .

وقال هيوم : ماذا أريد ان انال فوق ما نلت ؟ زوجة ؟ فهذه ليست من ضرورات الحياة ! أم كتبا ؟ فهذه من ضروراتها ، وعندي منها فوق ما يكفيني .

وقال ماكولي : لو خيرت لاخترت أن أكون رجلا فقيرا يعيش في حجرة حقيرة ، وحولي كتب كثيرة ، على أن أكون ملكا في قصر كبير ليس فيه كتاب .

وقال شيشيرون : الكتب غذاء الشباب وعزاء الشيخوخة . وهي في النعمة زينة ، وفي البؤس راحة . وهي في وحدة الليل أنس ، وفي السفر رفقة ، وفي عزلة الريف صحبة .

وقال بيكسن أيضا : من الكتب ما يكفي المرء منه مذاق ؛ ومنها ما يبلع بلعا ؛ ومنها ما يمضغ ويهضم هضما .

دين انج والكتب

وقال دين إنج Dean inge صاحب هذه الاقتباسات ، وهو من أشهر ذوي الفكر في هذا العصر : إن الرجل العجوز الذي تبلي أذناه قبل أن تبلي عيناه ، يندفع بحكم الضرورة إلى القراءة الكثيرة . لقد كانت الكتب أكبر متعي في هذه الحياة ، واليوم في هذه السن صارت هي كل متعتي

يذكرني هذا بقول عمر بن الخطاب في شيخوخته . قال ما معناه : لم يبق لنا من لدة العيش إلا محادثة الرجال ذوي العقول الراجحة ولم يكن بعصر ابن الخطاب قراءة ولا كتب . ولو كانت لقال : إلا محادثة الرجال ذوي العقول الراجحة في الكتب الرواجح

وقال دين إنج أيضا ، ينصح قارئه : لا تقرأ ما يفهم ، ولا مالا يفهم ، واقرأ ما فيه لذة لك أو نفع

ولا تبتئس لكتاب تقرؤه فلا تفهمه . لقد قرأت أنا للفيلسوف الألماني كنت kant ، وقرأت لمواطنه هيجل Hegel فتعسرا على فهمي حتى ضاق بهما ذرعي . وقرات حتى للكاتب وينهد A.N.Whitedhead، والمته لنى ، ومع هذا قضيت الأسابيع احاول ان افهم ما يقول وما يعنى ) وانا مغتبط بهذا الإقرار ، لأن هذه تجربتي أنا أيضا ( .

واحفظ لك كراسة تنقل إليها مختارات قصيرة مما تقرأ . لقد حفظت لنفسي كتابا كهذا ، وحفظته ستين عاما ، وهو اليوم لي أمتع كتاب في مكتبتي .

وإذا أنت عدت من إجازة لك ، فوجدت مكتبتك قد اختلط الحابل فيها بالنابل ، فلا تجزع  فإنما هم الاحبة من أهل بيتك وأبنائك وحفدتك أرادوا بهذا أن ينبئوك فيسروك بأنهم زاروا مهبط وحيك يستوحون .

وإذا أنت عزتك الفطنة فرضيت لكتبك أن تعار ، فا كتب على صفحتها الأولى : " لا تسرق ! فكتاب كان بالأمس قرضه ، يكون في هذا اليوم رده " .

ضمير

كثيرا ما تسمع أن الدين رادع ، وأن الإنسان بلا دين لا وازع له من نفسه ، ولا ضمير . ومع هذا كثيرا ما نجد ذا دين لا ضمير له ، وكذلك قد نجد ذا ضمير لا دين له . وليس في هذا مايحط من قدر الدين وهو رفيع ، ولكن فيه ما يرفع من الطبيعة البشرية التي اودع الله فيها أسرارا منه كبارا ، ومنها الضمير .

والخير عندي أن يكون في المرء ضمير ، وأن يكون له دين ، ذاك طبع وهذا اكتساب . وقد يكون الدين طبعا بغير رسول او رسالة ، إلا رسالة تأتي المرء من اعماق نفسه ، ينبعث شعاعها أبيض ناصعا من سواد قلبه ، فيكون هو الرسول ومن أرسل إليه معا . وهذا اثمن الإيمان وأمتعه

ومن أمثلة الضمير الحي النادر ما قرأته عن شاب ) انجليزي في ميعة الصبا ، خرج عن وطنه وعن اهله ، ثمانية أعوام كاملة ، من أجل . . نصف شلن

اشتدت إلي التدخين رغبته ، وخلا حبيبه ؛ وأمامه مكنة يضع في ثقبها الواضع نصف شلن فتخرج له علبة من السجائر كاملة . وتملكه الإغراء فاحتال على المكنة حتى أعطته علبة دون أن يعطيها ثمنا . وهمه ما صنع ،

فعكر صحوته واقلق نومه . والح عليه اللوم حتى صار مرضا . فلم يجد بدا إلا بالخروج عن البلاد كلها . وإلى اين ؟ إلى حيث يلتجيء البؤساء ، ومن خانهم الزمان ، إلى فرنسا ، إلي فرقة جيشها الأجنبي فتجند بها أربعة أعوام . وقامت الحرب ، فحارب الألمان على ارض فرنسا . وجرح ، وبينا هو على سرير مرضه أخذه الألمان اسيرا .

وعاش في الأسر معتقلا في ضنك وذلة أربع سنين ، على مقربة من باريس . وحرره الحلفاء لما حرروا باريس .

وعاد إلي إنجلترا ، إلي بلده وبعودته عادت أشباح الماضي ، وعادت ذكراه بشعة اليمة . واستيقظ ضميره ، فما كان اشد صحوه . فلم يجد بدا هذه المرة من الفزع إلى البوليس يحكي له ما كان . وظهر أمام المحكمة فعجبت من حكايته

واستفسرت عن حاله وعن اعماله فكان خير حال وكانت أحسن أعمال . فقضت الحكمة بحبسه يوما وكان قضى الليلة في دار البوليس . فلما انتهي يوم المحكمة انتهي يومه هو أيضا .

وخرج يقول : الان قد اشتفي قلبي من بعد ثمانية أعوام

القرض الحسن

هو هذا الذي اقرضه المزارعون ، بقرية دوقام ، مزارعا من جيرانهم ، لما هبطت على مزرعته قنبلة فذهبت بخمسة أبقاره مرة واحدة .

كان أول ما جاءه من المدد بقرة وعجل ، أرسلتهما إليه مزارعة تبعد عنه ميلين . ثم اجتمع اهل الناحية ، في احد الحقول ، فأنشأوا صندوقا اسموه صندوق " حسن الجوار " .

واجتمع في الصندوق مما تبرعوا به ما كفي لشراء ابقار تصل بالمزارع المرزوء إلى مثل ما كان له قبل النازلة . وبقيت ١٦٠ جنيها تبرعوا بها للمستشفى

شيخ مرح

شيخ بلغ عامه الثامن والثمانين وهو ضاحك أبدا . ولما مات اوصي ان تحرق جثته على انغام الموسيقى واختار الدور الذي يعزف عند ذلك ، فكان دورا راقصا ، هو الدانوب الازرق ، وهو دور جميل مشهور . ومن الذي

عزفه ؟ الحانوتي . أي والله ! فقد كان من أهل المرح أيضا ، وكان يهوي الموسيقى ؛ فكان له إلى جانب تدفينه الاموات ، فرقة تدفن بالموسيقي عموم الأحياء . فهذه الفرقة هي التي ارسلت انغامها عالية غريبة بين المقابر ، تغري بالرقص قوما عز عليهم القيام ، وطالهم عهدهم بالتخطر على الانغام .

ليت شعري أمرح هذا الذي كان بالشيخ ، أم فلسفة سوداء ، عابثة غامرة ؟ !

شجرة طماطم

حكت لي سيدة ، قالت إنها ذهبت إلي الريف ضيفة وهي صغيرة ، فطلبت إليها ربة البيت أن تخرج فتجمع لها شيئا من الطماطم . ولم تكن عاشت في غير المدينة . وكان على مقربة من بيت الريف هذا اشجار ليمون وتفاح ؟ فذهبت بينها تبحث عما تطلب ، فلم تجد من بينها شجرة تحمل هذا الثمر الأحمر . وعادت إلي البيت تخبر أهله ان الشجر لم يطرح طماطم .

ذكرت هذه الحكاية عندما قرأت أن هاويا من هواة الزرع استنبت شجرا ، في بيت من الزجاج دافيء ، ارتفع إلي أربعة امتار ، وهو يأمل أن يرتفع إلى خمسة أمتار فما فوقها . وهو يحمل ثمرا كثيرا . . من الطماطم .

برنارد شو

كاتب إنجلترا الأشهر . وابن الثامنة والثمانين اليوم . لا يزال مصدر فكاهة لكل قارئ في كل لغة . حدثوا عنه قريبا قالوا :

مثلت له ممثلة روايته الشهيرة " كنديدا " . وبعد الليلة الأولى أبرق لها " شو  يقول : لا احسن من هذا ولا أجل فأبرقت له الممثلة تقول : هذا مدح كثير وإطراء زائد !

فأبرق لها الخبيث يقول : إني قصدت الرواية . فأبرقت إليه الخبيثة تقول : وهكذا قصدت .

وحدثوا عنه قالوا : اخرجت إحدي شركات السينما رواية " شو  المعروفة " بجماليون " . وحضر عرضها الاول . وكان في تلك الليلة كثير الفرح كثير الإبتهاج . وطلب إليه الكثيرون إمضاءه في بعض أوراقهم للذكري ، ففعل عن طيب خاطر .

ورجوه ان يظهر في ختام الرواية على المسرح . ودهش القوم عندما رضي حتي بهذا . وكان بالطبع تصفيق شديد هز المكان . ولما هدأت العاصفة صفر له شاب في أعلى الدار فماذا يصنع شو ؟

صنع ما لا يخطر على بال . لوح للشاب بيديه يحييه . ثم قال له : نعم نعم يا صديقي ؛ إنك على حق . وأنا معك في رايك هذا الذي اعلنته بالصفير . ولكن ماذا يصنع عاقلان مثلي ومثلك في هذا الحشد المجنون .

وعندها انطلقت الضحكات عالية تهز المكان من جديد

اشترك في نشرتنا البريدية