روزفلت
منذ أيام قضى الشعب الأمريكي فيمن يكون رئيسه في السنوات الأربع المقبلة ، فكان روزفلت . وبهذا تحقق الإستمرار الذي رغبته كل الامم ، ولم تستطع ان تنبس بكلمة عنه خشية القيل والقال - خشية أن يعد الشعب الأمريكي ما قد يقال تدخلا في حرية الانتخابات يكون جوابه لاشك انصراف كثير من الناخبين عن روزفلت ، فالأمم الحرة أشد ما تكون حساسية لحرية لها ينال منها ، أو تخال انه قد نيل منها ، ولو بالكلم الغريب ، يقال في البلد الغريب ، ولو قامت دونه البراري والبحار
وبانتخاب روزفلت لم يتحقق استمرار رغبته الامم للحرب ، بل يتحقق كذلك استمرار رغبته للسلم القادمة . فالأمم لا تزال تذكر الصدمة الكبرى التي قصمت ظهر النصر الذي كسبه الحلفاء في الحرب العالمية الماضية ،
بخروج الرئيس " ولسن " من البيت الأبيض بسقوطه في انتخاب الرئاسة الذي جري عقب تلك الحرب مباشرة .
إذ بخروجه ضاع كسب السلم الماضية ، وضاعت ما رجته الآمال في جامعة الأمم . وانزوت الولايات المتحدة انزواءها المعروف عن مشاكل الدنيا ، فانخذل بذلك انصار السلام ، وانساقت الفرصة لدعاة الحرب ، وانفتح الباب لأطماع هؤلاء وهؤلاء ، حتى كانت الحرب الحاضرة التي انزلقت إليها الولايات وهي راغمة ، لأنها بعض الدنيا . فعودة روزفلت اليوم قد نفست عن حلفاء الولايات المتحدة خشية ضاقت بها صدورهم شهرا كاملا ؛ فقد ضمنت لهم هذه العودة أملا معقولا في سلام مكسوب ، وضمنت لهم أن أمريكا لن تعتزل عن العالم كما اعتزلت في ماضيها الأليم القريب .
وقد عاد الرئيس روزفلت إلي البيت الأبيض بما بذل له عمال الولايات من معونة ، وما بذل له رجل الشارع من صوت - رجل الشارع الذي يعبر عنه الأمريكان " بالرجل الصغير " little man- فأساس انتخابه إذا ديمقراطي . فهو سيتجه بحكم انتخابه ، وبحكم طبعه ، إلى وجهات ديمقراطية ، أغراضا وأساليب .
روزفلت والصهيونية
ونعلم أنه انصاع لضغط خزيه ، فرضي ان يؤيد حزبه ما تطلب الصهيونية ؛ وليس هذا من الديمقراطية في شئ . ونعلم أنه لولا ظروف الانتخاب ما انصاع ، فقد كان ما يرتجي لروزفلت من اصوات ، وما يرتجي منها لخصمه ،
متقاربين متلاحقين ، فخشى الانصار بحق ان يكون صوت اليهود مرجحا . وبدا انصار المستر " ديوي " يستميلون اليهود بتصريحهم المعروف فلم يكن بد لانصار روزفلت ان يردوا التوازن ، والحظوظ متقاربة ، بتصريح كتصريح خصومهم
وهم إن لم يفعلوا ، إذن لفقدوا الرئاسة ، وفقدوا القيام على دفة السياسة ، وأضاعوا وأضاع العالم معهم شيئا كثيرا مما يرتجي على يد الديمقراطية من خير ، وهو خير يتضاءل معه وعد يعدوه للصهيونية تحت ضغط الحوادث ، وكذلك يتضاءل إنكاره إذا ما انفرجت الحوادث وانبسطت أساريرها .
إن الصهيونية شهرت مسدسها وصوبته إلى رأس الديمقراطيين ، وأمر رجوعهم إلى البيت الابيض مشكوك فيه اكبر الشك ، وقالت لهم : وعد لفلسطين منكم وإلا اسقطناكم ! فوعدوا . ولكن والمسدس ذو حشو وذو إصابة ، فهو وعد تحت إكراه ، يزول في ظل الأمن
وفي حماية البوليس ، وفي كنف القانون . على أنه من وعد ؟ إنه حزب ، والحزب في أصوات
رجاله وسطور جرائده وإذاعات أنصاره ، غيره في دست الحكم .
وعلى أنه فيم وعده ؟ وعده فيما لا يملك وهو رأي لأمة إلي جانبها أمم . وهو رأي عن امة إلى جانبها أمم أنصار حلفاء وهو رأي سيكون محك الديمقراطية التي يتغني بها اليوم كل إنسان . فإما إنصاف فشكرناهم ، وإما غير هذا فعرفناهم .
خلق عظيم
إن الأمريكان قوم على خلق في الساسة عظيم ، لا يستطيع المرء أن يجمع بينه وبين تلك اللوثة التي لاثوا بها ثوبا لهم عرفه الناس ابيض طاهرا . ولهم كل يوم في مجال العدل جولة ، وفي معرض الجمال صولة ، ولهم في الخلق قدوة
وهل قدوة كهذا الحديث الذي اذاعه منافس رئيسهم ، المستر ديوي ، بعد ان بان له الخذلان . اذاع على الاثير ، والليل ضارب اطنابه ، يقول للناس ، وقد غلبتهم حمى الانتخاب على ما بأعينهم من نعاس :
" إن الرئيس روزفلت قد انتخب لمرة رابعة ، ولا شك أن كل مواطن صالح يذعن لإرادة الشعب عن طواعية إني لاتقدم للرئيس روزفلت بتهنئتي الخالصة ، وادعو الله ، ويدعو معى كل امريكى ان يحفظ الله رئيسنا ويحميه ويهدي خطاه في السنوات العسيرة القادمة " .
خطورة الاعلان
وعلى ذكر الانتخابات الأمريكية نذكر أن أمريكا ، على نقيض إنجلترا ومصر بها أكثر من هيئة للإذاعة واحدة . ومحطاتها ، على نقيض مصر وإنجلترا ايضا ، تأذن بالأعلانات أن تذاع منها ، ومنها الإعلانات التجارية والخطب السياسية . وقد استخدم الرئيس روزفلت هذه المحطات في حملته الحاضرة للرئاسة ، وكذلك استخدمها منافسه ، وكان منافسه أكثر استخداما بالطبع لها ،
لأنه أكثر فراغا ، فهو ليس يحمل مسئولية الحكم ، وهو ليس يحمل مسئولية الحرب . وقد تنبأ المتنبئون بنجاح " دعوي " ، وقد بنوا هذا على عدد ما حظي به من إذاعات ، وإيمان أهل الرأي في امريكا بخطورة الإعلان والنشر والإذاعة لا يقاربه إيمان في امة اخرى . والإعلان من اجل هذا له ثمن في امريكا لا يقاربه ثمن في أمة اخرى .
الاذاعة تجارة رابحة
حتى الإذاعة عند الأمريكيين بالثمن . فالإذاعات فيها ليست للحكومة ، ولكن لبيوت للتجارة حرة ، تتخذ من الإذاعة وسيلة لكسب المال . فهي تؤدي إلى الجمهور خدمات ، من تثقيف وتفريح وتفريج ، وموسيقي وأخبار . وهي تؤديها بالمجان . ولكنها تسترد نفقة كل هذا ،
وفوق هذه النفقة كثيرا ، من ثمن الإعلان . وهي لهذا تتنافس فيما بينها في تأليف أحسن البرامج ، وفي إغراء أحسن الفنانين وأشهر المتكلمين ، وهي بهذا الطعم تصطاد ا كبر السمك وأدسمه في بحر التجارة والصناعة والأعمال ، وهو بحر ملئ بالخير والصيد الكثير .
علقم معسول
وقد كان الإعلان دائما غير محبب للسامعين ، لا سيما الإعلان عن عجينة للأسنان أو جلاء للنجاس بين قوم يسمرون ؛ فهو نشاز دائما في أسماعهم ، مر كمرارة العلقم في حلوقهم . ولكنهم يصنعون به ما يصنع الصيدلي بالعلقم ، يغشيه بالسكر فلا تحس عند البلع بمرارته وطريقتهم في ذلك أن يأتوا بالإعلان السمين الثمين
ويأتوا بخير المغنيين . ثم يطلقون المغني على الهواء يرسل الأنغام إرسالا ، حتى إذا ظنوا أنه ملأ أسماعا ، وحرك قلوبا ، ولم يشبع بعد ، قطعوا عليه بالإعلان يسمعه الناس غصبا أو رضاء . ثم يعود المغني ليصل ما انقطع حتي يمتع ويشبع .
والمغني يأخذ أجرين : أجرا لغنائه ، وأجرا لقطع غنائه . وكذلك يأخذ الفنانون ذو الشهرة الكبيرة من غير أهل الغناء .
وبين يدي الآن أمثلة مما يأخذ هؤلاء الفنانون أجرا للإذاعة الواحدة . وهو يتراوح بين الفين وأربعة آلاف من الجنيهات .
ولكن كذلك بين يدي أمثلة مما يدفع أصحاب الإعلان من ثمن لعلقمهم ، وهو أضعاف ما تدفعه إدارات الإذاعة للفنانين ؛ وهو يزيد ثمنا كلما زاد السكر الذي يغطيه إلى حلوق الناس حلاوة .
والذي جاز ويجوز على أرباب الإعلانات التجارية ، جاز في هذا الشهر الذي مضي على أرباب الإذاعات السياسية في تلك الحملة الانتخابية ، فكان على السياسي الذي يريد
إذاعة ، أن يدفع أجر الفنان الذي يريد أن يقطع عليه فنه ، وأن يشتري صاحب الإعلان التجاري الذي كان له أن يقطع على المغني لينزل عن صفقته التجارية لتستبدل بها المحطة صفقة سياسية
وقد بلغ ما دفعه روزفلت في إذاعة واحدة ١٧٤٧٥ من الجنيهات . وهو عدد غير مستدير ، أي عدد يدخل في تقديره الحساب بالجنيه الواحد لا بالمئات ، وهو دليل حسبة مفصلة عسيرة نتجت عن جمع جملة من اعداد ، ودخل في تسويتها عدة من اعتبارات . وهو مبلغ كبير . وليس بدافعه روزفلت ، وإنما يدفعه حزبه ، حزب الديمقراطيين . ولديه بالطبع مال كثير ، ولكنه محدود بالقانون ، فهو لا يزيد على ثلاثة أرباع المليون من الجنيهات
