السهورى بك فى وزارة العدل
كتب أخونا السهورى بك فى الأسبوع الماضى مقالا ، استكتبته إياه مجلة " الاثنين " كان أكثره مذكرات يومية كتبها عند ما تولى وكالة وزارة العدل فى هذا الشهر الحاضر .
قرأت هذا المقال فوجدته ، على الرغم من حلاوته ، وعلى الرغم من جرأته ، من ألذع ما كتب فى وصف الوظيفة الحكومية ، حتى كبريائها فى الدولة ، وبغير نظر إلى عصر دون عصر ، وعهد دون عهد ، وقد تكون بلا نظر إلى أمة دون أمة .
وصديقنا السهورى قانونى ضالع ، عرفناه فى التأليف متدفق الأسلوب ، فتافا المعانى ؛ ولكن هذه هى المرة الأولى التى أعرفه فيها بالكاتب الذى يسميه الإفرنج سنكا Cynica ، وهذا لفظ شق على الكتاب ترجمته لأنه لفظ ذو تاريخ ، فهو أرستقراطى عتيق . واللفظ لأرستقراطى العتيق لا يسهل بل لا يجعل أن يقاتل فى ساعة باغتة بلفظ ديقراطى يختار شعبيا من جمهور الألفاظ ، فلا يكون له ذلك الماضى الطويل النبيل .
و " السنك " لفظ إغريقى قديم معناه الكذب ، فإذا استخدم صفة كان معناه كلبيا ، نسبة إلى ما فى الكلب من عبوسة وفظاظة وجفاء ، فلا بد أن كلب الإغريق كانت هكذا صفته ، ثم غلب اللفظ على طائفة من فلاسفة الإغريق ، عرفوا بالكلبيين ، لا يؤمنون بالغرض الإنسانى أنه بوجه إلى غير النفع الشخصى .
ومن هؤلاء الفلاسفة ذاك الفيلسوف الذى سار فى ضحوة النهار ، وبيده مصباح موقد . فلما سئل ماذا يصنع
قال : أبحث عن إنسان .
و " السنك " فى العصر الحديث تطلق على كل هرءة سخرة لا يؤمن بالصلاح الإنسانى ولا بالبراءة الخالصة أن تكون فى أعمال الإنسان .
ومن هذه الصفة نشتق صفة لصديقنا السهورى فيما كتب ، أو على كل حال هكذا حسبت .
فهو قد تولى وكالة وزارة المعارف منذ أعوام ، وهو يتولى هذا العام وكالة وزارة العدل ، فلا يكاد يحس فرقا بن حاله فى تلك بالأمس ، وحاله فى هذه اليوم . بل هو يجهد نفسه إجهاد ليجعلها تدرك أن هذه وزارة غير تلك - أن هذه العدل وتلك المعارف صدقا لا كذبا .
وهو يقول : ما أشبه الليلة بالبارحة . المهنئون هم المهنئون ، وموظفو ديوان العدل لا يختلفون فى أعمالهم عن الموظفين فى ديوان المعارف . فمديرو الإدارات والمراقبون ورؤساء الأقلام لا تختلف " اختصاصاتهم " عن " اختصاصات " أمثالهم فى وزارة المعارف .
ثم هو يتساءل : أتكون وزارة العدل هى وزارة المعارف ؟
فأى سخرية صادقة هذه السخرية ، وأى لذاعة ! ثم هو يتناول " تصريف الأوراق " فلا يجد فيها من جديد : قاض ينقل اليوم من محكمة إلى محكمة ، كما كان ينقل بالأمس مدرس من مدرسة إلى مدرسة ؛
وأوراق للحسابات والمستخدمين تمضى كتلك التى كانت تمضى بالأمس تماما ، تحملها إليه وجوه أشبهت تلك التى حملتها بالأمس ؛ وتقارير عن تفاتيش كالتى كان يطالعها من سنوات قريبة ماضية ، ثم يخرج من هذا بأنه ليس فى وزارة المعارف ، ولا حتى فى وزارة العدل ، وإنما هو فى وكالة وزارة وحسب ، وحسبه بذلك إدراكا وإيمانا .
ويريد أن يجدد ، فيطلب أحد المديرين ، ويقول : هيا انتهز فرصة أتى وكيل جديد ، وتقدم بإقتراحاتك
الجديدة قبل أن أصبح وكيلا قديما . فيندهش هذا المدير المسكين ، ويخرج مبهوتا . وعندها يذكر صاحبنا ، صاحب الكرسي الجديد ، أنه إنما استنصح للتجديد موظفا صار بحكم الزمن عتيقا .
وتريد أن يخرج عن الروتين . فيأخذ يصغى إلى رجال القضاء فيما يحقق المصلحة العامة ، فيجد من الآراء التى تعرض ما يتصل بتحسين حال رجال القضاء ، ويجد أن هذه هى مسألة المسائل .
ثم هو بجمع هذه الآراء ، ثم يتفهمها وينظمها ، ثم يحملها إلى الوزير ، كما يصنع الساعى ببريده تقريبا . ثم هو يجد من الوزير أذنا صاغية وقلبا واعيا . ومعنى هذا أنه فى غير هذا العهد ، ومع غير هذا الفرد ، قد يجد أذنا صماء وقلبا نساء مضيعا .
فهذا هو جملة ما ارتاء صديقنا فى كرسيه الجديد ، وصفه وصف رجل عالم يرى نفسه فوق الكرسى وفوق الوظيفة ، فى زمان يتهافت فيه على الكراسى أكثر جهال البلد وأكثر علمائها .
وما كان لى أن أسوق هذا الحديث ، وأعبد وأؤكد فيه من معان ، لولا مجلس حضرته امس ، ضاق به صدرى أكبر الضيق ، لظاهرة انتشرت بين الكثير من كبار الموظفين ، منذ عشرة وعشرة من السنين ، منذ أن كثر سقوط الحكومات ، وتعدد انحلال البرلمانات . ذلك أنهم يرحبون بكل تغيير ربما يعرفون أين هم منه ، وأين أقدامهم من درجاته ، فإن درجوا على السلم إلى أعلى زادوا بالحكم ترحيبا ، وزادوا لرجاله حمدا . وإن كان غير ذلك فترت هممهم ، وغاب حمدهم ، وحضر ذمهم ، ولم يروا لا فى الحكم ولا فى البلد ولا فى الدنيا خيرا يرجى .
والعجيب أنهم يخدعون عن أنفسهم ، فيذكرون أسبابا لهذا الاستياء ، هذا الفمل ، وهذا الصنيع ، وهذا الحل وهذا النقض ، وقد يكونون فيما يذكرون صادقين ن وقد يكونون فيما يذكرون خاطئين جائرين ، ولكن
العبرة فى كل هذا أن مرده كله إلى ما خفى فى صدورهم من سبب دفين ، يتعلق بذواتهم أكثر مما يتعلق بذوات الحاكمين ، من ملائكة وشياطين .
ثم إلام هذا الصبو ، وإلى أى شىء هذا التطلع ؟ إلى مثل ما وصف صديقنا السهورى فى ذلك الأسلوب البريىء القاتل .
إن الأعمال الإدارية الكبرى فى البلد أعمال لا شك ذات خطر ، ولكنها ليست دائما مما يحمدها ويرضاها عاقل لعقله ، ولا كاتب لقلمه ، ولا عالم لعلمه ؟
ومنذ عام أو عامين تكرم أحد الوزراء بإهداء كتاب له إلى ، ولم يكن عندئذ فى الوزارة ، ولكن كان ينتظرها ، فكتبت إليه شاكرا ، ودعوت له الله أن يجعله أكثر فراغا لما هو أنفع وأبقى على الدهر وعنيت بالأنفع والأبقى أنتجة تأليفه . وإنى لأعجب حقا لوزير يكون على جمجمته تلك الخصوبة ، ولقلمه هذه السيولة ، ثم هو يرضى أن يسكن إلى مكتب يتكأكأ الناس عند بابه ، وأكثرهم نفعيون ، كما يتكأكأ العامة ، من كل ماهب ودب ،
وعلا وسفل ، على مكتب للبوليس بالموسكى أو بولاق . نعم إن فى هذا قضاء مصالح الناس ، ولكن الرجل الذى هيأه الله لغير هذا ، ولخير من هذا ، أولى باستيفاء حاجات العقول وقضاء ديون الثقافات منه بإدارة هذه الحاجات الرتبية الفانية .
وكل يوم تذكر الجرائد أسماء رجال نقول عنها إنها لمعت كالنجوم فى سماء الدواوين . وقد أذكر رجالا سالفين لمعت كذلك أسماؤهم فى سماء الدواوين ، ولكن إلى حين ، فلما هبطت إلى أرض كانت كالنيازك انطفأت قبل أن تمس التراب . وكان أولى بهذه الجرائد أن تقول إنها أسماء لمعت كبعض الكواكب ، وإنه يراد بها أن تتنقل فى أبراجها ؛ وأمثال هؤلاء لا يضيرهم خفض أو ارتفاع ، فهم حيث كانوا من فوق الأرض أو من تحتها ، فى أبراجهم ،
لهم سماء ، لهم فيها التماع وأشاعت الجرائد حديثا أن العقاد ستكون له وظيفة كذا ، وهى وظيفة كبيرة له طعمها عند من يحسنون تذوق طعوم الوظائف ، وهى فى واجباتها أشبه بواجباته هو فى سوق الثقافة الحرة . وحمد الناس هذا القران ،
وحمدوه للزوجة أكثر مما حمدوه للزوج . ولقد أعجبنى وشفا نفسى أن أرى الكاتب الكبير يكبر على الوظيفة التى كبرت ، ويرى لنفسه فى وظيفة الحياة شأنا فوق هذا الشأن .
وأحمد أمين كذلك ، وهو لا يطلع على ما أنشر فى " الثقافة " له موقف يحمده المثقفون الأحرار . كان أحمد أمين عميد كلية الآداب فى عهد قريب مضى . والآن تذكر الجرائد أنه سيعود إلى عمادة هذه الكلية ، صح هذا أو لم يصح ، ولكن العبرة فيما أحكى أن بعض الصحف سأله فى صحة هذا ، فكان جوابه : إنى أصغر من أستاذ ، ولكنى أكبر من عميد .
وهذه كلمة من الكلمات الجوامع ، لعله لا يفهمها حق فهمها إلا الجامعى . ولملك تسألنى أيها القارئ ، إن لم تكن جامعيا ، كيف كان ذلك ؟
ألا فاعلم أن الأستاذ هو عماد الكيان الجامعى ، والأستاذية هى الغاية التى يتوج بها العالم حياته . وهى ثمة الجبل الذى إذا بلغت لا يكون عند بلوغها للمتحول غير النزول ، وتجد دونها على جانب الحبل الشرقى الطلبة والمعيدين والمدرسين ووكلاء الأساتذة ، وتجد دونها على الجانب الغربى العمداء ومدريرى الجامعات . ذلك الجانب للإشراق والصعود ، وهذا للغروب والهبوط . وهو فى العادة هبوط إلى القبر أو استعدادا له ، عند ختام الحياة .
فالمادة عمل إدارى أصلا وفرعا ، وظاهرا وباطنا ، إلا أن يكون العميد أستاذا . وهو لن يكون فى العمادة إستاذا إلا بماضيه ؛ أما حاضره فلا يمكن أن يتسع لمعمل
أو مكتبة . وقد لا يتسع لدراسة من أجل تدريس . وهو فى مصر على الأغلب ناظر مدرسة ، فهو القائم على النظام بين الطلبة الصغار وبين الرجال الكبار ، وهو المشرف على توزيع الجداول والحصص ، وهو القائم على النفقة فى داخل كليته ، أو على الأقل عليه اقتراحها . وهو مفسر القانون وحلال المعضلات ، ولا بد له أن يقتبس من أخلاق رجال الشرطة ما يعينه على تسهيل العسير ، لا سيما فى الحوادث الكبيرة الصارمة التى يتحرك فيها سكان الكلية ، لا فرادى ، بل جماعات .
ورجل هذا حاله ، وهذه مشاغله ، أشبه بمدير لمديرية منه بأستاذ بكلية ؛ هو عميد ؛ هو عمدة كلية . وبهذا تقضى طبيعة الأشياء .
لهذا لا يولى العمادة فى الجامعات إلا رجل أحاله العلم على المعاش لضعفه وكبر سنه . أو رجل فاقت مواهبه الإارارية مواهبه العلمية ، فوضعوه فيما أهلته الطبيعة له .
أو عالم يحب الجاه على العلم ، وأن يكسب من سذاجة الجماهير ، فاختار أن يلمع فى سماء العامة دهرا على أن يلمع في سماء التاريخ دهورا .
والأستاذ المتعمد يطلق غضبا ما بينه وبين العلم ، إلا مراودة غير مثمرة .
من أجل هذا لم يكن فى غير مصر للعميد خطر بسبب عمادته وحدها . وفى إنجلترا يعافها الأساتذة العظام فيتركونها لمن دونهم ولو لم يكن أستاذا ، لأنه أكثر فراغا وأكثر نشاطا .
عرف هذا أحمد أمين ، وعرفه سماعا وعرفه ممارسة ، فقال ما قال : انا أصغر من أستاذ وأكبر من عميد .
وما يقال فى العمداء يقال فى مديري الجامعات ، لأنهم أقدم فى الإدارة ، فأبعد ذكرى للعلم . ولكن مع هذا ففى ذهن العامى أين يقع مدير الجامعة من رجالها ؟ عند القمة . وقد يكون عند القمة بعلمه ، بماضيه ، إن كان
له علم ماض . ولكنه فى عين العلماء هو بحاضره دون العلماء الأساتذة مقاما . وما أصدق من سماه مديرا .
وبالطبع لا أقصد أن أنال بما أقول شخصا معينا بالذات ، إذ لو تناولت الأشخاص لم يكن ليجرى على لسانى إلاكل خير حلو ، وإنما أصف المراكز خالية من أصحابها .
وإنما أفعل هذا لأشيع الحقيقة عارية ، حتى يخفض الناس من غلوائهم فى تقدير تلك المراكز وأمثالها ، فيكون من هذا تخفيض غلواء طلابها ، فلا يكون تكالب على زيف . وكذلك ليفهم كل رجل فى الدولة أن مكانته منها لا يستدل عليها حتما من مكانته بكتاب ميزانيتها ،
وأن له نصيبا فى عجلتها الدوارة الكبرى ، أين كان موضعه منها ؛ وأنه مهما صغر ، كالمكنة قد يعطلها أصغر شىء
فيها ، مسمار ذو برمة صغير .
