الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 310الرجوع إلى "الثقافة"

بين المسموع والمقروء

Share

بائع الدواء الجوال

لو طلب طالب أساليب الخطابة في مصر لوجدها أشكالا وألوانا . فخطاب المسجد ، وخطاب السياسة ، وخطاب حفلة التكريم (وحفلة التكريم في مصر قد أصبحت مؤسسة من مؤسسات مدنيتها الحاضرة لا يمكن ان ينقلها باحث) ، وخطاب الممثل على المسرح ، وخطاب الممثل على الشاشة ، وخطاب الأستاذ في قاعة المحاضرة إذ تحتوي الثلاثمائة والأربعمائة ، وخطاب الرثاء على القبر ؛ ثم انواع صغيرة أخري كخطاب الحاوي فيمن تحلق حوله من الناس ، وخطاب بائع الدواء على قارعة الطريق فيمن استطاع أن يستهويهم فيجمعهم للاستماع له من صنوف المارة . وأنظر في هذه الأنواع أتعرف أصدقها طريقة ،

وأفعلها نتيجة ؛ فيخطف بصري أول خاطف هذا النوع الأخير الحقير ، خطاب بائع الدواء علي قارعة الطريق ، وهو ما لابد من تسميته حقيراً لنحفظ على الأنواع الأخرى من أنواع الخطاب شيئا من وقارها ، وإلا كانت الهرطقة شديدة قاسية علي النفوس .

مررت منذ أسابيع برجل من هؤلاء الذين كلفوا ترويج هذه البضاعة . ولست أذكر بالضبط ما كانت ، فلعلها دواء للعمش ، أو رقع للمقص أو تسكين لآلام الآسنان ولكن الذي عطف بي إلى الرجل حسن حديثه وشبائق خطابه . ولم يكن يتحدث ويخطب عن الدواء ، ولا عن الطب ، ولا عن شيء مما جاء من أجله أصلا كان يحكي حكاية واستمعت إلى الحكاية ، أو إلى ما لحقت به منها

فوجدتها ذات تصميم بارع أشك في أن يقدر عليه الكثير من كتابنا . وقد اختار لقصته مكاناً بالريف ، واختار للواقعة التي يذكرها بيت فلاح . واختار أشخاصها أبا دقماق ، ووليته سرحانة ، ثم دقماق والجاموسة . وتكوكب

عليه الفلاحون في هذا السوق الريفى كما لا يتكوكب أحدهم طوعا على سياسي خاطب . فإن كانت الخطابة تقوم بتأثيرها ، فلقد كان هذا الرجل خطيباً حقاً . بل إنى لأزيد فأقدمه بمناسبة الانتخابات الحاضرة مثلا يحتذيه الخطباء في الريف من طلاب النيابة .

ولا غضاضة في هذا أبداً . فنحن في عصر ديمقراطي ، والديمقراطية تلزمنا بأن تطلب العبقرية أينما كانت ، وعند من وجدت ، ولو عند نداء ينادي على دواء . وغير هذا ، فان هذا النداء يمثل البورصة الناجحة في هذا الريف خير تمثيل ، فاستيحاؤه واجتذاؤه واجب ، ويجب  أن يكون اجتذاء " كاملاً .

وعدا هذا فالحياة غاية ووسيلة . وهذا الخاطب بدوائه له غاية وله وسيلة ؛ وذلك الخاطب بسياسته له غاية وله وسيلة . هذا له بضاعة من عقاقير بزوجيتها ، وهذا عنده بضاعة من آمال بركتبها . ووسيلة هذا اللسان ، ووسيلة ذلك اللسان . والعقل الذي يلعب فيه اللسانان بالخير أو الشر واحد ، فهو عقل الريفى ، وعلم الريفى بالطب  والأطباء لا يملو كثيراً على علمه بالسياسة والسائسين .

والآن فلننظر مليا في أسلوب هذا الرجل الناجح ، النداء بالدواء ، لنري الحكمة ، أو الحكم ، التي أدت إلى نجاحه فأول هذه الحكم أنى لم أسمعه ينطق بالفصحى أبدا . كان يتكلم بلغة القاعة والزربية ، وهي لغة خصيبة خضراء ، تصفر ذبولا إلى جانبها لغة الكتب والمحابر فعلى النداء بسياسته أن يقلد صاحبنا ، نداء الدواء ، في هذا أولا

وقد يعترض السياسي فيقول إنه لن يكون للاجتماع روعة ومهابة ، لن يكون به تلك الشقشقة التي يهدريها فحول  الخطباء ، ولا تلك العنجهانية التي هي شيمة الكبراء والعظماء.

وهذا صحيح . ولهذا أحيل المعترض إلي ديوان الحماسة ، ينتقى منه أبياتا ابيا قليلة تتفق والمقام ، يصدر بها الحفلة الانتخابية ، كما تصدر بالقرآن الكريم الحفلات التكريمية ، فيحدث التأثير المطلوب . وإني إسعافا لمن ليس عنده هذا  الديوان حاضراً ، انتقى له الأبيات الآتية ، وهي للحارث

ابن هشام المخزومي ، وكفى بمخزوميته تزكية وتقديما . قال حفظه الله :

الله يعلم ما تركت قتالهم              حتى علوا فرسي بأشقر مزيد

وشممت ريح الموت من تلقائهم       في مأزق والخيل لم تتبدد

وعلمت أني إن أقاتل واحدا         أقتل ولا يضرر عدوي مشهدي

فصددت عنهم والأحبة فيهم         طمعا لهم بعقاب يوم مرصد

يقولها بصوت جهوري لا يقل عن صوت الاستاذ حسن يسن أبدا ، فهو النهاية الصغري للتأثير المطلوب .

نقول إنهم أن يفهموها ؟ بالطبع يا سيدي ، فهذا مفروض ، بل هو مطلوب . إذ كيف يجتمع الفهم والتأثير المرغوب ؟ إن اشياء الدنيا تعجبك ، أنت أيها المثقف ، وتدهشك ،

لأنها لا تفهمك ! وإنك لتزيدها إكراما واحتراما ، كلما زادتك غموضا وإيهاما ! ما الحياة ، ما الموت ، ما هذه الكواكب التوابع ، وما تلك النجوم المتقدة اللوامع ، لولا ما اكتنفها من غموض وإيهام ؟ حتى الأدب ، ألم تقرأ ما كتبه صديقنا الدكتور طه بك في غموض الأدب منذ أعوام ؟ ذلك الأدب الرمزي الغامض لذلك الكاتب الفرنسي الذي تقرؤه فلا تكاد تفهمه ، ولكنك مع هذا تحس في فليك منه دفئا ، وفي أطرافك منه رعدة ، دونها دفء الحبيب ورعدته عند اللقاء

الغموض ، الغموض ، أيها السادة ! وسيأتي بعد ذلك عصر ، سموء عصر النور ، ستكون غبطة الناس فيه من الفهم والعلم ، ولكن اين تقع هذه من لذة عصر الظلام ، لذة الإعجاب في ترنح من غموض وإبهام !؟

ثم ماذا فعل الخطيب العطار ، من بعد ذلك ، في خطبته عن دوائه .

لم يذكر هذا الدواء إلا أخيرا !! أدخله بين أشخاص روايته في رفق فما تكاد تحس له دخولا .

وهل كان له أن يفعل غير ذلك . إن الدواء طب وتشريح وفسيولوجية وفرما كولوجية ، ولوجبات أخري كثيرة . فأين من كل هذه سماعة ؟ بل أين هو منها ؟ إنه بالقصة البارعة فتح الأسماع ، وشرح القلوب ، ثم ذر فيه ذروره .

فهكذا فليفعل طالب النيابة البارع . في الريف . في أكثر مصر . بفتح الأسماع ، ثم يشرح القلوب . ثم الذرور من بعد هذا توا . والأسماع تفتح ، والقلوب تشرح ، باللسان الذرب ، وبغيره . " وغيره " هذه من نوع " غيره " الذي يوحي بها قول الشاعر : ومن لم يمت بالسيف مات بغيره . " وغيره " هذه ليست قاصرة على مصر ، فهي في إنجلترا وفي أمريكا ، وهي توجد حيث توجد الديمقراطية .

هى نوع من الترفيه عن الناخبين ، جعلت له إنجلترا حد أعلى لطالب النيابة ، 500 جنيه ، ينفقها ولا يزيد عليها . وجعلت له أمريكا 3/4 المليون ، هي الحد الأعلى من النفقات جميعا للحزب الواحد ، ينفقها فلا يزيد عليها . وبهذه المبالغ  الضئيلة حرصت الأمم الديمقراطية على أن يقتصر الأمر على الترفيه ، فلا يكون شراء .

نعم ! نعترض حتي علي الترفيه ؟! تقول إنه يؤثر في الناخب فيختله فلا يحسن اختياراً ؟ لا باسيدي ! إن الناخب ، على الأقل في بلدي ، لا يختل عن شئ ابدأ .

إنه رجل من أحسن رجال الأعمال ، لو عزز بمثله رجال الأعمال بالقاهرة ، لأصابت مصر في مالها خيراً كثيراً .

إن رجل الريف في بلدنا لا يضحك عليه . إن الفلاح الالماني معروف بذكائه ودهائه ، ولكن فلاحنا يفوق هذا في ذكاء ودهاء ، إنه يقبل الترفيه ، ولكن على أنه دفعة أولى ، تتلوها دفعات ، من وساطات وشفاعات ، تأتي من قبل الانتخاب ، فتكون كالفؤوس مصلتة فوق الرؤوس ، وتأتي من بعدها ، فتكون كوخز المسامير في الكرسي الوثير ، ألا كم عاني ويعاني النائب الصغير،  والوزير الكبير ، من مسامير الانتخابات وفؤوسها وذلك في كل عهد وبكل حزب .

كنا ندرس في المدارس قديماً مادة سموها علم الأشياء ؛ علمونا فيها أن لكل شئ لوناً ، إلا الماء ، فهو لا لون له ، وعلمونا انه كذلك لا شكل له ، وأنه بكتسب شكله ولونه من شكل إنائه ومن لونه .

وهكذا الديمقراطية ، لا لون لها ولا شكل ، إلا

من أوانيها .

وتلك الآنية التي اخترناها لديمقراطيتنا ، نحن المصريين ، آنية زجاجية بلورية مزركشة مصورة من آخر طراز أبدعه الفن ، وهي لهذا لم تأتلف ولن تنسجم مع ما وضعناه فيها أبداً. وما الآنية إلا قانون الانتخاب .

إنه قانون اخترناه لأنفسنا في العقد الثالث من هذا القرن . وكان من حقه أن تختاره للعقد الثامن أو التاسع إذا اطرد ما محن فيه من تقدم وما نحن آخذون فيه من تعليم . إنه قانون وضعه حلا مون أمالون .

إن كل أحد ينادي بتغيير هذا القانون ، فأين العمل ، ولم لا يكون النفاذ ؟

لقد قرأت للسنهوري بك في " أخبار اليوم " اقتراحاً باقتباس ، تقتبسه لانتخاباتنا ، من نظام للانتخاب فرضته بلجيكا على نفسها يوم أن لم تكن في مثل ما هي اليوم فيه من تربية وثقافة ، ثم ألفته إلى مثل نظامنا الحاضر لما بلغ شعبها رشده منذ ربع قرن من الزمان .

ومن حق هذا الاقتراح أن يذاع مراراً وتكراراً . وأحسبه مما تجتمع على الرضاء به الأحزاب جميعاً ، فهو يستبقى الاقتراع العام المباشر ، ولكنه يعطي أصواتاً  إضافية لكل ميزة يتميز بها ناخب . وحصر تلك الميزات في ميزة السن ، وميزة الثقافة ، وميزة المال تتأدى عنه للدولة ضريبة . فمن الخامسة والعشرين فما فوقها من أسنان لها صوت واحد ، ولكن إذا زادت السن عن الخامسة والثلاثين كان لها صوتان ؛ وللعقار الذي تبلغ  قيمته ألفين من الفرنكات فما فوق ذلك صوت واحد فوق ما لصاحبه من أصوات ؛ وللثقافة العالية صوتان فوق ما لصاحبها من أصوات .

إنه اقتراح على بساطته بديع حقا ، لأنه يجمع بين حقوق الأجسام من حيث إنها لحم يوزن ، وبين حقوق العقول من حيث إنها القوامة على الأجسام ، وبين حقوق الألفين من الفرنكات بحسبان أنها الحد الأدنى للملكية في شعب ديمقراطي فيه ضمير وله كرامة واحترام .

اشترك في نشرتنا البريدية