الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 312الرجوع إلى "الثقافة"

بين المسموع والمقروء

Share

هجرة الإنسان وهجرة الحيوان

قديما قال الرجل العابث : لذة الهوي في التنقل وقديما قال الشاعر الناصح وسافر ففي الاسفار خمس

فوائد

والناس من قديم تألف التنقل ، وتألف السفر والنزوح - تألف الهجرة فالترك قوم جاءوا قديما من شرق اسيا إلى غربها . والروس جيل من الناس جاء كذلك من الشرق وانزاح وتمدد حتى بلغ القلب من اوروبا

ولا زال الأوروبيون إلى اليوم يذكرون للروس هذه النزحة القديمة كأنها كانت بالأمس القريب ، ويذكرونهم بها عند الخصومة ، فيقولون لهم إنكم اسيويون ، وإنكم الشرقيون ؛ أي أنهم في أوروبا دخلاء ولو نظر هؤلاء الخصماء إلي أنفسهم لعير بعضهم بعضا بأنهم جميعا دخلاء غرباء فيما يستوطنوه اليوم من بلاد . فهم ما حلوا ما يحلونه اليوم من ارض إلا من بعد هجرة فهجرة المجر معروفة مشهورة ، يدل عليها لسانهم ورؤوسهم وطباعهم وعاداتهم ؛ وهم كالروس جاءوا من الشرق . ومن الشرق جاءت الأمم السلافية والتشكية . ونزوج البربر من شمال أوروبا إلى جنوبها على الدولة الرومانية مذكور . وفرنسا في اسمها دليل على من دخل فيها من قبائل الفرنسكو ، وهي قبائل من الجرمان . والانجليز لو رأوا في أمر بلادهم ما يراه بعضهم في أمر فلسطين ، إذن لنزحوا عن إنجلترا ، عن إنجلاند ، عن أرض الملائكة ، فعادوا عبر المانش إلى أرض أوروبا ، أرض الشياطين :

والهجرة كانت في القرون الماضية ، وهي لا تزال كائنة بين بني الإنسان في القرون الحديثة الحاضرة . فهجرة الآجناس الأوروبية إلي أمريكا هجرة لم يمض على ابتدئها

أربعة قرون وبضعة من قرن . فكرستوفر كولومبس إنما مات عام ١٥٠٨ ؛ وهي هجرة قائمة لم تتم بعد . والهجرة إلى أستراليا ونيوزيلنده قائمة لم تنته ، ولن تنتهي مادام أن هناك الأرض الواسعة والماء الوافر والعيش الصالح

وإفريقيا لا تزال تستعمر ، وهي ستصبح للأوروبيين بتقدم العلم مساكن وأوطان .

وما الدافع على هذه الهجرة الدائمة ؟ قال قوم إنها طبيعة الجنس الذي أودعها الله آدمه ، تأبي عليه إلا انتشار الجنس على سطح الأرض حتى تكون له ، ويقول أنا ربها وقال قوم ) إنه جفاف العيش في منزل ، وطراوته في منازل اخري . وقال قوم إنه الاضطهاد الدينى في القرون الوسطى بأوروبا حمل كثيرا من المؤمنين على الهجرة إلى امريكا هربا من الظلم والحيف ، وطلبا للإيمان ينطقون به طلقا ، والعقيدة يرسلونها في فضاء الله الواسع إرسالا .

والهجرة لم تقتصر على الإنسان ابدا

فهي في الحيوان ، عاليه ودانيه ؛ وهي في الطير ساكن الهواء ، وفي السمك ساكن الماء والعلماء ، يوجسون خيفة أن تكون الهجرة بين الأحياء أشيع مما حسبوا ، وأشمل مما قدروا . وهي في شيوعها وفي شمولها قد تفوت الناظر لصغر نطاقها . فالذي يلفت النظر إنما هي الهجرة الواسعة . ولقد كان العلماء اطمأنوا إلي ان الهجرة مبثوثة منشورة في كل ذات جناح ، وكل ذات زعنفة ، ومبثوثة منشورة في الحشر . وأما ذوات الاثداء من الحيوان فهي أكثر وثوقا بأرضها ولصوقا بمعشبها . وذلك لحاجتها إلي الوضع ، ثم إلى الإرضاع ، لا سيما الطويل منه ، ثم العناية بالولد من بعد ذلك حتى يشب ويقوي علي الكفاح .

قال الرسول ) ص ( : إن الولد مجبنة . وقال الشاعر  :

" لولا بنيات كزغب القطا     رددن من بعض إلى بعض ،

" لكان لي مضطرب . واسع       في الأرض ذات الطول والعرض "

ومع هذا فقد وجدوا من ذوات الثدي ، ذوات الإرضاع ، من تهاجر ولو في حدود ضيقة ؛ ومن هذه الفيلة ، فقد وجدوا منها من يبدأ هجرته في بطء لغايات تختص بالإنسال ، فلا تتم إلا بعد عشرة من السنين ، لا يري في أثنائها ذكر أثني . ومن أمثلة ذلك ايضا طوائف من القردة في جنوب امريكا ، وجدوها تهجر في غاياتها مكانا إلى مكان ، ثم هي تتأرجح بين المكانين فلا تخرج عن نطاقهما أبدا .

والأيلات ، وهي ضرب من ضروب الوعل والغزلان ذات قرون ، تهجر مناطقها القطبية الشمالية إلى ما دونها من المناطق المعتدلة في الربيع ، ثم تعود ادراجها شمالا عند سقوط ورق الشجر بحلول الخريف . وقد يختلف الجو فيتغير تغيرا باغتا ، فتهرع كل اسرابها إلى الرحيل في غير وافق ولا تقاطر ، فتسد بها الطرق وتفيض على الساحات ، فلا يري البصر لها آخرا إلا الأفق البعيد . ومن  الهجرة ذات المدى القصير هجرة   السمك ذي القشر المعروف في مصر بأبي جلمبو ، واسمه بالإنجليزية كراب  crab

فهذا يوجد جنس منه يسكن الأرض من جزيرة جميكا في الجانب الأمريكي من المحيط الأطلسي . وفي كل عام ،

تؤذن الطبيعة في أفراده بالهجرة ، فيقومون رحلة واحدة ، ومقصدهم بعض نواحي الساحل يطلبونها عاما بعد عام

وهم يتخذون إليها طريقا مستقيما لا يحيدون عنه لعائق من نجاد أو وهاد ، أو حتى من منازل ، فهم يركبونها ركوبا إلي الماء . وفي الماء تضع الانثي ما حملت من البيض . وهي بيض ينفقس عن دود نشاته الاولى لا بد ان تكون في الماء ؛ ففي سبيل الولد تلقي هذه الخلائق ما تلقي كل عام ولهجرة قصيرة تهجر مساكنها صنوف من الضفادع تسكن الشجر في أوسط إفريقيا . حدث عالم قال : نزلنا في واد ضيق بين الغابات . ثم جاء فصل الأمطار .

فلما نزلت غزيرة ، استيقظنا ذات ليلة فوجدنا الوادي قد

غزاء طائفة من الضفادع ، ذوات العظم الاخضر ، تسكن اعالي الأشجار . وماهي إلا ساعة حتى احتاطت بنا هذه الضفادع من كل جانب ، ودخلت إلي الخيمة فملأتها . وخرجنا بالنور فخيل إلينا ان فجاج الأرض جميعا قد ملأتها هذه الضفادع وإلى اين ؟ إلي الغدير تطلب شاطئه ومضي يوم أو يومان ، نزل بعدهما إلينا جنس آخر من الضفدع صغير ، فيه غبرة وفيه صفرة . ومضى يوم او يومان نزل بعدهما نوع أكبر اغبر ينط الأرض إلينا نطا في طريقه إلي الماء . وعددنا الأجناس فكانت اثني عشر جنسا أو تزيد ، ومن عجب أنها عادت جميعا في خلال شهرين عادت الى مساكنها من الشجر في الغاب تقضي بقية العام حتى تحين رحلة الأمطار ، رحلة الصيف ، من جديد . وإن ينس الأنسان فلن ينسي هجرة الجراد ابدا ،

لأنها هجرة الخراب والدمار . وهي هجرة يشقي بها الخلق من قديم الزمان . والجراد يخيف بدماره  وبكثرة اعداده .

فحص العلماء أخيرا رجلا من أرجاله في منطقة من مناطق البحر الأحمر ، فوجدوه قد غطى الفي ميل مربع من تلك الناحية ، وحسبوا وزنه فكان ٤٢٨٥٠ مليون طن من الجراد . وعلى كبر هذا الرجل وضخامته ، بل إراعته ،

فقد مر بهم في اليوم التالي رجل منه وأعتي ومر من الطريق نفسه ، وإلى الوجهة عينها .

وهجرة الجراد لا تكون كل عام ؛ فهي هجرة باغتة لا يدري إنسان متى تكون . ويعللونها بأن الجراد له مواطن دائمة يسكنها اضطرادا . ولكن يأتي عام يتكاثر فيه تكاثرا سريعا مريعا ، فتضيق به مساكنه طعاما ، فيطلبه من حيث يرحل من الأرض .

ولكن ما الذي حمل الجراد على تكاثره الباغت هذا ؟ سر في جوف الزمان ، لم يشأ الله بعد ان يكشفه لإنسان .

أم هو شاء فانكشف  لعلك قائل معي ذلك بعد سماع هذه القصة التالية قصة فأر النرويج ، أو فئرانه .

ففي تلك البلاد ، بلاد النرويج ، جبال عالية ، هي كل أرضها تقريبا ، وهي تنحدر في الغرب إلي البحر انحدارا .

وأنت تعلم أن الشجر ينمو في السهل ، وينمو في الجبل ، ولكن إلي ارتفاع معلوم لايقوي الشجر علي الحياة بعده . ثم تأتي منطقة فوق منطقة الشجر لا تنمو فيها إلا الحشائش والأعشاب قصيرة منقوصة .

ففي هذه المنطقة الأخيرة من تلك البلاد يعيش جنس من اجناس الفئران بعرف باللامنج Lemmingألفا وهو يعيش عيشة هادئة مستقرة . وهو يعيش في مستعمرات مستقل بعضها عن بعض ، فلا يختلط قليل منها بقليل ، ولا يحور بعض منها على بعض .

ولكن يحدث أن يأتي عام تتكاثر فيه الفئران  تكاثرا شديدا غير مألوف ، فتزيد اجراء البطن الواحد ، وتتقاصر المدة بين البطون . وفصل الأنسال في العام يطول وينتج عن كل هذا ان تأخذ المستعمرة يزيد اهلها من الفئران زيادة مضطردة ، إذ لا يلبث ان بلد الابناء في كثرة ككثرة الآباء . والمستعمرات المجاورة باقية على حالها ، فلا تزداد تكاثرا ، ولا تزداد عددا

ثم يحدث شئ آخر غريب . فهذه الفئران يسطو عليها جوارح الطير والحيوان فيكون منها غذاؤها . ففي فترة تكاثرها ، لوحظ ان هذه الجوارح الاوا كل من بنات عرس ، ومن البوم والصقور ، تزداد تناسلا ، فتزداد هي الأخرى كثرة تلاحق بها كثرة الفئران

ثم يضيق بالفئران المكان ، فتبدأ الهجرة . وهي إذا بدأت لن تقف . فتهبط ملايينها على الجبل زحفا زحفا ،

في انضمام وارتصاص ، كأنها الغمام وهبط على الأرض فأخذ ينسحب عليها كما تنسحب السحب في السماء وشهرا شهرا ، يأخذ الزحف وجهته نحو البحر . وقد يستغرق رحيله عاما ، وقد يستغرق عامين . ودبيب هذا الجيش العارم لا ينقطع ، وطوائف الطير من فوقه لا تنقطع . فيا كل منه الطير ، وتأكل منه الحمى الذي تلاحقه بسبب

مالوث من ماء شرابه . ويأكل منه الغرق عندما يحاول عبر الجداول والأنهار التي يلقاها في طريقه اضطرارا

وأخيرا يطوي البقية الباقية منه ماء المحيط الأطلسي ، فالفئران تدخله تحسبه بعض الجداول فتغرق فيه .

وطلبوا سر هذا ، فشرحوا هذه الفئران ، فوجدوا أجهزة الأنسال بها قد تغيرت وتطورت . وظنوا ان شيئا اكلوه فعل بهم هذا ؛ وازداد العلماء بحثا فازدادوا بذلك استيقانا وعلى استيقانهم لم يعرفوا ما هذا الشئ المأكول المجهول ، فأسموه سينا . وتجري الأيام ، ويتطور العلم ويتقدم ، فيكتشف العلم أشياء شتى ؛ من مر مركبات في النبات ، تدخل جسم آكله فيكون بها نماؤه ، ويكون بها انتظامه . وكشفوا أشياء في جسم الحي من الحيوان ،

يفرزها ) إفرازا ، تنضبط بها فيه فروض الحياة جميعا ، ومنها الأنسال وأسموه هذه بالهرمونات ، وأسموا تلك بالفيتامينات .

عندئذ ذكر العلماء تلك المادة المجهولة في الفئران التي أسموها سينا . وطلبوا الهرمون في أجسام هذه الفئران فوجدوه . وطلبوا الفيتامين في نبات الأرض وحيث تغدو هذه الفئران وتروح ، فوجدوه في نوع صغير من النبات بتلك الأرض أشبه شئ بنبات الحزاز ، ويسمى النباتيون اجناسه الصغيرة الضئيلة بال Liehens  وإذن فقد تفسر الحلم المريع أو كاد .

فالفئران أكلت هذا الفيتامين . وأفرزت غددها النخامية ، بسبب ذلك ، الهرمون ، فدفعها إلى الإنسال دفعا . واختزنت اجسامها الفيتامين . فلما جاءت جوارح الطير فأكلت هذه الفئران أكلتها بالذي فيها من محركات إلى الأنسال ، فتحركت إليه . فكان من ذلك تكاثرها هي الأخرى

وهكذا يدفع الله الحيوان بعضه ببعض ، حتى لا تفسد

الأرض . ولله في خلقه شئون .

اشترك في نشرتنا البريدية