الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 330الرجوع إلى "الثقافة"

بين المسموع والمقروء

Share

روزفلت فى مرضه وموته

لن أتحدث عن عظمة روزفلت ، ولا عن زعامته فى أمته ، وفى غير أمته ، ولا عن الخسارة الكبرى التى أصيبت بها آمال الكثير من الناس بفقده ، فهذا حديث معاد قال فيه الأقوام الكثير ، ولو أن المجال فيه لا يزال ذا سعة .

ولكنى أتحدث عما خطر لى عند نعيه من ذكريات لقد ذكرت بنعيه تلك الصورة التى أخذت له وهو فى السفينة الحربية على ظهر القنال ، وقد تقدم إليه مليكنا يحييه . وقف مليكنا تملؤه القوة ، وتشيع فيه الوسامة ، ويشع منه الصبى ، وجلس صاحبنا الشيخ ، وقد أقعده الشلل ، وتوجته الشيخوخة ببياضها ، وقد زاد فى نصوعها سواد تلك (( الحرملة )) الطويلة التى غطت منكبيه ؛ وانسدلت على جانبيه ، تطاول قامته ، وهى طويلة حتى على القعود ، ونظر إلى عل يحيى مليكنا الشاب السامق بإبتسامة فيها ، عدا السرور ، من الطيبة والبساطة والثقة الشئ الكثير ونظرت إلى هذا الوجه الجليل يحمله هذان المنكبان العظيمان فملأنى هذا المنظر جلالا . ونظرت إلى هاتين العينين المتخاذلتين ، وإلى ذاك الوجه المخطط الذابل ، فملأبنى هذا المنظر رحمة .

وقالت جارتى : إن هذا الرجل ينظر إلينا من وراء الغيب .

وأحسست أن الرجل ينظر إلينا حقا من وراء حجاب ، فكا مما غاص بجسمه فى أعماق الأبد حتى لم يبق منه إلا الرأس . ولكن لم يكن بى نفى الأحياء ، فتظاهرت بالتكذيب ، وقلبى يقول ما أصدق الإحساس . وظاهرنى على التكذيب ثقة بأن الرجل لا يموت ، ويجب أن لا يموت ،

وأمور الدنيا هى ما هى . وعز على فى تلك الساعة أن أجد الدنيا خالية منه ، لا لنقسى ، ولكن للدنيا ، وقد بلغت به ما بلغت من كسب الحرب ، ثم من كسب السلم ، وهو أكثر مشقة وأقل ارتجاء .

وكان الذى رأيناه من تلك الصورة رآه غيرنا وحققه وأى تحقيق كتحقيق زعيم العالم الآخر ، تشرشل . لقد قام هذا الشيخ الآخر الذى يناهض السنين مناهضة الكلب الإنجليزى التقليدى الذى لا يعرف الحياة إلا مصارعة ، ولا العيش إلا مصابرة ، ولا ملاقاة الخطوب إلا عنادا ، ولا الموت إلا سقوطا . قام هذا الشيخ الآخر ينبئنا عما رأى من صاحبه الشيخ لما اجتمعا فى القرم معا . قال : ونظرت فى عينيه فتراءت لى فيهما النهاية

وتلك البهاية التى تراءت للزعيم الإنجليزى مشاهدة ، هى عينها تلك النهاية التى تراءت لنا ولغيرنا من تلك الصورة . وأخذت افكر ما دليلها ، فلم أوفق ، لأنها من تلك الأشياء التى هى أبسط ما تكون نتيجة ، وأعقد ما تكون أسبابا وتحليلا ، وكان لا بد أن أعتمد على شئ فى تعليل ما أحسننا ، فقلت لعله الألم المكظوم لم تستطع تلك الابتسامة الشائعة أن تحجبه .

لم يحدث أبدا للولايات المتحدة ، فى تاريخها القصير ، أن كان لها رئيس شغلتها صحته كما شغلت الولايات صحة روزفلت ، وذلك بسببين : عاهته القديمة ، وما حملته إياه ثلاث رآسات ، ورابعة ، من أعباء ، وهى أعباء حرب لا أعباء سلام .

كان للرئيس طبيب لا يكاد يفارقه وما . ويراه صبحا وظهرا وعصرا ، ذلك طبيب البحرية الأكبر ماكنطار .

يصبح الصباح ، فلا تلبث أن ترى سيارة تجرى إلى جانب القصر الأبيض ، ومقصدها باب فى جانب من جوانبه ، وتقف السيارة فيخرج منها رجل قارب الستين ، يمشى فى خطى خفيفة فى ممشاة إلى وسط البيت . ولا يلبث أن

يصعد السلم ، ثم يذهب قدما إلى غرفة النوم ، ويكاد يدخلها بدون استئذان . - صباح الخير . - صباح الخير .

وقد يكون الرئيس يتحدث مع من حوله حديث الفكاهة والتندر . فيدخل الطبيب فى الحديث كبعض أهله فيستمع للنكات ، وقد يقول هو النكتة ، وهو فى كل هذا لا يسأل الرئيس عن صحته أبدا . وقد يسأله الرئيس عما يجرى فى البحرية ، وقد يناقشه أمورها ، وقد لا يذكر الطب والأطباء ، فتخال أن هذا الرائر ، لأرجل طب ، ولا موظف دولة ، ولكنه صديق حميم يغشى الرئيس كل يوم ، فى منتصف الساعة التاسعة .

ويمر نصف الساعة التى يزمع قضاءها إلى جانب الرئيس ، فينزل إلى مكتبه فى القصر . وفيه تعرض عليه تقارير الصحة عن مائتين من سكان الدار ، قام بتجهيزها له مساعدون آخرون . ثم يذهب امير البحر الطبيب من بعد ذلك إلى مكتبه من دار الطب البحرية .

حتى إذا حل الظهر عاد إلي بيته ، ولكنه كثيرا ما يمر ظهرا على البيت الأبيض يتشمم أخباره . ويعود إلى عمله من البحرية من جديد ، فيظل به إلى منتصف الخامسة ثم هو يذهب من جديد إلي البيت الأبيض فيبقى فيه إلى السابعة وعندها ينتهى اليوم .

ولا يكاد يذهب الرئيس إلى مكان ما ، شرقا أو غربا ، شمالا أو جنوبا ، بحرا أو برا ، إلا ذهب معه أمير البحر ماكنطار .

وقد تقول ما أثقلها صحبة .

ولكنك تخطئ عند ذاك التقدير . فأطباء الملوك ورؤساء الدول لا يختارون لطبهم وحده . فالأطباء القادرون فى تلك الأمم كثيرون . وإنما يفاضل بينهم بمواهب أخرى : منها مواهب تتصل بحسن الصحبة وخفة

المجلس . ومن ذلك أن ماكنطار محدث قادر ، حكاء للأقاصيص ، كثير التندر . يمتع بالنكتة ، ويستمتع بها ، وهو فوق هذا ذو صوت فى الثناء جميل . وهو فوق هذا وهذا ذو خبرة فى صيد السمك فى الماء العمين . وتلك هوية كانت من هويات الرئيس الراحل . ومن أجل هذه الصفات كانت تختلط على الحاضر بن إذا لم يعرفوه حقيقة أمره ، يختلط عليهم أنه بممارسة هذه الأشياء كلها لم يغفل ساعة عن أنه الحارس الأمين لتلك الصحة التى هى عند الأمة ذات قدر كبير .

ولم يغفل روزفلت أبدا عن واجبات الطاعة لطبيبه المتخفى . فكثيرا ما كان الطبيب الصديق فى عرض الحديث يقترح هذا الدواء ، أو هذا الإجراء ، فتحسب أنت أنه اقتراح يجوز الأخذ به ، ويجوز رفضه ، ويعلم روزفلت أنه الأمر الذى ليس من طاعته مفر .

كان يقول المقربون : ليس فى الأمة من يأمر الرئيس فيطاع كأمير البحر ماكنطار .

ويمتاز ماكنطار ببرود نفس شديد ، هو أكبر العون له فى الأزمات ، يسمع بأن صحة الرئيس اليوم على غير ما يرام ، فلا يهتز ، ولا يضطرب ، ويعلم الله إنها لمسئولية تهتز لها الجبال وتضطرب . ولكنه لا يبين عليه شىء من ذلك . فالوجه الساكن ، واليد المتئدة ، والخطو السريع العادى . وإنما يطرح بعض ما يحمل من ملاطفة ومجاملة ، وينطق بصوت أقرب إلى الامر منه إلى الاقتراح . وقد يقضى بتقصير ساعات العمل ، أو تقليل من تدخين ، أو منع الاشتغال فى فترات الطعام . فإن لم تكف هذه فقد يلجأ إلى علاجات أقسى وأصرم ، وعندئذ لا معقب لكلماته .

وعندئذ كذلك تترامى إلى البيت الأبيض صنوف الخطابات بالذى تجود به قرائح الناس من وصفات . فمن مرسل ورقات من شجر جمعها فى الجبل ، وحسب أن

مغليها سيذهب عن الرئيس بدائه . ومن مرسل دهانا يقول إن تركيبه سر قديم فى الأسرة ، لو دهن الرئيس به صدره أو ظهره لزالت العلة . ومن مرسل ....

قال ماكنطار : لو أننا استمعنا لكل هذه الوصفات فجربناها ، لم يكن بعدها للدولة رئيس .

ولما آن أوان اختيار الرئيس للدورة الرابعة ، لم يكن عند أكثر الناس شك فيمن يكون الرئيس . لم يكن عندهم شك فيمن يجب أن يكون الرئيس . ولم تقض فى هذا مواهب الرئيس الراحل وحدها ، بل قضى فيه التاريخ وقضت به الحرب ، وما  اكتنف الدنيا من ظروف . فلم يكن من المعقول والسفينة فى البحر ، والبحر هائج مائج ، أن يتغير ربانها .

ولكن كان مع هذا الإيمان ببقاء الرئيس عند سكان السفينة شئ واحد مشكك فيه ، ذلك قدرة الرئيس على النهوض بدورة للرآسة رابعة .

ووجب على الرئيس نفسه أن يرى الرأى فى هذا ، وأن يقوله ، ولم يكن فى استطاعة وزرائه وأعوانه ، وأصحابه الكثيرين ، أن يعينوه فيما يرتئيه ، وعندئذ وقع حمل المسئولية كلها مرة أخرى على طبيبه ، أمير البحر ماكنطار .

وفحص الطبيب الرئيس ، وبعد لأى قال : إن صحة الرئيس فى هذه الآونة الحاضرة على خير ما يرام .

وتجنب الطبيب عمدا أن يذكر شيئا عما يقدر على الرئيس فى السنوات الأربع القادمة من احتمال ، شغل نفسه بالحاضر ، وعاف ضرب الرمل ومكاشفة النجوم .

وقضى الأمر : وقضى للرئيس بأن يأتيه الموت وفى يديه أزمة الأمور .

وتسأل : هل تاق الرئيس الراحل حقا إلى دورة في الرآسة رابعة ؟

فاسمع هذه القصة ، ولست أذكر ممن سمعتها ، ولا أين قرأتها .

جلس صديق إلى الرئيس الراحل وقد نجح في الرآسة للمرة الرابعة ، جلس إليه ، ثم سأله : كم يجد من الغبطة فى اختياره للرآسة من جديد ؟

فنظر إليه روزفلت ، وكان بيد الصديق كوب من شراب ، فسأله :

- كم كوبا شربت قبل هذا ؟ ! كوبا واحدا ! ! - إذا فاشرب ثم اشرب . فإذا بلغت إلى الكوب الرابع قل لى كم لذتك به وكم متعتك ؟

اشترك في نشرتنا البريدية