الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 331الرجوع إلى "الثقافة"

بين المسموع والمقروء

Share

هل يعقل الحيوان ؟

بالأمس القريب جلسنا نسمر نحن الثلاثة . وطلبنا بعد مجهود النهار الخفيف من الأحاديث . فضربنا فى شجونها حتى وصلنا إلى الحديث عن الخدم . وأخذ كل منا يحكى نوادره معهم . وانعقد الاجماع على تقسيم الخدم على العموم قسمين : الأمين الغبى والسارق الذكى . فالأمانة فيهم والغباء متلازمان . والسرقة والذكاء فيهم متلازمان . إلا فيمن رحم ربك . واستطردنا من ذلك إلى التفكه بنوادر الغباء فيهم ، وكل منا يزعم أنه أكثر حظا من غباء الخدم . وأخيرا فاز خادمى بكأس السبق فى الغباء بحكايات ثلاث قصصتها عنه :

كان خادمنا طباخا موكلا بالطعام . فجاءنا يوما على المائدة بصينية من البطاطس ، مما يسوى مع اللحم في الفرن ، وكان وجه البطاطس فيها أبيض ، وكان المأمول أن يكون أحمر قديدا من حرارة القرن ، فسألناه فى ذلك ، فكان جوابه : نحن فى الشتاء يا سيدى واليوم على الأخص برد قارص .

أما الحكاية الثانية فإنه رأى زميلا له آخر يمسح بلاط دهليز بالماء والصابون . فوقف يتأمله ساعة ، ثم قال له : ما هذا التعب والبلاط لا يلبث أن ينسخ كل يوم ؟ فنظر إليه الخادم الفطن يتأمله ، وإذا بى أسمعه يقول له : كذلك يتسخ وجهك كل يوم ، وأنت مع هذا تغسله بالماء والصابون . فبهت الرجل الساذج وابتسم ، كأنما اطلع على شىء غريب . وقال كأنه يحدث نفسه : أى والله ، هذا صحيح .

أما الحكاية الثالثة ، فقد أرسلته السيدة يشترى أفة من الكمثرى . فجاء بالأفة فيها موزتان . وقال للسيدة

مبتهجا : انظرى ماذا صنع تاجر الفا كهة الطيب . لم تزن هذه الكمثرى أفة كاملة فاستكملها بموزتين ، وكان ثمن أفة الكمثرى عشرة قروش ، وكان ثمن الموز ثلاثة فقط . ومع هذا فتاجر الفاكهة رجل طيب أمين ! وكانت الكمثرى  سيئة ؟ فردتها السيدة ؟ وقالت للخادم : إرجع بكل هذا ، وعد لنا بأفة من الموز واحدة ، فعاد بأفة الموز . ووزنتها السيدة فوجدتها تنقص موزتين . فسألته السيدة فى ذلك ؟ فقال لها : إن هاتين الموزتين الناقصتين هما الموزنتان اللتان كان أضافهما تاجر الفاكهة على الكمثرى . وعندئذ لم صحيح تستطع السيدة إلا الضحك ! وعدت هذا الخلط الفكه يساوى أفة موز برمتها .

وانتهى الحديث وانفضت الجماعة ، و بقيت أفكر فى هذا الخادم وفى عقليته .

كان رحمه الله غبيا أشد الغباء ، ومع هذا كان يجيد الطبخ ، والطبخ لايجاد إلا بشىء من الفطنة ، ولكنها ليست فطنة البهام التى قصدها صاحبى عندما قال لى فى هذا الصدد : إن التكرار يعلم الحمار

وطلبت ما يقول العلماء فى الفطنة والذكاء ، فى الحشر وفى السمك والطير ، وفى ذوات الأثداء ، وفى الإنسان ، فخرجت على أن كل شئ من هؤلاء له حظ من الذكاء يتدرج من فصيل إلى فصيل حتى يبلغ الذروة فى الإنسان . والعلماء تسمى الذكاء الأدنى الذى فى الحشر كالنمل والنحل غرائز ، وتسمى الذكاء الأعلى الذى فى الإنسان عقلا ، وتسمى الذكاء الأوسط الذى بين هذا الأعلى وذاك الأدنى فطنة وهذه الفطنة قد تتدنى حتى تكون غريزة ، وقد تتساى كما فى الخيل والفيلة والكلاب والفردة فتكاد تحسبها عقلا .

ووصلوا إلى علمهم هذا بملاحظة الحيوان فى مواطنه ، ومراقبة أحواله وأعماله ، فى البستان وفى الغابة ، وفى السهل

والجبل ، وفى الهواء وفى الماء ؛ أوهم وصلوا إلى علمهم بالتجارب المقصودة يؤلفونها فى الحقول والمعامل . ولنضرب فى بعض ما وجدوا الأمثال

فأول مثل العنكبوت ، لا يكاد يخرج من بيضته حتى يأخذ فى نسخ نسيجه المعروف ، وهو نسيج تعجز يد الإنسان الصناع عن محاكانه فى خفته ودقته . وهو ينسجه دون أن يعلمه أحد نسجه . فهذا عمل غريزى لا عقلى . ويزيد فى وصفه بالغريزى أنه يظل يصنعه على مثال واحد لا تشكيل فيه ولا تهديل إنه تكرار راتب  .

ومثل ثان مثل الزنبور الذى يسمونه بالصياد ، تقوم انثاه ببناء عشها  ثم تأتى لهذا العش بالمؤونة من ديدان ومن عناكب تلدغها فتشلها فتفقدها الحركة والوعى والإحساس . ثم هى تضع فى العش بيضها ، ثم تمد العش عليه بعد ذلك سدا ، وتذهب عنه وهى لا تكاد تدرى ما صنعت ، ولا لأى مقصد صنعت ما صنعت . أو هكذا يحسب العلماء . فهم يسمون هذا غريزة أيضا .

ومثل ثالث من الزنابير أيضا ، مثل الزنبور الذى يعرفونه بالبناء . دخلت أنثاه منل قس فى رانجون عاصمة برما فى شرق الهند . واختارت حجرة الجلوس تبنى بها عشها، وهو من طين . وما فرغت من بنائه حتى أخذت تخدش ظاهره لتجرى فيه الشقوق والتعاريج حتى يظهر كلحاء الشجر . ثم أخذت تخرج من بيت القس وتعود بطين أصفر ، وآخر أخضر ، تنقط  به عشها ، لتستكمل تشبيهه بلحاء الشجر فى الغابة ، ذاك الذى تعلوه صنوف الطحالب الخضراء وزادت فأحضرت بضعة أنصال من أعشاب ، فرشقتها فى ظاهر العش ، تحاكى بها الأغصان . وبعد أسبوعين كانت قد أتمت بيتا رائعا من بيوت الفن ، علمتها الغريزة أن تبنيه فى الغابة ، فتضع فيه بيضها ، وهو خاف أكبر الخفاء عن أبصار الأعداء

وعلمتها الغريزة ذلك لا العقل . فلو كان عقلا ما بنته فى حجرة الجلوس ، ببيت القس ، على هذه الصورة التى إنما تزيده  ظهورا وتبرزه لأعين الرقباء الطامعين .

ومثل رابع لنمل يعرف بالنمل الهندى ، من عادته أنه إذا ما اتخذ لنفسه بيتا فى الأرض ، اقام على بعد ثمانى بوصات منه كومة يحمل إليها نفاية ما يأكل من الطعام . فإن هو أكل فى البيت حبا ، خرج إلى هذه الكومة يحمل إليها ما تبقى فى البيت من قشر الخب . وحدث أن صادف أحد العلماء بيتا لهذا النمل ، لا فى موضعه المعتاد من الأرض ، ولكن على وجه حائط . وحسب أن النمل سيلقى بقشر حبه من عند باب بيته فيسقط إلى الأرض . ولكن النمل فعل غير ذلك : كان يخرج من بيته فيحمل القشر على الحائط ثمانى بوصات ، قبل أن يلقيه إلى الأرض . ومضى النمل يفعل هذا شهرا . فتلك غريزة . إذ لو كانت عقلا لفعل النمل ما توقعه عقل عالمنا ، قرى بالقشر من عند بابه .

ومثل خامس نقتبسه من نوع من الخنافس التى تعيش على روث البهائم . فهذه تعمل فى سبيل الرزق كل اثنتين معا فتأتيان إلى الروث فتقطعان منه قطعة تشكلانها كرة ، ثم تدحرجان معا هذه الكرة إلى حيث تختفيان هما والكرة فى شق من شقوق الأرض فحدث أن جاء عالم إلى خنفستين على وشك أن تقتربا من الروت لتحملا منه رزقهما . فأهدى لهما العالم كرة كان سبقهما إلى صنعها من الروث . فما كان من الخنفستين إلا أن رفضتا الهدية فى شمم وإباء وعمدتا إلى الروث تقطعانه وتكوراته . فصبر العالم حتى كورتا كرتهما ، وأخذتا تدحرجانها . فأخذ منهما الكرة وأعطاهما الكرة التى رفضناها أولا ، فقبلناها الآن عن طيبة خاطر . إنها الغريزة . انه الروتين . انها الأعمال الواحدة الثابتة متلاحقة فى نظام واحد ، قطع فى فى الروث ، ثم تكوير ، ثم دحرجة ، ثم خفاء مع الكرة فى الأرض . احذف حلقة من هذه الحلقات يختل حال

الخنافس . وقد حدث مرة أن هذا العالم أخذ من خنفستين كرتهما اغتصابا ، فظلتا تدوران فى الأرض تبحثان عنها طويلا ، ولم يخطر لهما ببال أن تعودا إلى الروث فتقطعا منه كرة أخرى . عجزنا عن هذا لان الدورة انقطعت دون تمام ، ولا بد فى الغريزة من إتمامها .

ولكن استمع إلى هذه : حدث أن جاء العالم إلى نوع آخر من خنافس الروث ، واصطبر حتى كررت الخنفستان كرتهما واخذتا تدرتجانيها . عندئذ بدبوس ورشق به الكرة عموديا إلى الأرض . فما الذى صنعته الخنفستان ؟ رفعتا الكرة رفعا ، فخلصتاها من الدبوس ، ثم أخذنا فى دحرجتها . عندئذ عمد العالم إلى عود طويل فرشق به الكرة إلى الأرض . فماذا تصنع الخنفستان ؟ صعدنا على ظهر الكرة وأخذنا تحفران فى الكرة حول العود حتى شقتاها نصفين ، وانفصل النصفان عن العود . وعندئذ عادت الخنفستان تكوران النصفين من جديد .

لقد خرجت الخنفستان فى هذا الأمر عن معنى الغريزة لا محالة . لقد صادقتا شيئا غير عادى لم يسبق أن وقع لهما فى حياتهما . موقفا جديدا غريبا ، فتصرفنا فيه تصرفا مبتدعا ، فذلك ما يسميه العلماء بالفطنة ، قد أخذ يطلع فجرها على هذا النوع من الخنافس

ومثل آخر تزداد به الفطنة وضوحا : جماعة من النمل قدم أحد العلماء الباحثين لنملة منها عودا أخضر مما ينفع لطعامها . فلما لم تقدر على حمله ذهبت وعادت بعدد من النمل حملته معها . وعاد العالم فقدم إلى النملة عودا طوله ضعف  طول العود الأول . فذهبت النملة ثم حضرت بعدد من النمل  ضعف العدد الأول تقريبا ، فحملن العود . فعاد العالم مرة ثالثة فقدم لنملة عودا طوله ثلاثة أمثال العود الأول . فذهبت النملة ثم عادت بثلاثة أمثال من عدد النمل الأول تقريبا . فأي شىء هذا غير الفطنة قد سبقت الغرائز الأولى بمراحل واسعة .

وتأخذ هذه الفطنة تزداد اشراقا من حيوان إلى حيوان ، ما أخذ ، نصعد فى الملكة الحيوانية حتى نصل إلى الكلاب والقردة . والأمثلة الدالة على هذه الفطنة كثيرة شتى .

خذ مثلا الأرانب البرية : وجدوا أنثاها تلد فى جحرها من الأرض ، ولكنها إذا خرجت قفزت على غير عادتها قفزة طويلة بعيدة حتى لا تترك من جسمها على الأرض أثرا من رائحة يتشممها طلاب الصيد من الحيوانات الاخرى فتهتدى به إلى جحرها وإلى أولادها . وهى تقفز إلى الجحر مثل هذه القفزة الطويلة إذا عادت اليه .

ثم مثل الثعلب : تطارده فيتلوى ويتعرج فى طريق هربه ليضلك ، وقد يسير مواجهة لك إذا أمن أن تراه إمعانا فى التضليل . وهو كثيرا ما يصعد الجدران حتى يقطع الأثر ، أثر أقدامه عن طلابه .

ثم مثل الدب : حكوا أن دبا فى بستان للحيوان قبع على الأرض عند حافة الماء فى بركته . فرموا له بكعكة منتفشة . وكان المفروض أن يغوص فى الماء وراءها ولكنه احس الكسل ، فأخذ يجرف الماء بكفه الغليظ إلى ناحيته ، حتى أحدث فى الماء تيارا حمل الكعكة اليه وهو جاثم لم يتحرك .

ثم مثل الفيل : حكى الحاكى أن صبيين وقفا عند حظيرة فى حديقة للحيوانات . فقدما له كعكة ، فأخرج الفيل خرطومه ليأخذها . فتراجع الصبيان حتى لا ينالها . وفعلا ذلك مرارا وتكرارا حتى عيل صبر الفيل . فذهب عنهما إلى حنفية كانت تقطر ماء . وفى صبر أيوب جعل يجمع هذا الماء فى خرطومه ، ثم رجع إلى الصبيين ، فقدما له الكعكة من جديد ، فأخرج لهما خرطومه كأنه يطلب الكعكة ، فلم يشعرا إلا وقد انبعث الماء فى وجوههم وآذانهم وسال على أعناقهم وأقفيتهم . والفيل يتراجع عنهم يضرب بخرطومه ذات اليمين وذات الشمال .

وأخيرا مثل الكلب : وضعوا لكلب كبير بيضا فى سبت صغير . فحمله فى فمه ، وأرادوه على الذهاب به إلى جهة ما . وكان فى الطريق سور من خشب ، بينه وبين الأرض فرجة قليلة . فلما اعترضه السور تأمله قليلا . ثم ما لبث أن حط بالسبت على الأرض عند أسفل السور ، وتراجع فقفز داخل الحقل من فوق ذلك الحاجز . ثم جاء إلى السبت فجره من تحت اليه . ثم حمله ومضى إلى سبيله .

فهذا ذكاء قد لا يبلغه ذكاء بعض بنى الإنسان . لقد تصورت خادمى ، رحمه الله ، وقد أعطوه هذا القفص ببيضه وأرادوه على ركوب هذا الطريق ، فتصورته قد تسلق هذا السور والسبت فى يمناه أو يسراه ، أو حتى فى فمه ، ثم قفز به إلى الأرض فانفقع من البيض أكثره .

إن الغريزة ، وإن الفطنة ، وإن العقل ، ليست جميعا إلا درجات متفاوتات من شئ واحد نال الإنسان منه نصيبا كبيرا . ولعل فى بعض الأجرام السماوية الأخرى ممن لا نعلم أقواما إذا اطلعوا على عقولنا أسموها غرائز ، حقارة لها إذا هم نسبوها إلى عقولهم .

تعالى الله ، يعطى الحكمة ما يشاء ويمنع ، ولله فى خلقه شئون .

اشترك في نشرتنا البريدية