تاجر يتحدث
دق التليفون في مكتبى يخبر أن زائرا يود لقائي . قلت فليتفضل . ودخل يحمل التقرير الطويل الذي تكرم بكتابته . وكان لابد من قراءة التقرير قبل مناقشته فيه . فقلت موجها للحديث في غير وجهته :
- كيف الحال بعد الحرب ؟ وكان صاجنا تاجرا عظيما ورب أشغال واسعة . فقال : - الحرب التي انقضت أم الحرب التي ابتدأت ؟ فضحكت وضحك . ومع هذا قلت : - إن الحرب التي بدأت حرب قديمة ، وإنما هي تزداد شدة من اليوم فصاعدا ، واليابانيون مغلوبون مغلوبون في آخر الأمر على كل حال . قال : - إنما حرب أوربا عنيت . قلت مبتسما : - وماذا في أوربا ؟ قال : - أمة تحتل نصف أوربا ، ولا سبيل إلي فك قبضتها إلا بالقوة . قلت :
- ولكن هذا احتلال بالتراضي . تراضي عليه الأمم المتحدة . ثم الست تري ان روسيا ، مع انها أمة شيوعية ، فانها تقيم في هذه الأمم المحتلة حكومات ديمقراطية ؟ فهز التاجر العظيم كتفيه في غير اقتناع . قلت :
ومع هذا اتري الروسيا تستطيع ان تشغل نفسها بخصومات وهي في اشد حاجة إلى التركز على تعمير ما خربت الحرب من أرضها . وهي في ذلك لابد محتاجة أشد احتياج إلى ما تنتج امريكا من آلات وما تخرج بريطانيا من بضائع . ثم الم تسمع ان روسيا طلبت من أمريكا بضعة ملايين من الدولارات قرضا . فكيف تجمع بين هذا وما تخشى أن يكون ؟ قال :
فما هذا السبق منها إلى أمور قبل ان يكون عليها
اتفاق بين زملاء محاربين ؟ قلت :
- لعله الخوف القديم من ذلك النطاق الذي كان مضروبا على روسيا منذ تشبعت ، وسمته الامم " بالكردون الصحي " أتدري ما الكردون الصحي يا سيد فلان ؟ انه الكورنتينة . وهل تكون الكورنتينة إلا عن وباء قال :
وبولونيا: قلت : - إنها الحلقة الأقوي من تلك السلسلة التى حلقت بها أوربا علي روسيا عام ١٩٢٠ أو نحوه والماضي لا ينسي والجرح العميق إذا التأم ترك للذكري ندبا . قال : فهل تري أن روسيا ليس لها نبات في تلك الأمم ؟ قلت :
- لا أحسب أن لها غير نية واحدة : أن تؤمن صداقة من حولها من الامم ، فلا تكون حوائط تقوم بينها وبين الدنيا فتعزلها عزلا . وقد تأتي في سبيل تأمين هذه الصداقة ما قد يتنافى ظاهره والاتفاقات . ولكنه الخوف يحمل المرء على ركوب ما لا يود ركوبه ، إذا هو رأى في الركوب والنزول فرق ما بين الحياة والموت . فالخوف وضياع الثقة هما اللذان حملا روسيا على ان تفعل في بولندة والنمسا ما فعلت من إقامة حكومة ترضاها والخوف وضياع الثقة هما اللذان حملا انجلترا ان تفعل في اليونان ما فعلت من إقامة حكومة ترضاها . قال زائري :
- فهل يعقل أن روسيا بعد احتلال تلك الآمم لا تبلشفها ، وقد كنا نخشى البلشفة حتى من جيرة دون احتلال ؟ قلت :
انظر إلي فرنسا وما يجري فيها من انتخاب جنحت كثرته الكبرى إلى اليسار ، تدرك ان البلشفة وغير البلفشة تأتي على الجيرة وغير الحيرة على السواء والبلشفة إن جاءت أمة بالانتخاب الحر ، فستجربها تلك الأمة ، فاما ان تستبقيها بعد ذلك وإما ان تطرحها والمهم في كل هذا ان يبقي الرأي حرا ، تأرجح ذات يسار اوذات يمين . قال :
إن البلشفة لا تصلح للأمم . قلت :
وهبني معك ، فهل يكفي رأيي ورأيك أمة من تلك الأمم ليمنعها ذلك من سلوك طريق تراه . إنما يجب أن يكون الأمر كله للناس . فإن ارادوا النار فتحت لهم أبواب النار . وإن أرادوا الجنة فتحت لهم أبواب الجنة حرية الرأي في هذا هي ملاك الأمر كله . وهي اساس الديمقراطية ايضا . ولقد ارادت روسيا ان يكون حالها تلك الحال التى علمنا . فهل منعها هذا على التجربة ان تتزحزح قليلا قليلا نحو اليمين ؟ إن روسيا اليوم غير روسيا بالامس فالزواج المباح تقيد ، والطلاق تقيد . وجواز الملكية حضر من بعد غياب . والكنائس اعترف بها . حتى حق الثوريث فيه اليوم حديث . وإن لأحسب لو استمر هذا التحول في اطراده لبلغت البلشفة في نظام الامم اقصى اليمين . إنها تصبح محافظة جامدة . قال صاحبي
- إني اقرأ أن روسيا اليوم فيها الغنى والثروة يتمتع بها اصحابها كما يتمتعون بها في الامم الديمقراطية . ولكنهم لا يورثونها . وإنما لهم حق المتعة بها ما بقوا علي قيد الحياة . وهذا شيء تأباه الطبيعة . إني أعمل ، وأكبر الحافز لى على عملي أني أعمل لأولادي . قلت :
- هذا حق وانت تحس به أ كبر الاحساس لأن عندك ما ثورث ، أما الذي لا ناقة له ولا جمل فأكبر الظن أنه لا يعترض على أن تتبني الدولة ما يخلف من أولاد . ولكن ، على كل حال ، على البلاشفة ان يدركوا ما في نظامهم من أخطاء . وعندئذ يهذبونها ثم يهذبونها حتى يخرجوا للعالم من هذه التجربة العظيمة نظاما يستمتع به الناس جميعا ، ويكون فيه فرص للناس جميعا . وقد يتغير هذا النظام حتى لا يعود فيه من البلشفة الأولى غير اسمها ، قال :
- وما بال الأمم الديمقراطية ؟ قلت - إنها أيضا قائمة من طرفها بنفس التجربة . وهي تجربة عظيمة جديرة بإحترام الامم وترقيها . فانجلترا تسير يوما بعد يوم إلي اليسار . فالمطلع على أحوالها يدرك
تمام الأدراك أن انجلترا سائرة إلي إزالة الفروق الكبيرة بين طوائف الرجال . وقد زادتها هذه الحرب زيادة مساواة بين صنوف الناس . فانجلترا تجرب نفس التجربة التى تجربها روسيا . غير ان روسيا بدأت من اليسار واتجهت شيئا ، وانجلترا وأمريكا بدأتا من اليمين وتسيران يسارا . وهم جميعا ملتقون ما بقيت حرية الرأي قائمة إلي نظام وسط فيه حرية الفرد بمقدار وسيطرة المجموع بمقدار ، وفيه أكبر حظ من السعادة الانسانية - أ كبر حظ ممكن ، لأن هذه الأرض ما خلقت ليكون بها حظ الإنسان من السعادة غير محدود . قال الخبيث .
- ومصر ؟ فقلت أرد خبثا بخبث : - وماذا في مصر ؟ قال : - ذلك الرأي بتقسيم الثروة بين الناس جميعا . انهم بذلك يصبحون فقراء جميعا قلت - ياسيدي لا يقول بهذا إلا الأدباء . قال : كيف
قلت : لأنهم أهل عواطف لا أهل أرقام فالتفريق للانفاق على هذا الاسلوب البدائي مضيع للطريف والتالد من الأموال . إنما الذي نريد ان نفرقه القدرة على الانتاج وكسب الأرزاق . إن الفقير لا يطلب صدقة يعيش عليها وينام إليها . وإنما هو يطلب القدرة علي الكسب ، وأن تتاح له فرصة للنهوض لينهض على رجليه هو ، لا على أكتاف غيره من الناس . وهذا يتطلب التعليم ، فمن حقه أن يتعلم وان يتعلم بالمجان . وهذا يتطلب العمل ، ومن حقه ان يعمل ، وان تفتح في وجهه ابواب الاعمال . ومن حقه فوق هذا وهذا ان يكسب من عمله ما يكفيه لعيش الإنسان ، فللإنسانية كرامة أحرص عليها وتحرص انت أن لا تنزل إلي مستوي البهيم . وهي تنزل حتى دون هذا المستوي . فللبهيم صاحب يعني بأمره ، وتهمه صحته ، وتهمه قوته ، لأنه وسيلة إلي إنتاج او متعة ، وبعض الناس انحط عن أن يهتم به أحد في صحة أو قوة . قال :
- إن أكثر الصناعات لا تكاد تفي بنفقاتها . وبعض الصناعات إنما تنهض في مصر لرخص الأيدي العاملة فيها . قلت :
- إن رخص اليد العاملة بمثابة رخص الكرامة الإنسانية ، وإن شر الأمم تلك التي يقال عنها إنها رخيصة أيدي عمالها . فهل أنت واجد رخصا كهذا في انجلترا أو أمريكا أو فرنسا أو ألمانيا أو روسيا ، أو أمة لها في المدنية مكان . إنما نجد هذا في مصر وفي الهند وفي الصين . وحيث يوجد التدهور الإنساني في أبشع صوره . قال :
- إن العمل سلعة تغلو وترخص قلت : - وكذلك مالك يا صاحب المال الوفير سلعة ، تغلو وترخص ، والسلع تحميها الحكومات ان تهبط عن نفقة الإنتاج . فلذلك وجب عليها ان تحمي العمل من ان يهبط ثمنه عن نفقة الإنتاج . وفي نفقة الإنتاج هذه يدخل غذاء العامل غذاء طيبا ، وسكنه مسكنا طيبا ، وكساؤه كسوة طيبة . وتمريضه وتعليمه هو وابناؤه ، حتى بحسبان هؤلاء سلع المستقبل العاملة . قال :
- وماذا يبقى لرأس المال في مصر من بعد ذلك قلت :
- بقي له الكثير إذا ما أدبرت الصناعة والزراعة إدارة علمية فنية حصيفة . إنها عندئذ تدر اضعاف ما افتقدته بالذي بذلت للعمال والزراع من حقوق وستدر بعض الذي تدر بسبب هذا البذل ايضا . وفضلا عن هذا فرأس مال العامل في عضله وفي رأسه ، وهو يطلب لرأس ماله كذلك ربحا معقولا . قال :
- إن نجاح الأعمال الاقتصادية أكثره بسبب ما يحدو مديريها ومدبريها من آمال . قلت :
- من أطماع . إن الطمع ياسيدي أمل بولغ فيه . قال : - إن الأعمال تديرها عقول جبارة ، فكيف يحد من نشاط هذه العقول ؟ قلت :
- من ذا الذي يريد حدا من نشاطها ؟ ! إنما الذي نريده حدا من كسلها ونريد ان نشفيها من تقدير كاذب لقيمة المال الكثير إن لكل رجل وامرأة حدا في النفقة بغية الحياة الطيبة ، وما بعد ذلك امراض نفسية ، يهيجها إلى لذائذ وهمية وقوع البصر علي أكوام من الذهب ليس من عادتها الركود ونحن إنما نريد للأغنياء ، متعة إنسانية كاملة ، ورفها معقولا ، ونريد ان نحميهم بعد ذلك من غلواء الأوهام الكاذبة ونريد ان نحل فيهم من بعد ذلك لذة إنسانية اخري يستشعرونها من خلقهم النعيم حيث كان البؤس ، والصحة حيث كان المرض ، والتعلم والتفهم والتبصر حيث كانت الجهالة والغباوة والعمي . قال :
- وهل تقف الأمور ، إذا هي اندفعت ، عند هذه الحدود ؟ قلت :
- هذه ياسيدي الحجة القديمة ضد كل إصلاح . قلنا اعتدالا في إيمان ، قالوا يؤدي اندفاعا إلى الكفر وقلنا سفورا من بعد حجاب ، قالوا يؤدي إلى الفجور وضياع الاعراض . فإن كان هذا كل اعتراضك ، فهو أضعف الإيمان ، فأنت منا .
فابتسم . وقام وقمت ، وخرج من الحجرة ، ولا تزال تلبس وجهه ابتسامة حرت في معناها
