الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 342الرجوع إلى "الثقافة"

بين المسموع والمقروء

Share

طنجة

لقد عرف القارئ فى أخبار الدنيا ما كان من أمر طنجة ، أو ماسيكون من أمرها ، لما أزمع الخلفاء عقد اجتماع دولى يبحثون فيه أمرها بعد أن فرغت الحرب الأوربية ، وأخذ ينتظم أوربا والشرق نظام السلام .

وكان المفروض أن طنجة ، وقد وقعت على المحيط الأطلسى ، وخارج الباب الغربى للبحر الأبيض المتوسط ، لا تهتم لها روسيا أى اهتمام . ولكن حدث فى الساعة الأخيرة ، وقد تهيأ القوم للاجتماع ، أن أظهرت روسيا رغبتها فى أن تكون بين المجتمعين ورغبة من صديق يستضيف نفسه على مائدتك ، وفى آخر لحظة ، رغبة تحرج لا شك من نصبوا المائدة ، ورتبوا مقاعدها ، وهيئوا طعامها على وفق الحاضرين ، وعلى مقدار الحاضرين . ولكنها مع إحراجها ، لا يستسيغ عرف الضيافة رفضها . وإذا وجب أن ينفض الضيوف الكرام ، وأن ترفع المائدة ، للتروى .

على أننا لا نريد أن نعرض اليوم لحظوظ الميناء الحاضرة ، ولكن لحظوظها الغابرة .

فالميناء كانت فى القديم الأقدم مدينة رومانية . وازدهرت فى عهد القيصر أغسطس ، ونودى بها مدينة حرة . وتعاقب عليها الفندال والبيزنطيون ، ثم العرب . وبقيت هكذا ، أقدم مدينة وأجمل مدينة ، فى الغرب ، إلى أن ضعف أهل المغرب وأخذت المطامع الأوربية تنحدر جنوبا .

وظهرت هذه المطامع أول ما ظهرت فى البرتقال ، فى القرن الخامس عشر . وكانت البرتغال أمة ذات متاع فى

الشرق الأقصى . وكذلك كان الاسبان . وطنجة كانت فى الطريق إلى الشرق الأقصى . وفشلت البرتغال أولا فى كسب المدينة ، ولكنها نجحت أخيرا وحازتها عام ١٤٧١ . وانتزعها الأسبانيون من أيدى البرتقالين عام ١٥٨٠ . ولكنها عادت إلى البرتغاليين عام ١٦٥٦ .

وعندئذ يشاء القدر أن تظهر بريطانيا على المسرح تلعب دورا لم يكن من غرضها أن تلعبه . وتلعبه فلا تحسن اللعب ، فتنزل عن المسرح باختيارها ، كارهة ، مبقية على البقية الباقية من سمعتها فى إحسان التمثيل .

ففي عام ١٥٨٠ خضعت البرتغال للتاج الأسبانى ، وبقيت خاضعة له ستين عاما . ومحررت عام ١٦٤٠ تحت تاج لها جديد ، حمله بيتها الملكى الحديد ، بيت براجانسا .

تحررت البرتغال عام ١٦٤٠ ، ولكنها كانت فى فقر وفى ذلة وفى ضعف . والضعيف الفقير الذليل فى هذه الدنيا كالحمل تتخاطفه الذئاب . وهى على فقرها وضعفها كان لها ممتلكات وراء البحار . فكانت هذه ضغثا على إيالة . فالمتلكات للقوى المهيب مصدر غنى وقوة ، ولكنها للخائر الماجز باب يدخل منه إليه طمع القوى واعتداؤه . وفكرت فى أمرها فلم تجد بدا من اصطناع صديق يرد عنها طمع الطامعين .

ووجدت هذه الصداقة القوية المرجوة فى انجلترا ، وكانت البرتغال صادقت الانجليز ثلاثة قرون سبقت ، فلم يكن بعزيز عليها أن تحيى هذه الصداقة وتجددها وتقويها ، فالزمن يبلى الصداقة كما يبلى الأشياء والناس . وللصداقة عربون وعرابين .

والصداقة بين الفرد والفرد عربونها العاطفة وعرابينها الصوالح ، وهى بين الأمة والأمة عرابينها الصوالح أولا ثم تأتى للعاطفة فى أذيال ذلك يجرها على الأرض خيط طويل رفيع .

وكان على عرش انجلترا ملك شاب ، شارل الثانى ، وكان فى نحو الثلاثين من عمره  وكان لازوج له ، وكانت تتحدث الناس بزواجه ، واقترح عليه ذلك المقربون . وبعثوا بالرسل إلى أوربا يطلبون الزوجة للملك البريطانى ، بطلبونها فى كل بلاط ملكى . وكان الملك خبيرا بالنساء ، عرفهن فى نفيه بالقارة . فلم يكن ذوقه بالذوق السهل الذى يشبع بالقليل ، وعرضوا عليه العروض فلم يأبه لشىء منها . وعرضوا عليه أميرات ألمانيات ، فقال مالى والبلادة والجو الكثيف .

ويشاء القدر الجميل المؤانى أن تكون فى تلك السنوات ، بأرض البرتغال ، أميرة صغيرة جميلة نشأت على كثير من الفضل ، وفى كثير من اعتزال ، فلم تشب ثوبها شائبة مما شاب النساء عندذاك وكانت تصغر الملك بسنوات ثمان .

ففى هذه الفتاة الجميلة ، ذات الحسن والحسب ، وضع البرتغاليون أملهم . وكانت أمها الملكة تدير أمور تلك الأمة . فخالت أن زيجة يدبر أمرها بين ابنتها وشارل ، لابد أنها تعطى لابنتها الهناءة ، وتعطى لأمتها الحماية التى ترجوها فى المحيط الدولى .

وبعثت إلى لندن سفيرا يهىء للخطبة المرجوة وحمل السفير معه مهرا كبيرا ، خمسمائة ألف من الجنيهات تدفع نقدا ، وميناء طنجة بهديها إلى الملك هدية العرس .

ولم يكن هذا كل شىء . فقد عرض الوزير أيضا على انجلترا تجارة حرة فى البرازيل ، وفي جزر الهند الشرقية وكذلك جزيرة ممباى ( وعليها ميناء ممباى فى الهند ) عرضها ملكا حرا .

لقد كان هذا عرضا سخيا لا محالة . ولكنه فى واقع الأمر كان عرضا من مالك يعرف أنه ليس به القدرة على الابقاء على ما يملك . فطنجة إن لم يأخذها الانجليز أخذها الأسبان . وممباى إن لم تأخذها انجلترا أخذتها هولندة .

وكان اللورد كليرون رئيس وزراء انجلترا فى هذا العهد . فلما عرض الصفقة على الملك قال : (( إنه سر لها ، وإنه قد يكون بها نفع للمملكة أيضا )) .

لانت عريكة الملك الشاب ، زير النساء ، والخبير الذى لا يجوز فى يده النقد الزائف . وكيف لا تلين وهو مثقل بالدين ، أثقله وأثقل أمته به عهد الدكتاتور الذى ذهب ، كرومول  وطنجة ؟ ما هذه ؟

وفي السر اجتمع بأمير بحره يسأله عنها وعن خطرها . فكان الجواب أنها ميناء خطيرة ، لو وقعت فى أيدىي الهولندين ، خصوم انجلترا عند ذاك ، إذا لاستطاعوا أن يسيطروا على تجارة البحر الأبيض المتوسط ، ما دخل إليه منها وما خرج .

وعدا هذا ، فالعروس مسيحية كاثوليكية ، والملك كاثوليكى ، ولو رسما ، وليس فيما عرض من أميرات هذا المذهب من يقارب هذه العروس جمالا وسمعة .

وأصدر الملك أمره بإتمام الصفقة . وفى عام ١٦٦١ أمضيت فى لندن معاهدة بين انجلترا والبرتغال ، هى أس الصداقة التى بقيت بين الأمتين ثلاثة قرون ولانزال نلمس آثارها إلى اليوم فى السياسة الدولية الحاضرة .

وذهب أمير البحر بسفينه إلى لشبونة ليحمل الملكة الجديدة إلى لندن ، فلما بلغ لشبوبة رنت شوارعها بالهتاف العالى ، هو هتاف من ضمن السلامة من بعد يأس .

وبدأت انجلترا مقامها على القوة فى طنجة ، وحملت إليها من العسكر بضعة آلاف  وتداول عليها الحكام ، فلم ينجح فيها من نجح إلا نجاحا مشوبا بخيبة .

كان أول هم الانجليز أن يهيئوا الميناء لتكون مركزا للتجارة عظيما . فكان لا بد من بناء الأرصفة وكاسرات الموج . فأرسلت اليها المهندسين والفنيين . وأنشأت

الحكومة الانجليزية لجنة فى لندن لحكم الميناء . فكان أعضاء اللجنة يساومون من يتقدم من أرباب العطاءات لتموين العسكر بالغذاء والكساء بغية اقتسام أرباحهم . كانت الرشوة متفشية تفشيا ذريعا . لم تكن انجلترا ذاك الزمان هى هى التى نعرف فى هذه الأيام . وفى هذا عبرة المعتبرين ، وفيه أمل الآملين .

وأقام المغاربة على عداء دائم لطنجة ومن يحتلها . وكانت حرب لم يكد ينفض لها سوق يوما . وظلت طنجة يحاصرها المغاربة عقدين من الزمان . فقتل الانجليز من المغاربة ، وقتل المغاربة من الانجليز . ومل الانجليز هذا الحال فطلبوا الرحيل . وعزز مللهم أن مرتبات العسكر لم تكن تدفع إلا بعد أشهر من وجوبها . وعزز مللهم أن الخزانة الانجليزية لم تكن تقدر لبناء الميناء كل تلك النفقات . ورفض البرلمان الانجليزى أن يوافق على زيادة فى تلك النفقة ، فلم يكن يد من شد الرحال ، شدوها بعد أن أقاموا بطنجة عشرين عاما ، كانت من أشق الأعوام .

غادر الانجليز طنجة عام ١٦٨٤ . وعلم المغاربة قبل ذلك بإعتزامهم الرحيل فكفوا عن القتال ، وبقوا على مراقبيهم ينتظرون .

وخسر الانجليز بطنجة خسارة لم يدركوا مقدارها إلا بعد ذلك بأحقاب . وعندها طلبوا بديلا منها ، فكانت جبل طارق .

وبمغادرة الانجليز طنجة ، رجعت مرة أخرى إلى المغاربة . وأعلنت فرنسا الحرب على الغرب فى القرن الذى تلا وضربت طنجة بالمدافع - وما أشبه الليلة بالبارحة

واختلفت فرنسا وأسبانيا على طنجة ، ثم اتفقنا عام ١٩١٣ على اقتطاع طنجةمن مرا كش وحكمها على صورة خاصة ، وفى عام ١٩١٣ تدخلت انجلترا فى الأمر ، وجرت

المباحثات بين الدول الثلاث وطالت ، حتى لحقتها الحرب العالمية الأولى فانقطعت .

وفى عام ١٩٢٣ تم الانفاق بين الدول الثلاث على نظام دولى ما لحكم طنجة ، تشترك فيه تلك الدول ، ويشترك المسلمون واليهود ، كل ، لا بمقدار أعدادهم ، ولكن بمقدار خطرهم فى الحكم والتجارة والإدارة ، كل هذا مع الاحتفاظ لسلطان مراكش بالسلطان ولو اسميا على طنجة ، ذلك لأنه أقر بحماية فرنسا بعد أن كان تأبى .

ويجىء عام ١٩٢٨ فتدخل إيطاليا شريكة فى ذلك النظام .

وتمضى الحرب الأوربية الحاضرة ويأتى عهد السلم ، ويأتى نظام الأمن العالمى الجديد ، فتتراءى طنجة فى الأفق من جديد . فكم عدد بقاع العالم التى تفوق فى صفتها الدفاعية والهجومية بقمة طنجة ما اعتبرنا بحرها الأبيض الحبيس أو محيطها الأطلسى الطليق !

وإذا تدخل أمريكا فى الأمر . وإذا يقول الروس : فما بالنا نحن أيضا ؟

وبعد اجتماع الثلاثة الأقطاب فى برلين سيعرف الناس ما يتمخض عنه القدر لطنجة من أحداث .

اشترك في نشرتنا البريدية