الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 455الرجوع إلى "الثقافة"

بين المسموع والمقروء

Share

كاسب وكاسبة

كتب يسألني في أمر من أمور دنياه زيجة تراءت له يمنع منها في نظره أن الزوجة المرتقبة تساويه سنًا أو هي تكبره بعام أو عامين ؛ ولكن ليس هذا عنده بذي بال . إنما ذو البال عنده أنها تكبره كسبًا ، فقد فتح لها الحظ باب الوظائف فأرتقت ارتقاء سهلا ، أما هو فأنسدت في وجوهه على العادة المألوفة الأبواب . وذكر أنها لا تبغي أن تترك الوظيفة . ولكنه لا يعترض على هذا اعتراضًا مانعًا ، فالزوجة لها حق العمل إذا رغبت فيه كما للزوج حقه . ولكن الذي يعترضه خشية أن يكون ارتفاع كسبها محدثًا إحساسًا بالرفعة عليه في نفسها . وعدا هذا فأين رجولة الزوج الكاسب ، رب البيت وعائله الأوحد ؟ !

ولقد ذكرني هذا الكتاب بقصة زوجة وقع لها مع زوجها شيء أشبه ما يكون بهذا ، وليس يعيب الشبه إلا أن صاحب هذا الكتاب شرقي ، وتلك الأخرى التي عنها أروي غربية . قالت :

لقد عشت مع زوجي اثني عشر عاما في هناءة تامة على الرغم من أني أكسب فوق ما يكسب ، وأحسبني سأظل أكسب فوق ما يكسب ما عشت وعاش فأنا اعمل في بيت من بيوت التجارة ، وأكسب ٣٦٠٠ دولار في العام . وزوجي باحث كمياوي ، ويكسب ٢٨٠٠ دولار في العام . ولو أننا ركنا إلى العرف القديم القائل بأن الرجل هو وحده الكاسب والعائل ، لما كان لنا اجتماع ولا كان بيت أو هناءة .

التقيت بزوجي ولم يكن فرغ من دراسته الجامعية ، وكنت أنا فرغت من دراستي الثانوية . وكانت لي وظيفة في هذا البيت التجاري ، أقف فيه وأبيع للناس . وأفضى

لي زوجي بحبه ، ثم عقب على ذلك في حزن ، قال : ولكن أين العمل وأين الكسب ، فدون ذلك السنوات ؟ ! فبادرته بقولي : ولكن أنا لي عمل ولي كسب . فضحك جاك وقلب الأمر مزاحًا .

وفي الوقت الذي ارتقيت فيه إلى وظيفة شارية مساعدة تعين في شراء البضائع لهذا البيت التجاري ، نال زوجي المرتقب درجة بكالوريوس . وقع هذا في الأزمة العالمية الماضية ، أزمة عام ١٩٣٣ ، وفي هذه الأزمة كان الناس يفقدون مناصبهم لا يكسبونها . فلما تعذر العمل قال لي جاك : ما رأيك في أن أستمر في الدراسة لنيل الماجستير ، وأن نؤخر زواجنا إلى ما بعد ذلك . فقلت على الفور : أوافق على النصف الأول من اقتراحك ، وأرفض النصف الثاني . وزدت فقلت ؛ ثم ما رأيك في أن يكون العشرون من الشهر القادم تاريخ عرسنا ؟ فقام يحتج كما يحتج كل الذكران . ولكني أقنعته بأن وقتا يقضيه في زيادة الدرس اليوم يزيد في قدرتنا على الكسب غدًا .

وعلم أبوانا بما انتوينا ، فقام الفزع من كل جانب ولم نستمع لأحد وتزوجنا . وكد جاك وجد حتى نال الماجستير . وظل العمل متعذرا . فمضى يعمل للدكتوراه فنالها . وكسب وظيفة ذات مرتب صغير كالذي يدفعونه في العادة لأهل العلم . ووافق ذلك ترقيتي إلى وظيفة شارية كاملة لبيت التجارة الذي أعمل فيه .

وفي عام ١٩٣٧ جاءنا ولدنا الأول . وفي عام ١٩٣٩ جاء ولدنا الثاني ، واضطرني الحمل إلى ترك عملي حينًا لأعود إليه بعد ذلك فترك جاك كيمياءه ، وراح يبيع بوالص للتأمين ليعوض ما أصاب إيرادنا المشترك من نقص ونجح في هذا العمل نجاحًا كبيرًا .

وذات ليلة خالجني أنه مأخوذ البال بأمر يفكر فيه . فابتسمت وقلت له : افرغ ما في الجعبة . قال : أفكر في البقاء في عمل التأمين هذا ، فهو أكسب كثيرًا من الكيمياء .

وعلى كل حال فواجبي الأول لزوجتي وأولادي هو أن أكسب أكثر ما أستطيع لينعموا بالحياة أكثر ما يستطيعون ، فماذا يبن ؟ قلت : إني لا أرى ، ولكني أسأل ، أي الأمرين أحب إلى نفسك ، الكيمياء أم التأمين ؟ قال : هذا سؤال أنت تعلمين جوابه ، ولكن ليست المسألة مسألة ما أحب وأكره ولكن ما هو أنفع للأسرة وأروح للحياة . قلت : استمع لي يا عزيزي ، إن الحياة تفقد طعمها إذا اضطر المرء فيها إلى القيام بعمل يمقته . إني تزوجت كماويًا بارعا ، وأود أن أبقى متزوجة هذا الكيماوي البارع . في الأسبوع القادم سأعود إلى عملي وتعود أنت إلى معملك .

وعندها نظر لي جاك نظرة حب وفهم لا يعدلها عندي مال أو متاع . وكانت هذه آخر مرة يحدثني فيها عن مرتبي ومرتبه ، أيهما الأصغر وأيهما الاكبر.

وها قد مضت السنوات ولم نأسف يوما لهذا القرار

الذي قررنا ، أن يعود إلى معمله على قلة أجره . ويزيدني اغتباطا بهذا القرار ما أراه أحيانا بأزواج صواحبي - زوج هو كاسب البيت الواحد ، في عمل يبغضه ولا يستطيع أن يتزحزح عنه خشية نضوب المورد الواحد ، وهو دائما في قلق ، أحرص ما يكون على دفع قسط التأمين خشية أن يحدث له حادث الزمان فيذهب عن أسرته كاسبها . مناظر مؤسفة ، ولكن لي منها متعة المرأة المدلة بنفسها ، أن حملت عن زوجها بعض أثقاله وبعض أثقالها ، وحمل هو سائرها .

ولي الغبطة بنفسي أنا أيضا أن نلت من عمل الحياة ما أملت ، إن عمل البيت شئ لم تخلق له كل النساء . وأنا على التحقيق لم أخلق له . إني افضل الحركة والتغير والتجدد الذي أجده في عملي على رتابة المطبخ ، ولي من كسبي وكسب زوجي ما يمكنني من انتداب من تقوم بأكثر هذا العمل مني أو من يقوم .

وواجبات المنزل الأخرى قائمة بيننا على المؤازرة .

فالأولاد يهيئهم للنوم أفرغنا في المساء ، والأصحن نغسلها إذا غابت الخادم سويا . وأرسم للطعام أحيانا ويرسم هو أحيانا . ويقوم زوجي بشراء الطعام لقربه من معمله وهم يرسلونه ، وأقوم أنا بشراء سائر حاجات المنزل لقربي من أسواقها . والخلاصة أن المنزل خلق من خلقنا نحن الاثنين ، لا خلق واحد . فكل ما فيه " متاعنا " لا " متاعي " . والأولاد كذلك خلق مشترك ، لا بالمعنى البيولوجي ، فهذا واضح ، ولكن بمعنى المساهمة في تربيتهم وتنشئتهم . ففي البيت التقليدي المعروف تقوم الأم على الحراسة من مطلع الشمس إلى مغربها ، لا يكاد وجهها يفارق وجوههم . أما وجه الأب فهم لا يرونه إلا عندما تقف عجلة عمله الدائرة ليل نهار . ولكن الحال غير هذا بيني وبين زوجي ، فنحن نتناوب رعاية الأطفال عند المرض ، ونتناوب الحديث إلى مدرسهم ، والذهاب بهم إلى الطبيب ، وكل شئ من هذه الأشياء الصغيرة التي تتضمن معاني جليلة ، فيزيد الأولاد بذلك تعرفا بأبيهم ، واستفادة منه ، وتقديرا له على نحو لا تعرفه العائلة التقليدية .

وفوق هذا ، فعملنا للكسب معا رفع عنا ذلك الضيق المالي الذي يؤدي بالزوجين إلى التشاجر والتنافر والخصومات التي تؤدي أخيرا إلى الطلاق . إن الطلاق والفراق من أسبابهما الكبرى ضيق ذات اليد ، فأقل ما يقال في هذا الضيق إنه يضيق الصدر ، ومن ضاق صدره كان كعود الكبريت ينتظر الحكة الواحدة ليشتعل فيأكل نفسه . ومكاسبنا نضعها في البنك في حساب واحد ، فلا هو يملي ولا أنا أملي . فالخير لنا إن أتى فجميعا ، والشر لنا إن أتى فجميعا ، والثقة بيننا متبادلة .

أما بعد ، فهذا رأي صاحبتنا الزوجة الكاسبة وزوجها الكاسب ، قد لا يرضاه كل الرجال ، وقد لا ترضاه كل النساء . ولكنه على كل حال أسلوب من العيش وافق زوجا وزوجة .

اشترك في نشرتنا البريدية