كاسب وكاسبة
كتب يسألني في أمر من أمور دنياه زيجة تراءت له يمنع منها في نظره أن الزوجة المرتقبة تساويه سنًا أو هي تكبره بعام أو عامين ؛ ولكن ليس هذا عنده بذي بال . إنما ذو البال عنده أنها تكبره كسبًا ، فقد فتح لها الحظ باب الوظائف فأرتقت ارتقاء سهلا ، أما هو فأنسدت في وجوهه على العادة المألوفة الأبواب . وذكر أنها لا تبغي أن تترك الوظيفة . ولكنه لا يعترض على هذا اعتراضًا مانعًا ، فالزوجة لها حق العمل إذا رغبت فيه كما للزوج حقه . ولكن الذي يعترضه خشية أن يكون ارتفاع كسبها محدثًا إحساسًا بالرفعة عليه في نفسها . وعدا هذا فأين رجولة الزوج الكاسب ، رب البيت وعائله الأوحد ؟ !
ولقد ذكرني هذا الكتاب بقصة زوجة وقع لها مع زوجها شيء أشبه ما يكون بهذا ، وليس يعيب الشبه إلا أن صاحب هذا الكتاب شرقي ، وتلك الأخرى التي عنها أروي غربية . قالت :
لقد عشت مع زوجي اثني عشر عاما في هناءة تامة على الرغم من أني أكسب فوق ما يكسب ، وأحسبني سأظل أكسب فوق ما يكسب ما عشت وعاش فأنا اعمل في بيت من بيوت التجارة ، وأكسب ٣٦٠٠ دولار في العام . وزوجي باحث كمياوي ، ويكسب ٢٨٠٠ دولار في العام . ولو أننا ركنا إلى العرف القديم القائل بأن الرجل هو وحده الكاسب والعائل ، لما كان لنا اجتماع ولا كان بيت أو هناءة .
التقيت بزوجي ولم يكن فرغ من دراسته الجامعية ، وكنت أنا فرغت من دراستي الثانوية . وكانت لي وظيفة في هذا البيت التجاري ، أقف فيه وأبيع للناس . وأفضى
لي زوجي بحبه ، ثم عقب على ذلك في حزن ، قال : ولكن أين العمل وأين الكسب ، فدون ذلك السنوات ؟ ! فبادرته بقولي : ولكن أنا لي عمل ولي كسب . فضحك جاك وقلب الأمر مزاحًا .
وفي الوقت الذي ارتقيت فيه إلى وظيفة شارية مساعدة تعين في شراء البضائع لهذا البيت التجاري ، نال زوجي المرتقب درجة بكالوريوس . وقع هذا في الأزمة العالمية الماضية ، أزمة عام ١٩٣٣ ، وفي هذه الأزمة كان الناس يفقدون مناصبهم لا يكسبونها . فلما تعذر العمل قال لي جاك : ما رأيك في أن أستمر في الدراسة لنيل الماجستير ، وأن نؤخر زواجنا إلى ما بعد ذلك . فقلت على الفور : أوافق على النصف الأول من اقتراحك ، وأرفض النصف الثاني . وزدت فقلت ؛ ثم ما رأيك في أن يكون العشرون من الشهر القادم تاريخ عرسنا ؟ فقام يحتج كما يحتج كل الذكران . ولكني أقنعته بأن وقتا يقضيه في زيادة الدرس اليوم يزيد في قدرتنا على الكسب غدًا .
وعلم أبوانا بما انتوينا ، فقام الفزع من كل جانب ولم نستمع لأحد وتزوجنا . وكد جاك وجد حتى نال الماجستير . وظل العمل متعذرا . فمضى يعمل للدكتوراه فنالها . وكسب وظيفة ذات مرتب صغير كالذي يدفعونه في العادة لأهل العلم . ووافق ذلك ترقيتي إلى وظيفة شارية كاملة لبيت التجارة الذي أعمل فيه .
وفي عام ١٩٣٧ جاءنا ولدنا الأول . وفي عام ١٩٣٩ جاء ولدنا الثاني ، واضطرني الحمل إلى ترك عملي حينًا لأعود إليه بعد ذلك فترك جاك كيمياءه ، وراح يبيع بوالص للتأمين ليعوض ما أصاب إيرادنا المشترك من نقص ونجح في هذا العمل نجاحًا كبيرًا .
وذات ليلة خالجني أنه مأخوذ البال بأمر يفكر فيه . فابتسمت وقلت له : افرغ ما في الجعبة . قال : أفكر في البقاء في عمل التأمين هذا ، فهو أكسب كثيرًا من الكيمياء .
وعلى كل حال فواجبي الأول لزوجتي وأولادي هو أن أكسب أكثر ما أستطيع لينعموا بالحياة أكثر ما يستطيعون ، فماذا يبن ؟ قلت : إني لا أرى ، ولكني أسأل ، أي الأمرين أحب إلى نفسك ، الكيمياء أم التأمين ؟ قال : هذا سؤال أنت تعلمين جوابه ، ولكن ليست المسألة مسألة ما أحب وأكره ولكن ما هو أنفع للأسرة وأروح للحياة . قلت : استمع لي يا عزيزي ، إن الحياة تفقد طعمها إذا اضطر المرء فيها إلى القيام بعمل يمقته . إني تزوجت كماويًا بارعا ، وأود أن أبقى متزوجة هذا الكيماوي البارع . في الأسبوع القادم سأعود إلى عملي وتعود أنت إلى معملك .
وعندها نظر لي جاك نظرة حب وفهم لا يعدلها عندي مال أو متاع . وكانت هذه آخر مرة يحدثني فيها عن مرتبي ومرتبه ، أيهما الأصغر وأيهما الاكبر.
وها قد مضت السنوات ولم نأسف يوما لهذا القرار
الذي قررنا ، أن يعود إلى معمله على قلة أجره . ويزيدني اغتباطا بهذا القرار ما أراه أحيانا بأزواج صواحبي - زوج هو كاسب البيت الواحد ، في عمل يبغضه ولا يستطيع أن يتزحزح عنه خشية نضوب المورد الواحد ، وهو دائما في قلق ، أحرص ما يكون على دفع قسط التأمين خشية أن يحدث له حادث الزمان فيذهب عن أسرته كاسبها . مناظر مؤسفة ، ولكن لي منها متعة المرأة المدلة بنفسها ، أن حملت عن زوجها بعض أثقاله وبعض أثقالها ، وحمل هو سائرها .
ولي الغبطة بنفسي أنا أيضا أن نلت من عمل الحياة ما أملت ، إن عمل البيت شئ لم تخلق له كل النساء . وأنا على التحقيق لم أخلق له . إني افضل الحركة والتغير والتجدد الذي أجده في عملي على رتابة المطبخ ، ولي من كسبي وكسب زوجي ما يمكنني من انتداب من تقوم بأكثر هذا العمل مني أو من يقوم .
وواجبات المنزل الأخرى قائمة بيننا على المؤازرة .
فالأولاد يهيئهم للنوم أفرغنا في المساء ، والأصحن نغسلها إذا غابت الخادم سويا . وأرسم للطعام أحيانا ويرسم هو أحيانا . ويقوم زوجي بشراء الطعام لقربه من معمله وهم يرسلونه ، وأقوم أنا بشراء سائر حاجات المنزل لقربي من أسواقها . والخلاصة أن المنزل خلق من خلقنا نحن الاثنين ، لا خلق واحد . فكل ما فيه " متاعنا " لا " متاعي " . والأولاد كذلك خلق مشترك ، لا بالمعنى البيولوجي ، فهذا واضح ، ولكن بمعنى المساهمة في تربيتهم وتنشئتهم . ففي البيت التقليدي المعروف تقوم الأم على الحراسة من مطلع الشمس إلى مغربها ، لا يكاد وجهها يفارق وجوههم . أما وجه الأب فهم لا يرونه إلا عندما تقف عجلة عمله الدائرة ليل نهار . ولكن الحال غير هذا بيني وبين زوجي ، فنحن نتناوب رعاية الأطفال عند المرض ، ونتناوب الحديث إلى مدرسهم ، والذهاب بهم إلى الطبيب ، وكل شئ من هذه الأشياء الصغيرة التي تتضمن معاني جليلة ، فيزيد الأولاد بذلك تعرفا بأبيهم ، واستفادة منه ، وتقديرا له على نحو لا تعرفه العائلة التقليدية .
وفوق هذا ، فعملنا للكسب معا رفع عنا ذلك الضيق المالي الذي يؤدي بالزوجين إلى التشاجر والتنافر والخصومات التي تؤدي أخيرا إلى الطلاق . إن الطلاق والفراق من أسبابهما الكبرى ضيق ذات اليد ، فأقل ما يقال في هذا الضيق إنه يضيق الصدر ، ومن ضاق صدره كان كعود الكبريت ينتظر الحكة الواحدة ليشتعل فيأكل نفسه . ومكاسبنا نضعها في البنك في حساب واحد ، فلا هو يملي ولا أنا أملي . فالخير لنا إن أتى فجميعا ، والشر لنا إن أتى فجميعا ، والثقة بيننا متبادلة .
أما بعد ، فهذا رأي صاحبتنا الزوجة الكاسبة وزوجها الكاسب ، قد لا يرضاه كل الرجال ، وقد لا ترضاه كل النساء . ولكنه على كل حال أسلوب من العيش وافق زوجا وزوجة .
