الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 294الرجوع إلى "الثقافة"

بين المسموع والمقروء

Share

عند طبيب :

دققت الجرس ، فانفتح الباب ، فسألت الخادم اين الدكتور ، وما لبثت أن رأيت الدكتور قادما . . حافيا .

ولم يكن على جسمه من غطاء غير سروال قصير يحجب ما نسميه العورة . قلت : لقد حضرت في الموعد . قال : بالضبط .

وساقني إلي حجرة الجمباز ، بعد أن خلعت ملابسي وصرت مثله غطاء  جسم . فهو طبيب يتولى علاج الأجسام بالحركة والبخار لا بالأشربة والعقاقير

وفي حجرة الجمباز قاذفني الكرة وقاذفته ، ولم تمض دقائق حتى صرت كالخارح من المغطس بللا . ثم جعلني

أجري حركات للرياضة أخري ، كان ختامها أن رقدت على ظهري ، وأخذت أرفس برجلى ، فإذا بي أتحرك كالرفاس البخاري على سطح النيل . لقد كان سطح الحجرة غاية في الملاسة ، وكان ظهري عليه من الماء ما كفي للسباحة ، فلما رفست انزلق ظهري وجري باسم  الله مجراه ومرساه

واكتفى الدكتور بهذه الظاهرة العجيبة ، وقال  هذا حسب جسم يتحرك عنيفا لأول مرة . واسلمني بعد  ذلك إلي رجاله ، رجال الحمامات والأبخرة .

في الحمامات

ودخلت حجرة حارة شديدة الحرارة ، ومع الحرارة جفاف . فلم أكد آخذ انفاسي . وكنت وحدي ، فاقتربت من الباب حتي أطل منه ولو برأسي إذا آذن خطر . ولكن انفاسي عادت شيئا فشيئا ، وجاست في هذه الحجرة ،

ونظرت إلي ساعة في الحائط تخبرني كم بقيت فيها وكم ابقي

ونظرت على مائدة في وسط الحجرة عليها المصور وأضرابه . فأخذت اقرأ ، ولذت لي القراءة لأمرين : أولها أن الحمام كان حماما بلا ماء ، وثانيهما اني كنت عاريا عري الوليد ، ومع هذا اجلس على كرسي واقرأ آخر الأنباء .

وخرجت من الحجرة الحارة وقد بلغت حرارتها ما يقرب من الخامسة والأربعين درجة ، إلى حجرة ابرد وارحم ، وفيها الدش ساحنا ، وباردا ، وخليطا من هذين . فصببته ساخنا .

وأسلمني الدش إلي حجرة كالحمام ، بها مرقد من خشب يعلو عن الأرض مترا فعلى هذا المرقد رقدت ، أرقدني عليه سلام ومعه الصابون والليفة . وأسلمت له جسدي ، ظاهره وباطنه ، يغسله غسلا . فإذا ارغي الصابون إرغاء ، أخذ يدلك عضلاتي بعضلات من ساعديه قوية . وختلتني سرعة انزلاق يديه عن الإحساس بما احدثا لي من ألم .

وخرجت من هذا الحمام إلى الدش البارد . ومنها إلي  باب اصل منه إلى مخدع للراحة . وعند الباب تلقاني رجل آخر ، علام ، بثلاثة بشاكير ، أعطاني واحدا ، ثم ثانيا ، ثم ثالثا لم أدر ما أصنع به ، ففهمت أنه زيادة في كرم .

وفي المخدع ، وهو مكعب الشكل ، رقدت في السرير بعض ساعة . ثم ارتديت ملابسي . وعند الباب ودعت الطبيب . وعند الباب أخذت محفظة نقودي وساعتي من المكتب ،

لم يكن لي بد من الخروج دون أنقد سلاما  وعلاما شيئا . فقد أفعل في المرة الثانية . وبقيت أسبوعا انتظر أن يلين جسدي بعد الذي أصابه من تصلب ، من جراء هذه الحركة العنيفة الباغتة والحرارة

العود  أحمد

وعدت . ولما فرغت من الجمباز ودخلت منطقة الحمام لم اجد بها بعض ذلك الترحيب الاول . وفعلت كل شئ وحدي هذه المرة . ولما حان رقدة الحمام المعهودة اضطررت إلي نداء سلام ، وناديته عاليا . ولما جاء بليفته وصابونته وجدت في ساعده هذه المرة ضعفا ، ووجدت الدلك يختزل اختزالا ولما فرغت انتظرت رجل الأسبوع الماضي ، علاما ، يقف عند الباب ، ومعه البشا كير الثلاثة . ولكن علام دخل قبل اوانه ، فلما رأي اني لم أفرغ بعد ، ترك البشاكير عند الباب . وأقبلت على البشاكير ، فإذا الثلاثة اثنان .

" يخرج منها بقطنة "

وذهبت بعد البشاكير ، أو مع البشاكير ، إلي مخدعي . وكنت سرت إليه منذ سبعة ايام وراء من كان يوسع لي طريقا لم يضق بي ، ولكن سرت إليه هذه المرة وحدي ، ولم أته عنه ورقدت رقدة الراحة بعد عناء . فماذا يترامي إلي إذني في هذا السكوت ، صوت الخدم ، ثلاثة أو اربعة ، اجتمعوا يعلقون على ما يلقون من الزبائن . ويشكون ان منطقة الكتب والجمباز هي التي تفوز بالبقشيش دون منطقة الحمامات . ويقول أحدهم : يا خويا الواحد منا يعمل ما يعمل والزباين قرصانين . ويرد الآخر فيقول : على كل الحال الدنيا دي فانية . والواحد حيخرج منها بابه ؟ مش بقطنة ؟

وتبينت صوت صاحب القطنة ، فإذا به سلام . نعم سلام الذي يغسل الأجسام فوق تلك الطاولة بالحمام ، وتراءي لي ما بين هذه " القطنة وتلك الطاولة من رابطة . وتراءي لي أن سلاما  كان قبل ذلك مغسل أموات . لا شك في هذا . وتراءي لي عندئذ أنه كان يفعل بي علي

تلك الطاولة ، بالصابون والليفة ، ما كان يفعل بالجثث من قبلي . إلا القطنة ، فلم يسعفه بها زمانى  

المال يصلح ما فسد :

كل هذا جره  على أن مصدر البقشيش ، محفظتي : احتبسها في المكتب عند باب الدار حابس . وارتديت ملايس ، ومررت بالخدم ، وقد كانوا لا يزالون في جمعهم الذي منه ارسلوا إلي الدرس الذي ارادوه عبر الهواء ، فصحت بهم : اين الطريق إلي المكتب لأرد محفظتي ؟ وما كنت أجهل الطريق . وأخذت محفظتي من المكتب ، وعدت إليهم أصيح : يا سلام ،

فإذا صوت سلام يجيب عاليا فيرن في المكان :

أفندم

فنقدته ونقدت غيره نقدا طيبا ، وقد كدت اصححه فأقول له : إن الميت يخرج عن الدنيا باكثر من قطنة . بخمسة أدراج وبسبعة ، و أكثر من هذا ، من القطن والحرير والشاهي الجميل

ولكني لم أفعل . لقد كرهت أن اوقظ فيه ذكري صناعته الأولى ، أو تلك التى لابد كانت صناعته ، ثم اعود فأسلم جثتي إليه في الأسبوع التالي .

البنسلين

سألت صديقي الطبيب عن هذا الدواء العجيب ما هو ، قال إنها مادة كيماوية توجد في نوع من أنواع النباتات التي التى تسمى بالفطريات ، فهو شبيه بعفن الخبز .

استخراج البنسلين

وسألته كيف يستخرج منه . قال يستخرج من هذا العفن الخاص بعد تربيته على ماء تذاب فيه اغذية وأملاح

تلزم لنمائه . فينمو عندئذ على سطح هذا الماء في صحون كما تنمو الأعشاب على الأرض . والذي يقوم بهذه العملية الرجل النباتي . ويقوم بها ايضا البكتريولوجي لخبرته في تزريع المكروبات ، فتزريع المكروبات شبيه بتزريع الفطريات في الطريقة . وعندما يتم هذا ينتهي عمل النباتي ويبدأ عمل الكيماوي .

وغاية الكيماوي استخراج هذه المادة الكيماوية ، البنسلين من الفطر . وهو يستخرجها بعمليات شاقة ، تنبني على رج الفطر بسائل يذوب فيه البنسلين ولا تذوب فيه مادة الفطر النباتية . ولكن هذه المذيبات مع الاسف تذيب مع البنسلين اشياء اخرى غير مرغوبة . فواجب الكيماوي عندئذ أن ينقيه من هذه الأشياء غير المرغوبة . فهو يعيد الرج ويغير السائل المذيب ، ويبديء ويعيد في هذا إلى أن ينتهي إلي خلاصة غير نقية تماما ، ولكن بها الكفاية من البنسلين . فهذه تستخدم في علاج الامراض .

تحضير البنسلين في مصر :

قلت لمحدثي : أو يستطاع تحضير البنسلين في مصر

قال : لقد حضر إلي مصر من أشهر أحد الرجلين الذين كشفا البنسلين ، وأخذ يحاضرنا في طريقة تحضير هذه المادة ثلاث ساعات أو أربعا ، فأي نباتي ، وأي كيماوي ، إذا اجتمعا ، لا يستطيعان تحضيره بعد ذلك ! إن طريقته مكشوفة . فعمل الرجل المختص هنا تكرار لعمل الغير ، والمختصون في مصر اليوم والحمد لله رجال كثيرون ، لا يتميز بعضهم عن بعض في الكفاية لهذا ، فهي كفاية معتدلة ، غير جبارة ولا ممتازة

البنسلين يفيض عن حاجة الحرب :

قلت : وكم تحضر الأمم اليوم منه ، وأي الأمم تحضره ؟ قال : أنا أعلم يقينا أن إنجلترا تحضره .

والولايات المتحدة تحضره . ولعل روسيا كذلك تفعل . وليس ما يمنع أن تكون المانيا ايضا قائمة في تحضيره ، فقد كان كشف البنسلين أول من كشف رجل إنجليزي ، ثم قام يفصله من بعده رجل الماني ، ثم غطي النسيان على عمل الرجلين حينا ، أما كم يحضر منه ، فالذي اعلمه ان إنجلترا والولايات يحضران منه اليوم ما يكفي لحاجة الجرحي في الحرب ، ولكن يظهر ان الذي حضر منه إلى الآن زاد عن حاجة الحرب . فقد علمت ان وزير الصحة البريطاني وعد امته بأن سيزيد محصول البنسلين في العام القادم حتى يكفي حاجة المدنيين منه .

البنسلين يأتي إلى مصر :

واستطرد صاحبي فقال :

كذلك الولايات المتحدة أرسلت فعلا إلي الشرق الأوسط منذ أيام بالطائرة من البنسلين ما يكفي لمائة مريض من المدنيين . ومعنى هذا ان حاجة الحرب سدت . وقد وعدت الولايات أن ترسل إلي الشرق الأوسط من هذا العقار مثل هذا القدر كل شهر .

قلت : فهل يعطي هذا المقدار إلي وزارة التموين . ليأخذ البنسلين مثل الطريق الذي أخذه الأنسولين

قال : أظن أن اللجنة الاستشارية للشرق الأوسط هي التي ستفرقه على الأطباء مباشرة عندما تطرأ الطواريء وتنذر المخاطر . فهو دواء ليس مما يذهب إلي يد المريض ، بل إلي يد الطبيب .

قلت : وهل ينفع البنسلين في كل الأمراض ؟ قال هذا زعم فاسد شاع فأضر . إنه إنما ينفع في بعض الأمراض دون غيرها . ومن الأسف أنه لا ينفع شيئا في كثر امراض مصر ، كالدوسنطاريا والتيفود . إن البنسلين مطهر داخلي ، كما ان الفينول مطهر خارجي .

وهو يستخدم حقنا كما تستخدم العقاقير الكبريتية الجديدة كالسلفا نيميد والسيبازول بلعا ، وكلها مطهرات . ومن أجل هذا جاء في نصيحة الامريكان مع هديتهم من البنسلين ، إنه لندرته لن يعطي لمريض إلا إذا ثبت بالتجربة انه أعطي من هذه العقاقير الكبريتية الأخرى أولا فلم تجد هذه العقاقير في حسم دائه .

" شو " أيضا :

تحدثنا في الأسبوع السالف عن كاتب الإنجليز الاول ، جورج برنارد شو ، وعن ترتيبه أمور نفسه استعدادا لمفارقة هذه الحياة .

واليوم تأتي الأخبار بأنه أوصي بأن تحرق جثته بعد موته . ثم يقول إنه بعد ذلك لا يهمه ما يصنع الناس برمادها . وإنما الذي يهمه ان يمزج هذا الرماد برماد زوجته - وقد ماتت قبله بأعوام - مزجا لا يعرف من بعده أيها ترابه وأيها ترابها . بهذا عاهد زوجته قبل وفاتها

والرأي عند " شو " أنه أكرم للأجسام ان تحرق بالنار فتطهر ، من ان تترك في الأرض نهبا للعفن وطعاما للديدان .

والرأي عندي أن الحالين واحد ، فما بعد العفن إلا الرماد ، وما بعد الرماد إلا اختلاطه بتراب الأرض . فإن كانت المحارق تؤدي إلي الرماد القريب ، فالمقابر تؤدي إلى الرماد البعيد .

صاح هذي قبورنا تملأ الرح       ب فأين القبور من عهد عاد

خفف الوطء ما أظن أديم ال      أرض إلا من هذه الأجساد

اشترك في نشرتنا البريدية