نحن ، بنى الإنسان ، إذا ذكرنا المجد لم نذكره إلا الرجال ، وإذا ذكرنا العظمة فلا نعنى بها غير عظمة الرجال. ولكن في غير دائرة الرجال ، وغير عظمة الرجال ، توجد عظمة تتضاءل إلى جانبها كل العظائم ، وإلى جانب مجد الرجال ، يوجد مجد تتضاءل إلي جانبه كل الأمجاد.
وأعنى في هذه المرة عظمة الطبيعة الصامتة ، عظمة الطبيعة العارمة التي لا تأذن لحى أن يتنفس بها . ومن تلك عظمة الصحراء الواسعة ، المحرقة آنا ، والمهاردة المثلجة أحيانا . وعظمة البحار عند رأس الكرة وعند قدمها ، حيث لا وطء إلا على التلوج ، ولا ضرب إلا فى فجاج بيضاء لا يعرف لها أرض من سماء ، ولا يعرف لها ليل أو نهار . ثم عظمة الجبال السامقة التي طالت فأعجزت ، وقامت وقد استقرت قواعدها عند أحر من الجمر وحملت على رأسها ألوف الألوف من أطنان الجليد.
وأكبر الجبال من العظمة حظا ، وأكثرها إعجازا للإنسان أن يركب أكتافها أو يبلغ قنها ، ذلك الجبل الأرفع ، الذى استقر بين زملاء لها في رفعته نصيب . وأسموها جميعا جبال الهملايا.
وكان هذا الجبل ، أرفع جبال الأرض رأسا ، لا يتحلى باسم ولا يعرف له لقب ، ولا يذكر إذا ذكرت رؤوس الأرض الفخمة ، إلى أن جاء عام ١٨٥٢
ففى هذا العام كان كاتب هندى ، في إدارة المساحة الهندية ، يفتش في دفاتر بها ارقام عديدة لا تكاد تحصى ، ر فمنها مساح انجليزى نتيجة أعمال للمساحة واسعة أجراها فى نواحى الهند ، وفي جبالها ، فوقع على رقم يشير إلى
ارتفاع قنة فى سلسلة تلك الجبال أسماها القنة الخامسة عشرة ، قال إنها أكبر قنة فى العالم .
وكان الرقم الذي وقع عليه هذا المساح تقريبها جاء به وهو يرصد القنة ، من الأرض البسيطة ، ثم بالحساب .
وكان اسم هذا المساح إفرست Everest ، فسميت هذه القنة باسمه ، وعرفت بهذا الأسم ، عرفها به كل دارس جغرافيا ، من كل أمة ، وكل لون ، وكل لسان .
ومن وقت أن عرفت تاقت الأنفس إلى الصعود إليها إلى أعلى سقف فى الدنيا .
ولم يكن الوصول إلى هذه القنة ، إلى هذا الجبل الأفخم والأضخم والأقرب إلى السماء من كل جبال الأرض ، لم يكن الوصول إليه فى أوسط جبال الهملايا إلا زحفا .
زحفا إليه من جبل إلى جبل ، حتى إذا اقتربوا منه ، هجموا عليه طلبا لرأسه ، وإذلالا لكبريائه ، بعد أن بقى القرون يطاول الناس فلا يطولونه ، ويغالبهم فلا يغلبونه .
وزحفت البعثة تلو البعثة ، لا إليه أول الأمر ، ولكن إلي قنن من أمثاله ، وأخذت تحظى فى قنن الهملايا بإرتفاع من بعد ارتفاع . فبعثة في العقد الثامن من القرن الماضى بلغت في قنة من قنن الهملايا علوا مقداره ... ٢٤ قدم . وأخرى فى عام ١٨٩٢ هدفت إلى ارتفاع ٢٥٠٠٠ قدم من قنة أخرى . وتلتها أخرى مات قائدها . ثم أخرى . حتى إذا كان العقد الثانى من القرن الحاضر ، قبيل الحرب العالمية الأولى ، قام رجل عجيب يدعى نوثيل ، خرج يضرب فى الجبال ولم يخبر أحدا . وخرج معه طبيب في مثل غرابته . ووصلا إلي نحو أربعين ميلا من القنة العظمى ، جبل افرست وعاد نوثيل بصور مما رأى ، حتى جبل الثلج على حافة التبيبيت ، صوره وفى محاضرة ألقاها فى الجمعية الجغرافية الملكية بلندن فتح الباب واسعا لهجمة يهجمها الرواد من بعد ذلك على هذا الجبل البعيد العاصى.
ولكن قام دون ذلك عقبات . فامارة كبال ، وهى أقرب طريق إلى الجبل ، أبت أن تعطى رخصة لأحد بالمرور إليه منها . وولاية التبييت ، في الشمال ، في الصين ، كان موقفها غير ذى وثوق . وأحجمت الحكومة البريطانية ، وأحجمت حكومة الهند ، عن أن تضغط على هذه الولاية أو تلك طلبا للمرور . وبالنؤدة ، وعلى الصبر ، وانتظارا للزمن أن يسهل الصعب ، ويلين الجامد ، زالت هذه العقبات . وأذنت التبيبيت أخيرا أن يمر بها الطالبون .
وفى ربيع عام ١٩٢١ تألفت أول بعثة غرضها صعود الجبل ، جبل اقرست وتألفت ، لا لتصعد الجبل . لا فهذا كان أملا بعيدا لا يتحقق في الهجمة الأولى . وإنما تألفت لتتعرف الجبل ، ونتعرف مواقعه ، تمهيدا للصعود إليه فى محاولات تكون من بعد ذلك .
وخرجت البعثة إلى التبييت تقطع سهولها ، وتدور مع طرقاتها بأحمالها ، ثم تهبط إلى حيث الجبل من شماله . فيتراءى لها جبل الثلج العظيم الذى كان منه ثم انفصل عنه . وداروا حول الجبل يتعرفون أى المداخل تكون إليه أقرب ، وأيها يكون ولو على المراوغة أيسر . وصعدوا ثم صعدوا . وبعد أن صعدوا عادوا واستقروا منه بعد تسلق بارع عند ارتفاع ٢٣٠٠٠ قدم وهبت الرياح الموسمية فآذنت بختام الرحلة ، فلم يكن بد من العودة . ولكنهم بنوا ، حيث بلغوا ، تلك الدرجة الاولى التى كان على كل طالع هذا الجبل من بعد ذلك أن يدرج إليها ، ويبدأ منها الطلوع .
وبهذا تم (( تعرفهم)) للجبل. وعادوا إلى بيوتهم ، ليعودوا إلى مثل ما كانوا فيه بعد عام . واتخذوا معهم هذه المرة كل حيلة ، وتوسلوا بكل وسيلة ، يسهل بها السفر ، ويخف بها الصعود . الصعود إلى القمة هذه المرة .
وحطوا أول حطة على ارتفاع ١٦٥٠٠ قدم ، حطوا عند هذه المحطة الأولى زادهم ، واتخذوها مبدأ لأعمالهم .
وهى أعلى من جبل منت بلانك ، أكبر جبل فى أوربا ، بنحو ١٠٠٠ قدم ، ثم استمروا صاعدين . وكلما بلغوا علوا ذا بال ، عند موضع به رحابة ، أناخوا . وبنوا المناخ تلو المناخ ، ورقموا المناخات أرقاما ، حتى بلغوا المناخ الخامس ، أو المخيم الخامس ، وعلوه ... ٢٥ قدم . وجمعوا كل ما بهم من قوة ، وفي يوم غير محمود الهواء ، غير محمود الأرض ، زجوا بأنفسهم زجة أخرى ذهبت بهم صعدا إلى علو ٢٦٩٨٥ قدما . ولم يبلغها جميعهم . فمنهم من تخلف من إجهاد . ومنهم من مخلف من بعد أن تجمدت أطرافه بالصقيع ، والصقيع يميت كما تميت النار . ومنهم من زهقت نفسه إلا رمقا وجاءت الساعة الثانية والنصف من بعد الظهر فقرروا العودة إلى المخيم - المخيم رقم ٥ . ولم يكن هؤلاء قد نفد صبرهم ، أو فرغ جهدهم ، ولكن السرعة لم تسعفهم . وخشوا هبوط الليل .
عادوا إلي المخيم ليعاودوا الكرة . وأصبح الصباح فخرج ثلاثة منهم ، لم يلبث ثالثهم أن توقف . ومضى الاثنان صعدا يطلبان القمة التى لا تغلب . واستعانوا هذه المرة بالأكسجين ، يلبسون جهازه على وجوههم ، ويحملون ثقله على ظهورهم . وفجأة تعطل أحد الجهازين . فما كان من الآخر إلا أن حاول أن يصل جهازه بجهاز صاحبه حتى لا يموت اختناقا . وأصلحا الخلل ولكن بعد أن كادا يهلكان جميعا . وكانا قد بلغا ارتفاع ٢٧٣٠٠ قدم . أى أكثر مما ارتفع أى انسان في الوجود . وعادوا إلى المخيم ، مخيم رقم ٥ .
فهل منعتهما ، أو خذلت غيرهما ، كل هذه الصعوبات واحتمال هاتيك المهالك ؟ بالطبع لا . وقامت جماعة أخرى منهم تتطلب ما استعصى . وصعدوا . ولكن فجأة ، وبغير إنذار ، سمعوا دويا هائلا . . .
