الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد الثاني عشرالرجوع إلى "الرسالة"

بين بريسكا (1) وتوفيق الحكيم

Share

بريسكا      : أني أبغضك. أبغضك من أعماق قلبى.  ت. الحكيم  : استغفر الله! لماذا يا سيدتي؟ ما جنايتي؟     ب        : واحتقرك كما احتقر غالياس.     ت        : لاحظى يا سيدتي قبل كل شئ أن ليست لى                   لحية غالياس!

ب :  قل لى أنت قبل كل شئ : ماذا عليك لو أنك        أبقيت لى مشلينيا؟ .. لو أن قلمك تمهل لحظة        صغيرة ولم يقصف تلك الحياة قبل أن يحضر        غالياس وعاء اللبن .... ! ماذا كسبت أنت        من موت مشلينيا قبل الأوان؟ لحظة واحدة        صغيرة كانت كافية لإنقاذ الفتى..لكنك        ضننت بها ايها القاسى الظلوم!

ت : لست قاسيا يا سيدتى ولا ظلوما. ولو كنت       أملك أمر بقاء مشلينيا دقيقة واحدة لأبقيته       لك عن طيب خاطر.  ب : لو كنت تملك؟ ومن غيرك يملك؟!  ت : لا تحملينى يا سيدتى هذه التبعة.  ب : جميل أن يتنصل خالق من تبعة خلقه كل هذا        التنصل!!  ت : ما أظلم الإنسان! وما أحوج المبدعين إلى        الرحمة والرثاء فى هذا الوجود!  ب : نحن الظالمون وهم المظلومون! شىء بديع!  ت : إنكم تحملونهم التبعات وترمونهم بالظلم

وهم براء من كل صفة من الصفات. فلا ظلم ولا  عدل، ولا قسوة ولا حنان، ولا غضب ولا  رضى، تلك عواطف لا يعرفونها ولا يشعرون  بها. ولو أصغى إله لصوت آدمى لأنحل الكون  فى طرفة عين كما تنحل قصة أهل الكهف  لو أنى أصغيت إلى شخص واحد من أشخاصها!

فأنت تريدين أن أؤخر موت مشلينيا دقيقة.  ولا تعلمين أن هذه الدقيقة الواحدة كانت كفيلة أن  أن تغير وجه القصة وتقلب مصير الأشخاص  وتلقى عناصر الفوضى فى العمل كله. كلا  يا سيدتى. إنى لم أرد موت مشلينيا ولم أرد  بقاءه. ولم أحب ولم أكره. ولم أظلم ولم  أعدل. إن المبدع لا يمكن أن يخضع لغير قانون  واحد : "التناسق" .

ب : هذا كلام تبرر به قسوتك.  ت : أنت يا سيدتى لا تعرفين ما مهنة المبدع! ثقى        أن كلمة "قسوة" لا معنى لها فى تلك المهنة.  ب : أنت كائن لا يمكن أن يفهمنى ولا يمكن أن         يفهم الحب.  ت : لا أفهمك، هذا صحيح. أما انى لا أفهم الحب        فهذا غير صحيح.

ب : هل أنت تفهم الحب؟  ت : قليلا.  ب : هل أحببت فى حياتك .. ؟ ت : أيتها الأميرة. لا أسمح بالكلام فى شئونى        الخاصة.  ب : معذرة. إنما أردت أن أعرف كيف فهمك        للحب؟  ت : ماذا تريدين أن تعرفي. أحب الخالق وهو        روح التناسق. أم حب المخلوق. .؟  ب : حب المخلوق..حب القلب .. الحب ما أريد.

صدقت ما دمت أنت خالقا وأنا مخلوقتك فإن بيننا          تلك الهوة. . فأنت لا تنظر إلي بعين خاصة.          ولا تعرفنى معرفة خاصة. ولا تتصل بي اتصالا          مباشرا. إنما تنظر إلى كعنصر من عناصر         الكل المتسق. تنظر إلي بعين ذلك القانون         الذى تحكى عنه، وينبغى أن تكون مخلوقا مثلى         وعنصرا أو جزءا مثلى حتى يكون بيننا ذلك         الارتباط الخاص وذلك الالتفات الخاص.        فهبك كذلك وهبنى أحببتك فهل تحبنى؟  ت : يا لك من ذكية ماهرة !  ب : أجب. إذا أحببتك... ؟

ت : ومشلينيا؟  ب : دعنا الآن من مشلينيا.  ت : إذا أحببتنى ؟ .. أنا.. ؟  ب : نعم.  ت : إنى أخشى هذا الحب.  ب : لماذا؟  ت : لأنك لن تحبينى.  ب : من أين لك العلم؟  ت : هل رأيتنى ؟ إنى لا أشبه مشلينيا فى شىء.       فليست لى فتوته ولا جماله ولا قوامه ولا ذراعاه       ولا شفتاه ...

ب : ولا قلبه ؟  ت : أتردد قبل أن أجيب. قد يكون لى قلبه. لكن        ثقى أني إذا شقيت فى هذا الحب فإنى لا أذهب        إلى الكهف ولا أموت جوعا. أولا ليس عندى         كهف أموت فيه. وإن وجدنا الكهف فلسنا         واجدين الشجاعة والصبر عن أكل الشواء         والدجاج يوما واحدا ...

ب : إذن ليس لك حتى قلبه!  ت : نعم وا أسفاه!  ب : إذن ما يصنع مثلك لو شقى فى هذا الحب؟  ت : يذهب إلى كهف من كهوف النبيذ فى مونمارتر ...        ويؤلف قصصا تمثيلية.

ب : مرحى ! . مرحى ..!  ت : لا تغضبى أيتها العزيزة بريسكا.  ب : أهذا فهمك للحب؟  ت : ماذا تريدين إنا لسنا قديسين!  ب : أنتم مبدعون!.. كنت أحسبكم خيرا من هذا !!  ت : كذلك قال غالياس يوما فيما أذكر عن        القديسين الثلاثة إذ خالطهم وحادثهم. ألا        تذكرين؟

ب : كنت أظنك على الأقل خيرا من غالياس         المسكين فهما للحب!!  ت :   يشق على أن يخيب ظنك فى يا عزيزتى!  ب :  عزيزتك! كلا. لست أسمح لك. إنك تخاطبنى         كما لو كنت تعرفنى من قبل. أو كما لو كنت          لى بعلا !!

ت : حقيقة أيتها الأميرة. ليس لى هذا الشرف.  ب : تستطيع أن تنصرف يا هذا.  ت : أنصرف إلى أين أيتها الأميرة ..؟  ب: أتسألنى ؟ إلى حيث كنت .. إلى سمائك..  ت : أين هى هذه السماء؟ فى دمنهور؟ أو فى قهوة         "جراسمو" ؟ ما أكثر أوهامكم أيتها          المخلوقات!

ب : نعم ما أكثر أوهامنا .. وتخيلاتنا .. وخيبة      آمالنا !..  ت : ذلك أنكم تريدون أن تخضعوا كل شىء        لخيالكم أنتم.  ب : صدقت. إنا نتمثل القديسين والآلهة كما        تصورهم لنا عقولنا..  ت : ثقى أن لو كشف المجهول يوما لأعين البشر        لصاحوا كلهم بكلمتك التى لفظت الساعة:       "كنا نحسبه خيرا من هذا... !"

ب : ربما ..  ت : ذلك أنهم سيرون المجهول شيئا لا علاقة له        بعقلهم، ولا بخيالهم، ولا بمنطقهم، ولا بعواطفهم،        ولا ببشريتهم ..  ب : إنا مخلوقات ماذا تريد من مخلوقات؟ انا        لا نستطيع أن نخرج من أنفسنا لنفهم ونرى        شيئا غير أنفسنا.  ت : ومع ذلك فإن لهذه المخلوقات كنزا لا يوجد        عند الآلهة.

ب : القلب.  ت : نعم.  ب : إنى أؤمن بما تقول. فها أنت ذا خالق من نوع        تافه .. ليس لك القلب الذى لمشلينيا ..!  ت : أعترف أنى أقل شأنا من حبيبك.  ب : ومع ذلك فقد اجترأت يدك على إطفاء حياته        الجميلة ...  ت : عدنا إلى الاتهام.  ب : إنى أبغضك .. أمقتك .. أبغضك من      أعماق قلبى ..  ت : سبحان الله! اقسم أن لا فائدة من مناقشة         امرأة تحب.

اشترك في نشرتنا البريدية