أنا من أزهد الناس في الكتابة وأقلهم رغبة في المناقضات الصحفية الأدبية والعلمية ، على لذة جامحة في مطالعتها ، ورغبة ملحة فى تتبعها ، وشوق عنيف إلى ما يتخللها من حيلة بارعة وسرعة خاطر ، وصراحة مكشوفة ومداورة خادعة ، وحجة مصيبة أو خاطئة ... الخ
ولعل مشهداً من المشاهد لم يثر في نفسى شهوة التدخل بين طرفيه ما أثاره موضوع الموسم بين الدكتورين : زكي مبارك وأحمد أمين ، أو الأستاذين العظيمين : أحمد أمين وزكي مبارك على التغليب يا دكتور » . وأعوذ بالله من شهوة الكلام فقلما فصلت خطة أو حسمت موقفاً أو أصابت مقطعاً يحسن السكوت عليه وينتهى على حده الخصام ؛ ولولا ما في أمثال هذا الحوار من استعراض الآراء واستثارة شتى المذاهب والبحوث وجلوة القوى العلمية بين المتحاورين مما يعود بالخير على العلم والأدب ويفتح أغلاق النظر أمام الباحثين لكان في إثارتها جناية أى جناية ، وإجرام أبلغ إجرام
المتحاوران فى موضوع الموسم عظيمان ما فى عظمتهما مطعن ، جليلان ما في جلالها مغمز ؛ ولكن اختلفت جهات الجلال والعظمة فيهما ، إنهما ليلتقيان في أنهما قطبان ينفرج عن جهودهما في البحث والنظر فضل كبير وخير وغير
عرفنا الأستاذ الكريم أحمد أمين رجلاً رزين المجلس ، رصين العقل ، حصيف الرأي ، بعيد الأناة ، عن القلم واللسان . يطالع الناس من آثاره سمت العلماء وجلال المتواضعين ، ونظرات المجربين وثبات المستقيمين ، لا يزهاه النجاح وإن أعجب وبهر ، ولا يثيره اللجاج وإن احتدم وزخر ، بل يمضي قدماً إلى الهدف الذي قصد ، والغاية التي نشد . ذلك أحمد أمين لمن لم يعرفه
وأما دكتورنا زكى مبارك ، فذلك الأديب الثائر الشاعر القائر السنتريسي الباريسي" ، الأزهرى الفرنجي الذي خلص له في هذا الجيل أن يجمع بين أدب الزنادقة ، وإخلاص المتصوفة ، و واخي
بين الإيمان والتمرد ، وموفق بين الأناقة والمرجلة و ...
ليس على الله بمستنكر أن يجمع العالم في واحد
ترجع معرفتي بالدكتور إلى عهد الصبا ، وهو تلميذ للمغفور له الأستاذ السيد مصطفى القايانى ، يختصه بفضل عنايته ، ويضفى عليه من أبراد الكرامة ، والثناء والإعجاب، ما يبعد في غور الحب ينها ، ويبالغ في تعلق كل منهما بالآخر ، تعلقاً يفرع به الأقران ونزهى على كل إنسان ؛ ولأن حالت ظروف الحياة دون اتصالي بالدكتور ، إني لأشهد في ثورته – كلما ثار – تلك الروح الجريئة الثائرة ، روح أستاذه الكريم حية تتوثب ، لا يكبتها ملام، ولا ينهنهها وعيد ، ولا تكبحها مخافة ، فليت شعري ، على أى باقعة وقع الأستاذ أحمد أمين ؟!
لا جرم أن الأستاذ أحمد أمين كان في جنة من نبل نفسه وكرم أخلاقه ، ومن آثاره القيمة التي لا تدفع عن موارد الخلد ، لو أنه جرى على سنته وأخلد إلى غيله الذي لا يقتحم واستخدم تلك الأذن الذى سكها - قديماً - ماكتبه الدكتور زكى ناقداً به الدكتور طه حسين بك ، فجعله يرسل حكمه على أولهما في حيثيته المأثورة : إن الدكتور زكى باقى مجادله كما يلقى المصارع المصارع ، لا كما يلى العالم العالم ... أو كما قال
بيد أني أرى الأستاذ أحمد أمين في عهده الأخير ، أغفل خلاله ، ما فتح به للدكتور ثغرة ينفذ منها إلى إدراك ثاره القديم ؛ والدكتور - ولا نكران للحق - تتاح يقظ ؛ ما لبث أن انتهزها فرصة سنحت ، فشقى بها نفسه ، بلا ثمن ولا استكراه
ما زلت أعرف للأستاذ أحمد أمين فضله ونبله منذ تصورت معنى النبل والفضل ، حتى قرأت له عام أول رده على فضيلة الشيخ اللبان في جريدة الأهرام ؛ ذلك الرد الذي كان عنوانه : « أدب الخطاب »والجواب يقرأ من عنوانه ؛ والشيخ اللبان - وإن جردناه من جميع مميزاته - لن نستطيع أن نجرده من جلال السن ، ومن الشيب في الإسلام ؛ فليس مما يليق في أدب ولا عرف أن يعلم أدب الخطاب
أضحى يمزق أثوانى ويضربني أبعد شيى يبنى عندى الأدبا ؟!
من حق الأستاذ ومن دون الأستاذ أن يرد على مخالفه ، من حق المخالف ألا يشتم ؛ ولم تكن خشونة الكلام وسيلة من وسائل الإقناع المنطقي ، إلا في المواطن التي تنكرها ولكن
الحجة ، ولا يعترف بها العلم ؛ والأستاذ في علمه وفضله ، لا نموزه حجة ، ولا يعجزه برهان
كانت هذه عندي أول زلة للعالم الجليل . فأما الأخرى ، فهى إنشاؤه لمجلة الثقافة التي أزالته عن مكانه بين العلماء ، و عدلت به إلى صف الصحفيين ؛ فأصبح وهدفه أن تروج بجلته وتنشر بين القراء ، وتحثو في وجه كل مجلة سبقتها أو لحقتها ؛ ولا تروج المجلة إلا بجديد ؛ فليجدد مولانا الأستاذ في : أدب المعدة ، وأدب الروح ؛ وفى : الدين الصناعي والدين الطبيعي ؛ وفى : جناية الأدب الجاهلي على الأدب العربي . الخ الخ الح
لقد بدأ الأستاذ فكتب ماكتب ؛ وأخذ الكتاب بعده طريقهم ، بين خاذل وناصر ؛ وكان أجرأ الكاتبين ( بلا ريب ) الدكتور زكي مبارك ، ولا فخر . وكان ضرورياً أن ينافح الأستاذ عن آرائه ، وأن يذود عن حياضه ، وهو صاحب القلم الجوال والرأى الصوال ؛ ولكن الأستاذ سكت ؛ ولا أدرى : أسكوت مؤقت أم مؤبد ، فإذا كان سكوناً مؤقتاً ، فأنا أشوق الناس إلى رده، وذلك ظني به ؛ وإن كان سكوتاً مؤبداً ، فهل تراه ارتاح إلى الأثر الذي أحدثته آراؤه في رواج مجلته ، أو أنه رأى أن يعامل الدكتور زكي على سنن ما كان يعلمنا سيدنا في الكتاب :
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوت
فإن كلمته فرجت عنه وإن خليته كمدا يموت؟!
وإذا كان رأيه هو هذا، فإني أعجل له الجواب، فأقول: ذاك لو بقيت على حلمك، واحتفظت بمقامك القديم، فأما الآن فقد تساوت الكفتان، والفلج لمن برّز. . .
على أن الخبيث الدكتور زكي مبارك لن يموت قريباً، فإنما يعجل بالخيار.
ما بعد، فلقد علم الله أني أحب الأستاذ أحمد أمين وأجلّه، أكثر مما أحب الدكتور زكي وأجلّه؛ وكنت قمينا أن أغضب للأستاذ وأتحمس له، على قدر حبي له، وإجلالي إياه؛ ولكني - ولا أكذب الله - أشعر لعمل الدكتور معه بشيء من الارتياح. ذلك لهذه الطعنات الدوامي، التي حشا بها مقاله: الدين الطبيعي والصناعي، ليصيب بها قوماً غافلين، لم يعرضوا له إلا بكل خير، ولم تغفل عين الله عن الثأر لهم.
البقية في ذيل الصفحة التالية
تم لهذه الدعاوى المريضة التي أصبحت ديدن كل من أحس شهرة بحق أو بباطل فى هذا البلد ، فلا يقنع الباحث منهم بما دون قلب الأوضاع ، ومحو التاريخ ، وتغيير خلق الله ؛ وهو أعجز من أن يغير وضع الزقاق الذي ولد فيه ، ودرج بين صبيانه .
ولا يسعنى أن ألتقى القلم قبل أن أوجه تهنئتى إلى الأستاذ أحمد أمين بما يكون قد أصاب من نجاح صحق، لست أدرى أمن قبيل أدب الممدة هو أم من قبيل أدب الروح ؛ لأن النوعين لا يزالان في حاجة إلى مزيد تحديد
فأما أنت يادكتور زكي، فإني أهنيك بأن ظفرت على سفاهك هذه المرة ، ببعض رضاى . ورحم الله حكيم الشعراء : سفاه زاد عنك الناس حلم وتى فيه منفعة رشاد
