تلقيت الخطاب الآتي من الأديب صاحب الإمضاء : سيدي الأستاذ الجليل . .
أهديكم تحياتي المشتاقة ، وبعد ، فقد طالعت مقالكم القيم المنشور " بالثقافة " بالعدد ٢١٤ تعليقاً علي رسالة كاتب فاضل من القدس ، أهاب بكم أن تفتحوا باباً تنشر فيه تراجم الأدباء المعاصرين . ولقد فتحت " الثقافة " هذا الباب منذ عام ، ثم أسرعت فأغلقته بعد ما نشرت مقالات لي بعنوان " ادباء الطليعة " ثم أهملت ما أرسل إليها إهمالا أثار أدباء الشباب ممن سيكونون في يوم غير بعيد في طليعة الصف الأول في الأدب المصري .
ولقد حفزني إلي دراسة الأدب المصري وتاريخ شأنه منذ الفتح الإسلامي حافز شخصى عن عقيدة ثابتة بولاية هذا الأدب على الثقافة العربية ، فهو أدب مطبوع بطابع وتفكير البحر الأبيض ، وقديماً تولت ثقافة البحر الأبيض قيادة الثقافة . ولقد طفت بالآداب العربية من مراكش غرباً إلي أقاصي حلب شمالا وتشريقا ً، وإلي جنوب اليمن ، وإلي ما وراء بغداد ، فوجدت الأدب المصري أدباً مقروءاً له أثره واحترامه ، بل إن في هذه الأقطار الشقيقة لأدباء يقرءون لكتاب مصريين قد لا نعلم عنهم شيئاً .
ولقد أردت بما حاولت في العام الماضي من نشر ودراسة أدباء الطليعة المعاصرين إبراز جهدهم ، وتشجيعهم وإثبات فضلهم في الثقافة المصرية ؛ ولكن ما أصاب أدباء الطليعة من إهمال أدباء الشيوخ جعلهم يفكرون في
مصير الأدب المصري بعد الحرب . عندما تلتقي تيارات التفكير المختلفة ، وعندما تتهافت التآليف في مناحي العلوم والآداب الجديدة بعد هذه الحرب إلي مصر ملتقي الثقافات المختلفة . إن رسالة أدباء الطليعة ستبعث بعثاً جديدا عندما تضع هذه الحرب أوزارها ، وستؤدي رسالة أمينة فى منهاج جديد لأدب حي ، يستطيع أن يواجه اتجاهات التفكير العالمي في إيمان وقوة ؛ وهو بعد سيحتفظ بمكانه في ثقافة الأمم العربية جميعاً .
لقد رحبت " الثقافة " بنشر تراجم المعاصرين أمثال هيكل ، وطه حسين ، والعقاد ، والمازني ، والزيات من شيوخ الأدب ؛ فهل هي مرحبة بنشر تراجم المعاصرين أمثال إبراهيم المصري ، وطاهر لاشين ، ويوسف جوهر ، وطليمات ، وعفيف ، وعبد الغني ؛ وتيمور ، وناجي ، والصيرفي ، وغيرهم وغيرهم كثير ؟
إن أدباء الطليعة يناشدون شيوخ الأدب أن يعاونوهم في أداء رسالتهم أداء صحيحاً ، وألا يحجبوهم عن المسرح ، وإلا شقوا لأنفسهم الطريق ، واشتجرت بين الشباب والشيوخ خصومة أدبية ليس ينبغي أن تقوم في حياتنا الأدبية الآن !.
أرجو أن يسع حلم أساتذتنا هذه الآمال ، وأن يرحبوا بها ، ويعملوا علي إيجاد هذا الجو الطيب لإبراز أدباء جدد ، حتى لا تقفر الحياة الأدبية في مصر من الخلق والتجديد والابتكار .
وتقبل يا سيدي الأستاذ عظيم إجلالي واحترامي .
وفي الحق أن هذه تهمة قديمة ، تهمة الشباب أن
الشيوخ يحجبونهم من الظهور علي المسرح ، ويغمطونـهم حقهم ، ويضعون العراقيل في سبيلهم ، وأن هناك خصومة حادة وحرباً مستطيرة بين الشيوخ والشباب .
ومع احترامي للكاتب الفاضل وأمثاله من أدباء الشباب ، لا أري الخصومة إلا من جانب واحد ، هو جانب الشباب ، أما الشيوخ فلا يخاصمون ولا يحجبون عن المسرح ، ولا يسدون الطريق أمام الشباب ؛ ولكن الشباب يخلقون الخصومة خلقاً ، ويتوهمونها توهما .
هذه " الثقافة " التي لي شرف الإشراف عليها تنشر ما يحسن في نظرها مما يرسل إليها من شيوخ وشبان على السواء ، وترد ما لم تستحسنه من الشيوخ والشبان على السواء ، وتنقد وتقرظ كتب الشيوح كما تنقد وتقرظ كتب الشباب ، فإذا هي قصرت في النقد والتقريظ قصرت فيهما جميعاً .
كل ما في الأمر أن الشبان يرون إقبال الجمهور على مقالات الشيوخ وكتبهم أكثر من إقبالهم على مقالات الشبان وكتبهم ، فيحز ذلك في نفوسهم ، وليس ذلك ذنب الشيوخ ولا ذنب الشبان ، ولكن الناس ألفوا في كل زمان ومكان أن يتأثروا بالأسماء بجانب تأثرهم بالقيم . وقد كان شيوخ الأدب شباناً ، فجدوا وأنتجوا حتى حملو قومهم على الاعتراف بهم ، فأقبلوا على قراءتهم ؛ وهم من جانبهم لم يخلدوا إلي الراحة ، وأحسوا أن وراءهم عقولا وأذواقاً تتطلب الغذاء ، فجدوا في تقديمه .
والتاريخ يعيد نفسه ، فما علي شبان الأدباء إلا أن يسلكوا سبيل من قبلهم ، فإذا الطريق ممهدة لهم ؛ فإن أحسوا أن الشيوخ يقفون في سبيلهم فليكسروهم ، وليكسبوا الرأي العام منهم ، وهم - بحمد الله - أقوى سواعد وأصلح للنضال ، وليغلبوهم في إنتاجهم وجودة إخراجهم ، والله لا يضيع أجر المحسنين
وازنوا - أيها الشباب - بين ما ينتجه الشيوخ على ضعف صحتهم و كثرة أعبائهم ، وما ينتجه الشباب مع قوتهم وقلة أعبائهم ، تروا أن الشيوخ أكثر نتاجا وأكثر تجويدا .
إن كان الشيوخ يحاربونكم في مجلاتهم فأين مجلاتكم وإن كانوا يحاربونكم في الأسواق فأين كفاحكم ؟
أتصور أن الشباب -وقد غضبوا - بنشئون بجانب " الثقافة " و "الرسالة " عشرات من " الثقافة " و " الرسالة " وأتصور أن الشبان ولم يعجبهم نتاج الشيوخ أن ينقدوه حتي يهدموه ثم يقيموا على أنقاضه جديدهم ؛ أما ولم يفعلوا فالذنب ذنبهم .
ليس الأدب فقط أدباً حالما ، يحب الأديب فيذوب في حبه في قصيدة أو ديوان ، ولا أن يتخيل قصة غرام فيخرجها في كتاب ، فهذا من غير شك - ضرب من الأدب ، ولكنه ليس كل الأدب ؛ فمسرح الأدب هو مسرح الحياة ، وفي مسرح الحياة الشقاء الاجتماعي ، وكيف يعالج من ناحية الأدب ؛ وحياة العظماء وكيف تعرض ؛ والتراث القديم وكيف يفهم ؛ والأغاني والأناشيد وكيف تصلح ؛ إلي كثير من أمثال ذلك . ولا يؤدي الشباب رسالته حتى يقض مضجعه الهم في سبيل تحقيق غرض من هذه الأغراض ؛ أما أن يكون الأدب على هامش الحياة ، فالجزاء الوفاق أن يكون أدب الهامش هامش الأدب .
ثقوا - أيها الشباب أن الشيوخ يسرهم كل السرور نضج أدبكم ؛ يسرهم ذلك لأنفسهم ، فإن الأدب إذا حي بالشباب حي الشيوخ بحياة أدبهم أيضاً ، وأحسوا انهم في مملكة حية لا في واحة حولها قفر ؛ ويسرهم طمأنينتهم بوجود أعقابهم الذين يحملون الراية عنهم يوم يدركهم الفناء ؛ ويسرهم أن يروا في الشباب
حرارة تبعث الحياة أكثر مما يبعثون ، وتوقظ الهمم أكثر مما يوقظون ؛ ويسرهم أن يروا الشباب الجديد يدرك مقتضيات زمانه ومطالبه ، وفضائله ونقائصه أكثر مما يدركون ، ويصلحون لمستقبل أيامهم أكثر مما يصلحون ، فإن لم يكن ذلك فليلم الشباب نفسه قبل أن يلوم شيوخه !!
أحب أن أصارحكم أيها الشباب أني آخذ عليكم في نتاجكم أموراً ، أهمها تقليدكم للأدب الغربي في شكله وموضوعه تقليداً يبعده عن ذوق الجمهور العربي ، فمثلكم مثل من يغني قطعة موسيقية أوربية على مسامع شرقية . فقد تكون راقية جدا ، ولكن لا يألفها ولا يقدرها السامعون الشرقيون ، وخير لكم ان تفعلوا ما يفعله كبار الموسيقيين الناجحين ، فيطعموا الموسيقى العربية بموسيقي غربية ، حتى يستدرجوهم إلي ما يبلغون ؛ وقد استتبع ذلك منكم أن تكون ثقافتكم الأجنبية أوسع من ثقافتكم العربية ، مع ما في الثقافة العربية أيضاً من منابع قوة في الأسلوب والموضوع ، ثم الإسراع في الإنتاج من غير تجويد ، كأن الأديب يقدر بالكمية لا بالكيفية , وبعدد الكتب لا بقيمتها .
أخشي - أيها الشباب - أن أكون فيما قلت صريحاً أكثر مما يجب ، خارجاً عن حدود الأدب ؛ ولكن ثقوا أن مبعثه حب نجاحكم لا الحط من قيمكم ؟ وأمر آخر أحب أن أقوله هو غضبكم الشديد من النقد ، وأنتم والشيوخ في ذلك سواء . وكنت أتوقع وقد ربيتم تربية أوربية أدبية أن تكونوا أوسع صدراً في تقبل النقد والعمل بخيره - وقد لمست في " الثقافة " غضبكم الحاد من نقد يوجه إليكم ، ومقال لم ينشر مع بيان الأسباب ، ونحو ذلك .
فأرجو أن تكونوا في ذلك خيراً من شيوخكم ،
تنتقدون فتقابلون القد بالروح الرياضي الذي الفتموه في ألعابكم الرياضية .
ولا يفوتني هنا أن أعترف بأن بعض ما أخرجتموه لا ينطبق عليه ما قلت ، فهو في غاية السمو ، ولا أحب أن أسمي أو أمثل .
و "الثقافة " عند ظن الكاتب الفاضل ، فهي تفتح صدرها لتراجم أدباء الشباب ، كما تفتح صدرها لأدبءا الشيوخ ، على شرط أن تكون التراجم في الجانبين مدروسة في عناية ، لا مجرد مدح وتقريظ وملق .
وأشكر لك أيها الكاتب الفاضل أن هيأت لي فرصة الكلام في هذا الموضوع الحي ؛ وأعدك بأني سأكون واسع الصدر في نقد الشباب لي ، كما أرجو أن يكون الشباب واسع الصدر في نقدي لهم . والسلام .
