الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 654الرجوع إلى "الثقافة"

بين فاجنر ونيتشه

Share

فى هذا البحث دراسة للعبقرية إيان تكونها والعباقرة كما يقسمهم شوبتهور لا ينضم عليهم أن يخضعوا للقوانين التى يخضع لها سائر البشر الثقافة

١

مولد صداقة

ظهر فى أفق نيتشه عبقربان شويتهور وفاجنر فقد صادفت فلسفة شويتهور هوى فى خمس نيتشه فى بدء حياته الفكرية ومنها استلهم إرادة القوة فقد ظل واقعا تحت تأثير هذه الشخصية لحين من الزمان طويل يكون فترة هامة من تاريخ تطوره الروحى فعنده وجد نيتشه أحسن من تغنى بالتشاؤم وأبرع من وصف آلام الحياة وأعمق من نفذ إلى جوهرها ووضع يد على مفتاحها ألا وهو إرادة الحياة

وطبيعى أن حجب نيتشه بفاجنر ما دام يحجب بأستاذه  شويتهور موسيقى فاجنر تحقيق لنظرية شويتهور فى الفن وهى النظرية التى تريد أن تجعل من الفن عموما والموسيقى على وجه التخصيص الوسيلة الوحيدة للخلاص فى الحياة ومن الحياة ويقارن نيتشه شويتهور بفاجنر الشئ الذى يسرنى فى فاجنر الشئ الذى يسرنى فى شويتهور هو هذا الجو الأخلاقى هذا العبير الفاوستى الموت والقبر

كان نيتشه مشغوفا بالموسيقى منذ صغره وعندما نشر فاجنر قطعته الموسيقية ترستان أفرغ نيتشه وصديق له كل ما كان فى جعبتيهما الهزيلتين من مال قليل ليحصلا على نوتها منذ هذا الوقت أصبح نيتشه فاجنريا فى العطلات المدرسية كان يعكف هو وصديقه صباح مساء على التدرب على الأجزاء المنصصة منها للبيانو ولم يكن عزفهما حسنا آنئذ ولكن ماذا بهم لقد كان حسبهما ان يعزفا شيئا للموسيقى الشهير وقد قالت إليزابيث أخت

نيتشه فى الكتاب الذى وضعته عن أخيها لم يكن كلا الغلامين قد سمع الأوبيرا حتى الآن أو عرف كيف تعزف الألحان melodies فكانا يخرجان أصواتا نكراه ما كان أقربها إلى عواء الكلاب وازداد هذا الشغف بفاجنر تدريجيا حتى التحق نيتشه بجامعة ليبتزج وفى فترة دراسته بها كان لا يفوته حضور الحفلات الموسيقية الكبرى وكان إعجابه بفاجنر فى أشد مراحله آنئذ وفى رسالة إلى صديق له قال كنت البارحة فى أوتريب حيث استهلت موسمها الموسيقى الشتوى مدعما بمقدمة ترستان وإيزولدو افتتاحية Die Meistersinger إن موسيقى فاجنر تهزنى هزا ثم تبع ذلك مقابلة لفاجنر هيأها لنيتشه صديق له آخر فقد جاء فاجنر إلى ليبتزج متنكرا ليبقى بها قليلا فى منزل أخته ودعى نيتشه إلى مقابلته مساء يوم أحد وفى الرسالة التالية إلى صديقه الأول يصف هذا المساء سأخبرك الآن عما قدمه إلينا فاجنر هذا المساء من مسرات فقبل وبعد العشاء عزف لنا كل القطع المهمة من Die Meistersinger  مقلدا جميع الأصوات مؤديا إياها بروح عالية يمكننى القول إنه رجل حيوى حاد الطبع عجيب فهو يتكلم بسرعة ويبدى الكثير من الألمعية والذكاء وكنا نتحدث فى فترات بين العزف عن شويتهور أوه إنك ستدرك مدى السرور الذى عمنى إذ كان يتحدث عنه بحرارة ذاكرا مقدار ما هو مدين له به وأنه الفيلسوف الوحيد الذى فهم روح الموسيقى ثم أخذ بعد ذلك يقرأ علينا جزءا من قصة حياته التى كتبها لنفسه والتى كان آخذا فى تدوينها فى ذلك الوقت ولا أملك إلا القول إنه يكتب بمقدرة فائقة

وفى نهاية هذا المساء صافح فاجنر نيتشه بحرارة ودعاء إلى زيارته مرة أخرى

كان فاجنر بعد حياته المضطربة يعيش فى عزلة تامة فى تربشن Triebschen بالقرب من لوسرن Lucerne فبعد أعوام طويلة من المنقصات المبدئية تركته زوجته منا Minna عام ١٨٦١ وفى عام ١٨٦٤ توجه إلى ميونيخ

حيث دعاء الملك الشاب لودفيج الثانى هناك وقع فى حب كوزيما Cosima ابنة فرانز ليست وزوجة هاترفون بولو قائد الأوركسترا الكبير وأحد مشاهير العزف على البيانو كانت كوزيما حينئذ أما لطفلين دانيلا وباوندين فون بولو وفى عام ١٨٦٥ وضعت كوزيما من فاجنر ابنة أسمياها إيزولد وعندما أراد فاجنر أن يترك ميونيخ بعد أشهر قليلة من وفاة زوجته منا عام ١٨٦٦ دعا عائلة صديقه فون بولو بأجمعها لتشاركه منزله الجديد فى تربشن وإذ لم يلب فون بولو دعوة فاجنر هجرت كوزيما زوجها ولبت نداء الحب مصطحبة معها أولادها وفى عام ١٨٦٧ وضعت من فاجنر فى تربشن طفلة أخرى أسمياها إيفا

عندما ذهب نيتشه إلى بال عام ١٨٦٩ ليتسلم مهام منصبه كأستاذ للغات القديمة بجامعتها قدم نفسه وجلا إلى هذه العائلة فقد امضى أيام عطلته الأولى من هذه السنة فى لوسرن وأخذ طريقه صباح يوم سبت إلى تربشن وعند باب حديقة الموسيقى الكبير تريث ليستمع عن بعد إلى فاجنر إذ يؤلف موسيقاه وفى مكنه لمحه الأخير ودعاه إلى الدخول ثم زاره نيتشه رسميا بعد ذلك بيومين وكانت الزيارة ناجحة حتى إنها أتبعت بعد ذلك بدعوة أخرى على العشاء فى عيد ميلاد فاجنر فى ٢٢ مايو ولكن واجبات نيتشه فى الجامعة لم تسمح بتلبية هذه الدعوة الأخيرة التى كان سروره بها عظيما

وها هو ذا رده على فاجنر  ٢٢ مايو سنة ١٨٦٩ سيدى المحترم

لقد طالما رغبت من أمد طويل فى التعبير دون احتياط عما أثقلت به كاهلى من شكر لك والحقيقة أن أعلى وأخصب لحظات حباتى لهى قريبة الاتصال باسمك أنا لا أعرف غير رجل آخر هو يوائمك فى العقل آرثر شويتهور الذى أراه بعين التقديس التى أراك بها

فى اعترافى لك بهذا أشعر بلذة خاصة بل بشعور من الكبرياء فإذا كان قدر العبقرى أن يكون ملك العلية من الناس فى الوقت الحاضر على الأقل فان لهذه الفئة المختارة الحق فى الشعور بالتشريف الذى منح لها لنرى النور وتستحم فى دقته بينما يشعر الآخرون بالقشعريرة فى الخارج

أرانى جسورا إذ أحشر نفسى فى زمرة هذه الفئة المختارة وقد رأيت عجز العالم عن تفهم شخصيتك وكتاباتك وموسيقاك وبالجملة عجزه عن الشعور بهذا الجو من الجد والنظرة الروحية فى الحياة

وتمضى الرسالة على هذه النغمة بكل ما فيها من تقدير كبير حتى تنتهى بعد إهداء السلام إلى دالبارونة فون بولو بهذه الخاتمة تلميذك المعجب بك المخلص لك

ولم يكن هذا الخطاب مدحا خالصا لفاجنر بقدر ما كان تعبيرا صادقا عن مشاعر نيتشه الحقيقية فقد قال نيتشه  مرة فى خطاب بتاريخ ٢٩ مايو ١٨٦٩ ما يلى إن فاجنر لهو فى الحقيقة كل ما كنا ننتظر منه عقل كبير خصب رجل نشيط ساحر محبوب ذو إرادة قوية الخ وفى خطاب آخر بتاريخ ٤ أغسطس من نفس السنة بعد أن ازدادت صداقته لفاجنر لقد وجدت أخيرا رجلا لا يستطيع رجل غيره أن يوحى إلى بصورة من أسماه شويتهور العبقرى فهو متشبع حتى أعماقه بهذه الفلسفة العميقة العجيبة هذا الرجل هو رتشارد فاجنر الذى بخصوصه لا يجب أن تقبل أى حكم عليه إن فى الصحف أو فى كتابات خبراء الموسيقى فليس هناك أحد يعرفه ويتمكن من الحكم الصائب عليه لأن ذوق العالم يجرى على قاعدة أخرى ولا يرتاح إلى الجو الذى يخلقه من حوله  ففيه تتحكم المثل العليا المطلقة ونيل الحياة الجدية إنى بقربه أشعر كأنى فى حضرة الإله

حتى فى كتابته إلى أهل بيته قال فى ١٦ يونيو من نفس العام لقد وجدت فى لوسرن الصديق الذى طالما اشتقت إليه إنه رتشارد فاجنر . الوحيد كرجل وكفنان فمعه ومع زوجته الموهوبة أبنة فرانز ليست أمضيت أياما سعيدة ونحن نعيش هناك سويا فى أحاديث ممتعة وفى دائرة عائلية محبوبة بعيدة كل البعد عن السخافات والتوافه الاجتماعية العادية

وهكذا تعلق نيتشه بتربشن واغتبط بصحبة فاجنر وكوزيما

كان فاجنر صغير الحجم إن صح هذا التعبير ذا رأس ضخم ممتلئا حيوية زاخرا بالأفكار ،مستعدا دائما للتعبير عنها لا يتورع أن يصب جام غضبه على أى شئ

أى إنسان ولكن فى نفس الوقت مع مقدرة فائقة على إيقاف نفسه عند حدها وضبطها وكان بطبيعته منطويا على نفسه محبا لذاته قاسيا متمكنا من فنه آمرا متشيثا برأيه فى تحقيق أغراضه وفى إرضاء نفسه وكان على مساعدية وكذا أصدقائه أن يمتثلوا لرغباته وأن يعملوا بعين النشاط الذى كان يعمل به وكان يعمل فى إسراف وتبذير ولم يكن يعنيه من يؤدى عنه الحساب ولكنه كان بجانب ذلك رقيق القلب بطبيعته مرحا ساحرا مؤازرا لهؤلاء الذين اصطفاهم والذين أرادوا عن طيب خاطر أن يتبعوه أما هؤلاء الذين جانبوه فقد كان لهم العدو اللدود إذ كان مفتنعا دائما بصواب فكرته

أما كوزيما فهي أطول قامة من فاجنر وبأنفها وفمها الكبيرين نوعا كانت أكثر سحرا وبالرغم من طبيعتها الجازمة كطبيعة فاجنر فهى أكثر سكونا وأقل صخيا وأكثر مقدرة على الوصول إلى أغراضها بهدوء وهى إن كانت تزوجت صغيرة بفون بولو فهى لم تكن تكن له عاطفة كبيرة ولذا عندما ظهر رتشارد فاجنر فى أفق حياتها أدركت للتو أنها قد وجدت بغيتها لتقدر وتساعد وتدفع بهذا العبقرى فى طريق المجد

فى صحبة هذين المخلوقين كان نيتشه يشعر أن حياته قد بدأت من جديد وأن هذه الحياة التى أصبحت أكثر خصوبة قد دخل فيها من عناصر القوة ما كان يعوزها من قبل وبالرغم من صغر سنه بجانب فاجنر كان الأول فى الخامسة والعشرين عندما كان الأخير فى السادسة والخمسين كان الأخير يعامله معاملة الند للند وبالرغم من أن فاجنر لم يكن محتملا فى بعض الأوقات فقد كان فى بعضها الآخر يحسن الإصغاء إلى نيتشه خصوصا عندما كان يتكلم عن وجهة نظره فى الحياة وكانت كوزيما رفيقة حسنة أيضا قادرة على أن تأخذ مكانها فى هذه المناقشات العالية التى فى رأى نيتشه كانت تعطى قيمة للحياة وهكذا رضيت تربشن عن نيتشه كما رضى هو عنها فقد صار يعامل هناك كفرد من عائلتها التى وهبته شيئا طالما كان يشتاق إليه فقد كان لها بجانب جوها العقلى الذى كان يجرى وراءه ذلك الجو العائلي المنسجم وكان له فى هذا المنزل غرفتان لاستعماله الخاص وكان حرا فى الحضور دون دعوة خاصة أو استئذان وهو لم يكن محبوبا من

الكبار هناك فحسب بل من الأطفال وخدم البيت أيضا ولقد امضى نيتشه عيد الميلاد عام ١٨٦٩ فى تربشن وأطال مكثه بها أكثر من أسبوعين وكان شعوره كما قال شعور انتعاش غريب  وحتى فى أخريات أيامه كان سحر هذه الحياة ما زال عالقا بذاكرته فقد ذكر تريشن مرارا فى بعض كتاباته أشعر أنه يجب ذكر كلمة أو كلمتين عن الفضل الذى من أجله انتعشت حياتى كان هذا دون أدنى شك فى الصداقة الخالصة التى كانت يبنى وبين رتشارد فاجنر إن كل علاقاتى الأخرى مع الرجال الآخرين كانت سطحية جدا ولكن لا يمكننى ان أمحو من ذا كرتى هذه الأيام التى أمضيتها فى تربشن أيام كلها ثقة ومرح ووحى عال ولحظات عميقة إنى لا أعرف مدى علاقات فاجنر بغيرى من الناس ولكن سحابة واحدة لم تعتم سماءنا

وفى هذا الكلام شىء من المبالغة ففى بعض الأوقات كانت هناك سحب فقد كان فاجنر رجل عمل يقود مريديه بعنف وكان نيتشه يشعر بهذا العنف أحيانا وكان الأول خليقا أن يفرض على أصدقائه ملازمته حتى ولو على حساب راحتهم وأكثر من مرة وجه فاجنر بعض اللوم إلى نيتشه فى لهجة ضاحكة يشوبها شئ من الجد لتخلفه الطويل أحيانا ولكن سحب تربشن كانت صغيرة خفيفة سريعة الانقشاع وكل ما يمكن أن يذكره نيتشه تماما هو هذه السماء الصافية الراهبة التى كانت تبدد هموم حياته وهواجس أفكاره

وفى هذه الأثناء ولد طفل آخر لفاجنر وكوزيما كان هذا فى منتصف عام ١٨٦٩ وأطلقا عليه اسم سيجفريد وتم الزواج الرسمى لهذين المتحابين فى الخامس والعشرين من أغسطس عام١٨٧٠ وقد توفيت منسا زوجة فاجنر الأولى فى الخامس والعشرين من يناير عام ١٨٦٦ ولكن إذ لم يتمكن نيتشه من حضور حفلة الزفاف فقد أرسل للعروسين مهنئا وكانت تهنئته حارة خالصة وقد أكد فيها نظريا أن أعظم الناس على الأرض العباقرة كما يفهم شوبنهور ليس من الحتم أن يخضعوا للقوانين التى وضعت للإنسانية العادية وأنهم أحرار فى أن يسلكوا فى حياتهم الخاصة طريقا خاصا

وهو بهذا يعنى علاقة فاجنر بكوزيما قبل أن يتم هذا الزواج الرسمى

وفى أواخر عام ١٨٧٠ تمكنت من فاجتر فكرة إنشاء مسرح خاص جديد فى بيروت Bayreuth وسار فى هذا المشروع قدما وعندما نضجت الفكرة رأى أن يرحل عن تريشن وفى أبريل عام ١٨٧٢ انتهت إقامته بها

وقد وصل نيتشه إلى تربشن ذات مساء ووجد عملية نقل الأثاث على أشدها وفى أثناء قيام كوزيما بمباشرة حزم أمتعة الدار جلس نيتشه إلى البيانو وبدأ يرتجل بعض للوسيقى سابا فيها أحزانه وآلامه ومخاوفه وذكرياته عن الماضى المتلاشى

٢

فاجنر فى نظر نيتشه

بدأ ابتعاد نيتشه عن آل فاجنر فى أبريل عام ١٨٧٢ عندما ترك الأخيرون تربشن إلى بيروت فقد كانت تريشن بالنسبة إلى نيتشه بمثابة الوطن الحبيب هناك كان ينظر إلى البطلين المثالين فاجنر وكوزيما نظرة احترام ومحبة وتقديس ولكن باختفاء ذلك العش الحبيب فى تربشن تلاشى مكان نيتشه فيه بحيث إنه لم يعد يجد له مكانا مماثلا فى مستقرهم الجديد البعيد فى بيروت فقد كان هناك فارق كبير فى الجو بين تربشن وبيروت فارق شعر به نيتشه ففي تربشن كان فاجنر فى شبه منفس موسيقيا وشاعرا ومجددا فى الفن ومعه كان يتفق نيتشه كل الاتفاق ولكن فى بيروت محول التحمس للفن من أجل الفن إلى تحمس فى عرضه وترويجه أى تحول من جوهر الفن فى الفنان إلى مظهره ولما صار فاجنر مهتما بالمظهر فقد أصبح تدريجيا بالنسبة إلى نيتشه لا يعنى بموسيقاء عنايته بالإنتاج والعرض وإذ تغير فاجنر فى عينى نيتشه قل حب الأخير للأول وبدأ فتوره نحوه وصادف هذا الفتور هوى فى قلب نيتشه إذ رأى الفرصة قد واتته ليبتعد عن تأثير فاجنر ليبدأ فى توكيد حريته وفرديته وشخصيته من جديد وقد كادت أن تذهب بانضوائه تحت لواء الموسيقى الكبير

بدأ عام ١٨٧٣ بداءة سيئة فقد دعا فاجنر نيتشه إلى بيروت فلم يلب الفيلسوف الدعوة وربما كانت هذه أول مرة يرفض فيها نيتشه دعوة لفاجنر وتألم الأخير

ولم يدرك نيتشه مقدار هذا الألم إلا من خطاب أرسلته إليه كوزيما فى فبراير من نفس السنة ثم كتب فاجنر خطابا إلى نيتشه من أجل بعض أوراق كان قد تركها لديه بطريق الخطأ دون أن يذكر له شيئا عن الموضوع ولكن خطابه كان يحوى اعتذارا عجيبا عن الأسلوب الجاف الذى كتب به لقد كنت تمتعت أمس مساء لأول مرة بنوم طويل عميق دون أى اضطراب لقد خدعنى غروري فى أشياء كثيرة فهناك لحظات أفقد خلالها نفس فى مسارب التفكير العميق وفى أوقات كهذه تظهر أنت أمامى عادة دائما قريب الشبه بغيرى تصغير اسم سيجفريد ابن فاجنر ولكن أمثال هذه اللحظات لا تدوم طويلا إذ لا تلبث مجتمعات فاجنر وحفلاته الموسيقية أن تتراقص من حولى فى حلقات تدير الرأس

وكتب نيتشه فى نفس الوقت إلى صديق له شارحا وجهة نظر فى هذا الفتور بينه وبين فاجنر قائلا له إنه لا يعرف أبدا كيف يمكن لإنسان أن يكون أكثر منه ولعا بفاجنر وإخلاصا له ولكن يجب أن أحافظ على حريتى

وأغفل فاجنر دعوة نيتشه إلى بيروت فى عيد الفصح كما تعود أن يدعوه فتألم الأخير ولكنه ذهب إليها دون دعوة من فاجنر مصطحبا معه مسودات مقالة كتبها مؤهلا أن يعرضها على الموسيقى الكبير قبل نشرها ولكن فاجنر كان مشغولا بموسيقاء أو تظاهر بالاشتغال بها فلم يظهر نشاطا إلى الترحيب بالفيلسوف فعاد نيتشه إلي بال خائب الأمل بل غاضبا ومن ثم كتب إلى فاجنر خطابا اعتذاريا نادرا فى لغة متمسكنة يرى القارئ فيها تغير حاله إن الأيام التى امضيتها فى بيروت تحيا دائما فى ذاكرتى إنى  اقدر تماما ضيقك فى أثناء وجودى عندكم دون القدرة على اصلاح ما فسد ولكن عذرى هو أنى أتعلم ببط افسد محققت بوضوح أيها السيد العزيز أن زيارة كهذه لا يمكن أن تكون منعشة لك وغير محتملة فى بعض الأوقات لقد طالما رغبت على الأقل فى مظهر الاستقلال ولكن دون جدوي كفى إنى استسمحك فى أن تقبلنى لك شارعا قلمى من أجلك

فمن الواضح أن شعور نيتشه بالنفذة كان فى تحول إلى شعور مؤلم بالنقص وأن السلوك التذالى الذى كان يتخذه لا يمكن أن يستمر فى طبيعة كهذه

ظهرت فى اكتوبر فرصة لنتيشه لإصلاح ما فسد مشروع بيروت المسرحى كان فى متاعب مالية صحية وقد سأل مجلسه الادارى نيتشه أن يستنهض الأمة الألمانية لاكتتاب عام فكتب نيتشه المنشور الذى عنونه بـ صرخة منذرة فى الألمان وحاضر فى مواطنيه من أجل واجب تدعيم الفن الألمانى فى شخص فاجنر معتقا إياهم على عدم اكتراثهم والعراقيل التى يضعونها فى طريق إحياء الروح القديم بواسطة الأوبيرا التراجيدية الجديدة وقد قال بعضهم عندما قرأ مسودة المنشور إنه شئ عظيم لهؤلاء الفاجئربين المتحمسين فعلا ولكنه لا ينتظر أن يدعو بقية الشعب إلى التبرع بالمال أو حتى بالتشجيع وفعلا ذهب المشروع الفاجنرى من سئ إلى أسوا وظهر كأنه كان مقدرا له السقوط

ولتبحث الآن نقطة الخلاف المحتملة بين نيتشه وفاجنر وسر تذيذيه بين الابتعاد عنه والتقرب إليه لقد كان فاجنر على صواب حقا ففلسفته كانت جميلة وكانت موسيقاه السبيل الوحيد إلى مدنية جميلة راقية أيمكن أن يقع الخطأ بطريق أو بآخر فى فاجنر نفسه لقد تحقق نيتشه شخصيا أنه بإمكانه فاجنر الإيحاء بالنفور والتباعد كما انه بإمكانه الإيحاء بالحب والود وربما بدأ الآن يفكر فى نفسه قائلا إن هذا المظهر المزدوج لا يرجع إلى علاقة الشخص الخاصة بفاجنر بقدر ما يرجع إلى شىء متأصل فى طبيعة فاجنر نفسه وفى فنه فى المجموع بحيث بلزم لهما تقويم جديد وفى هذه الحالة وينظر اكثر صوابا من ذي قبل بدأ نيتشه  فى يناير عام ١٨٧٤ يستعيد مكانة فاجنر فى نفسه ويدون فى السر أفكاره عنه

لقد أخفق مشروع فاجنر فإلى أى حسد يعود هذا الإخفاق إلى فاجنر نفسه كان فاجنر يعمل جاهدا على إقناع مواطنية بأخذ الفن جديا فلم يكن الفن عنده أداة للزينة أو لتزجية أوقات الفراغ إنما هو حاجة عامة تتطلبها الحياة نفسها إنه كمال وخلاص للحياة لقد أعطى فاجنر الفن مكانا عاليا فى سلم الأشياء وجعل أهمية عظمى تماما كما فعل شويتهور وفى هذا قال إنه لا يمكن للفنون أن ينفصل أحدها عن الآخر ولا يجب فقط أن تتشابك بل أن تستعد جميعها من أصل واحد ففى عزلها إفسادها وإضعافها

وحلها فلكى تصبح الفنون عظيمة يجب أن تتحد وينظر إليها علي أنها بروح الحياة

ولقد تحقق نيتشه من هذا وعندما فكر كيف وصل أو حاول فاجنر الوصول إلى هذا الامجاد رأى أن هذا الطلب الأساسى يستتبع وجود ممثل ففاجنر يستعمل الفنون الأخرى من موسيقى وتصوير وشعر لتشترك جميعا على المسرح هناك بكل تأكيد شئ خلف الممثل هناك الحياة نفسها المعنى الباطنى للأشياء الذى يعبر عنه فى الدراما وفى هذا لا يختلف فاجنر حسب نيتشه عن أى فنان آخر ذى وحى عبقرى وإن تميز بالهيكل الذى يتخذه هذا الدافع الباطنى وهنا يقول نيتشه أمام فاجنر الصورة الباطنية الطبيعية وقد ظهرت لتجارب النفس ممثلة فى الحركة وهذا ما يود أن يطابقه فبطريقة شويتهورية عليا يود فاجنر أن يعبر عن الإرادة مباشرة فـ الحركة هى الكلمة الهمه هنا أو الإيماء كما يعبر عنه نيتشه عموما فى أمكنة أخرى فلا الفكرة ولا المعنى ولا الدراما فى معناها العادى حيث يهتم بالمكان ومنطق الكلام بل الحركة كتعبير مباشر عن دافع باطنى كالرقص مثلا هو سلسلة من المواقف المتغيرة المنتظمة الإيقاع حيث تتجسد الدوافع الباطنية مباشرة

ولقد قال نيتشه قبل فاجنر إن هناك وجهتي نظر لمعالجة الدراما حسب الأولى الدراما هى السائدة المتسلطة وما الموسيقى سوى تابع لها توضع عبث تتبع انفعالات الممثلين ومواقفهم ولكن إذ تطورت الموسيقى فقد كسبت نفسها استقلالا وانتقلت روح الأوبيرا من الدراما إلى الموسيقى بحيث إنها أى الموسيقى لم تعد بعد سندا أو تابعا للعمل الدرامى بل أصبحت بناء مستقلا قائما بذاته أما الدراما بمسرحها وممتلى شخصياتها وحركاتها فقد أصبحت تابعة لها فقط بمعنى أن الموسيقى صارت نوحى بالأفعال والحوادث التى توافقها وفى هذا كسب وغنم كبير إذ أن جمال الموسيقى فى التعبير عن مشاعر النفس أرسع وفى تصويرها أدق وأقدر يقول نيتشه إن الموسيقى ليست مطلقة عند فاجنر أو هى ليست نهاية فى ذاتها ولكنها وسيلة إلى التعبير لأن ما تعبر عنه هو الحركة أو الإيماء وهى من خلال هذا تصل إلى الانفعالات والإرادة

ولكن كيف يجتمع هذان الوجهان فى الفن وقبل

هذا كيف تحرم الموسيقى من مركزها المستقل فتقلب وسيلة للتعبير لقد تأمل نيتشه هذه النقطة ووجد أنه كى يصل فاجنر بالفن إلى أعلى مرانبة يجب أن يمزج الممثل والشاعر والموسيقى ليكونوا شخصا واحدا

ولكن تحت هذا الشرط تفقد الفنون فى انفرادها استقلالها فلا تعود كاملة فى ذاتها فالموسيقى لم تعد تقدر بقواعدها المطلقة ولكن بما لها من معى ثانوى ضمن المجموع المركب ويقول نيتشه إن موسيقيا كهذا يفرض سلفا وجود موسيقى متقدمة غنية جدا يمكن بها التعبير عن عدد كبير جدا من العواطف وبهذه المقتطفات الموسيقية يمكن أن يكون فى عقل المستمع حالة بعينها على ضوئها يرغب الممثل فى أن يفهمه الشعب وعندما يتم هذا وهذا ما وصل إليه فاجنر فعلا تصبح الموسيقى وسيلة للتعبير وهى على هذا قد هبطت إلى مستوى أقل مما كانت عليه بعدم كونها مستقلة فى ذاتها ولكنها مع هذا ذات قيمة عظمى فى المجموع برغم صغر دورها

هذه هي وجهة نظر فاجنر ولكنه فى تنفيذها يقول نيتشه قد أبان إلى أى حد هو بعيد عن الثقافة الألمانية وفى الحقيقة إلى أى حد هو لا ألمانى فكى يعطى الفن المرتبة العليا فى الحياة كما أراد اتخذ فاجنر المسرح أساسا و هنا يقول نيتشه يتأثر الجمهور حقا ولا يغش نفسه ويخدعها كما يفعل فى المتاحف والحفلات الموسيقية لا شك فى أنه إذا كان فاجنر إيطاليا لكان بإمكانه أن يصل إلى هذه النهاية ولكن الألمان لا يقدرون الأويبرا حق قدرها وهم يعالجونها دائما على أنها شئ مجاوب و لا ألمانى والحق أنه أى الشعب الألمانى لا ينشط إلى المسرح ولا يهتم به جديا

شىء غريب فقد فشل فاجنر فى إقناع الألمان بأن يأخذوا المسرح مأخذ الجد وهم يقفون باردين حياله وهو يثور ويغضب كما لو أن خلاص الألمان ميئوس منه وعلاوة على ذلك فقد كان الألمان يفكرون فى ذلك الوقت فى شىء أكثر أهمية بحيث إن عبارة الفن هذه كانت تلوح لهم تحمسا غريبا مبالغا فيه فالألمان يعتقدون على قول نيتشه أن روح الحياة لا توجد فى الفن وقد كان جل اهتمامهم موجها إلى مظاهر الحياة الأخرى وكانوا عندما يلتمسون الفن بعد مشاغلهم اليومية يبحثون فيه عن قليل

من الترفيه اللذيذ يقول نيتشه إن نوع الموسيقى الفاجنرية لا يصلح للعلاقات العملية والاجتماعية ومن ثم كانت الكراهية الغريزية لهذا الفن الجدى الذى لم يكن ليلائم ذوق الشعب الألمانى آئذ

هناك ناحية أخرى المسألة فقد اقتنع نيتشه بقوة وجهة نظر فاجنر بالرغم من مظاهر إخفاقه ويقر بعظمته وقد كتب فى مذكراته ما يلي من المحتمل جدا أن لايحب فاجنر الألمان لاشتغالهم بالفنون كل على حدة ولكن ربما تحققت اماله يوما فى إنتاج صورة من الثقافة المتحدة أو المشتركة فعنده هذا الشعور بالأتحاد فى التنوع ولهذا فأنا أنظر إليه مثل bearer of culture

ولكن الارتفاع بالمجموع يعطينا هبوطا فى الأجزاء ولا يمكن لنيتشه أن ينسى هذه الناحية ففاجنر ينظم كل شئ للمجموع ولا يتحكم فيه كأجزاء منفصلة موسيقى شعر دراما إلخ فالموسيقى لاتساوى كثيرا ولا الشعر ولا الدراما ولكن القيمة الحقيقية لكل هذا تكمن فى  المجموع الذى يرفعها إلى أسمى الدرجات

لم تكن دعوة فاجنر إذا للخاصة ولكن لجمهور المسرح الذى هو اقرب أن يكون إلى جماعة مختلطة متنافرة ويقول نيتشه إن اللغة المسرحية هى اللغة التى يتكلم بها فن فاجنر

هل موسيقى فاجنر فى نفسها عظيمة حقا لقد شككت دائما فى مقدار موهبة فاجنر فى الفن هكذا تساءل نيتشه ثم أضاف إنى لا أعرف من موسيقينا العظام من كان رديئا فجأ فى الثامنة والعشرين من عمره مثلما كان فاجنر إن فاجنر تأثيرى فإلى أى حد هو حقا فنى إنه يؤثر البساطة فى الموضوع الدرامى لأن لها التأثير الأعظم فهو يحشد كل العناصر التأثيرية أينما أراد من مواقع الضعف أو القوة وهو يور كممثل أن يقلد الإنسان فقط فى انفعالاته لأنه فى أطواره الآخرى لا تمثل طبيعته إلا الضعف والتصنع

تتلخص فكرة فاجنر كلها فى فرض سيطرة الحركات والإيمانات على الأوبيرا بحيث تضطر الموسيقى إلى أن تكون فى خدمة عواطف وانفعالات ليست فنية ولا رفيعة ولا منسجمة وهنا يقول نيتشه إن إخضاع الموسيقى لانفعالات طبيعية يقلل من قيمتها ويربكها ويجعلها أخيرا غير قادرة على تحمل العبء المشترك

اشترك في نشرتنا البريدية