حياته وعلاقاته ورواياته
نتحدث فى هذا المقال عن عبقرية شعت فى معاصريها الحرارة والنور، عن شعلة وهاجة فيها جمال وانسجام، وفى جوهرها هدى وسلام، عن مدرسة عالية تتعلم القلوب فيها السمو والشجاعة، وتتهيأ النفوس فيها للعفة والنبل والصفاء، عن مدرسة علمت الفرنسيين نفاسة الإرادة وبطولة الواجب وجمال التضحية. وسنجعل موضوع المقالات التالية عن عظماء الكتاب الفرنسيين فى القرن السابع عشر وهم: بسكال ولاروشفو ولافونتين وموليير وراسين وبوسويه وفنلون ولابروبير وسان سيمون ومدام دى سفنييه
إذا ولد ابن ملك دقت النواقيس وأطلقت المدافع إيذانا بمولده، وفرض على الشعب أن يبتهج إن كان شقيا، أو بعث الفرح فى نفسه إن كان مجدودا سعيدا. وإذا ولد عبقرى، جهل الناس أمره ولم يعرف حقيقته إلا الله الذى يسم جبينه بطابع إلهى ويعين
مهمته العالية بين البشر. وبعد أن تكشف العبقرية عن نفسها ويسود مجدها، يبحث الناس فى ظروف مولدها وفى حوادث شبابها عن الإمارات العظيمة التي تدل على مستقبله. وكذلك ولد بيير كورنى فى ٦ يونيو عام ١٦٠٦ بمدينة وارن. ولم يسطع فى ذلك اليوم نجم فى السماء جديد أو يحدث على سطح الغبراء حادث خارق يعلن إلى الناس مجىء رجل عظيم.
أحبه والداه حبا شديدا، وربياه على التقوى والفضائل، ولم يجدا فيه ما يدلهما على أن اسمه سيكون يوما فى شعفة المجد الفرنسي. وما بلغ اشده ادخله أبوه مدرسة يديرها الجوزيت فتلقى فيها تربية قوية صلبة وتعليما متينا. ولم ينس قط لهذه المدرسة الأثر الجميل الذى خلقته فى نفسه الغضة. ثم أراد له أهله أن يكون من رجال القانون فكان، إرضاء لهم دون ان يشعر بميل إلى ما أصاروه إليه.
نال إجازة الحقوق فى ١٨ يونيو عام ١٦٢٤ وترافع أمام القضاء، ولكنه لم يصيب غير الفشل الممض لانه كان خجولا يشعر فى حضرة الناس باكتئاب بطني يغمز عليه الحيرة والاضطراب، ويسلط على لسانه الحبسة والحصر. وفجأة حدثت مصادفة سعيدة أظهرت عبقرية هذا المدره الصغير. كان له صديق عزيز عليه يحب فتاة، وقد طلب منه هذا الصديق أن يصحبه فى زيارته لها فأجاب سؤله. ولما تكررت هذه الزيارة أدرك كورنى أن الفتاة أخذت ترنو إليه دون صديقه، فكف عن زيارته لها لانه بالطبع وفى كريم. هذا الحادث دفعه إلى كتابة قصة مسرحية فكاهية سماها (ميليت) مستمدا قواعد الفن من نفسه وذوقه، ثم سافر إلى باريس وفى جيبه فصول القصة الخمسة، ولم يجرؤ على تقديمها لممثلى (بيت بورجونى) المهرة النابهين، وهو المسرح الوحيد الذى كان موجودا فى ذلك العهد. فقدمها فى تواضع إلى ممثلين مغمورين فقراء، كانوا يحاولون تكوين فرقة وإنشاء مسرح صغير فى شارع (بتى بوربون) .
مثلت هذه القصة فى عام ١٦٢٩ ودرت على المسرح الصغير رزقا كبيرا. ولكن الجمهور الذى اعتاد رؤية القصص التمثيلية المقتبسة أو المنقولة عن (لوب دى فيجا) الأسبانى وغيره والزاخرة بالدسائس والعقد، وجد قصة (ميليت) سهلة بسيطة طبيعية، ولم ير فى مؤلفها شاعرا كبيرا.
ثم وضع كورنى فى عام ١٦٣٢ قصة فكاهية أخرى اسماها (كليتاندر) وقال عنها بعد وضعها ان كل ما هو محتمل فيها الأسلوب ليس غير. بعد هذه القصة يئس من الحصول على نجاح يرضيه فى الكوميديا
وشعر فى الوقت نفسه بيقظة العبقرية التراجيدية فى نفسه، فاستعار من (سنيكا) الحكيم الرومانى موضوع قصة سماها (ميديه) أخرجها فى عام ١٦٣٥، فأصابت بعض النجاح ولفتت نظر ريشيليه الوزير الفرنسى المعروف، وكان هذا الوزير يتعشق المسرح والتأليف المسرحى واليه تنسب قصص أربع غيبت كلها فى تضاعيف النسيان. ويقال انه لم يكتسب هذه القصص وإنما كان يضع خططها ويشرف على كتابتها.
وبهذه المناسبة نذكر أن مجد ريشيليه الأدبي هو فى إنشاء مجمع العلماء (الأكاديمي فرانسيز) : ففي عام ١٦٢٩ اتفق جماعة من الأدباء عل ى أن يجتمعوا مرة فى الأسبوع عند أحدهم للبحث والمناقشة فى الموضوعات الأدبية. هذه النواة المكونة بادئ ذي بدء من تسعة أشخاص، كبرت سريعا إذ انضم إليها أخصاء الكردينال ريشيليه. ثم اتصل خبرها بهذا الوزير فرأى فى الحال بمهارة رجل الدولة الفائدة التى تجنى من إنشاء هيئة تضم رجال الادب، يجيزها أمر ملكى وتكون تحت رعايته، فيضع بذلك يده القوية على جميع العقول الكبيرة فى فرنسا كما كاد يضعها على النبلاء والعظماء. وقد تم له ما أراد وصدر الأمر الملكى فى عام ١٦٣٥.
اتجه نظر ريشيليه إلى كورنى كما قلنا، ورآه جديرا بالعمل معه فى تصنيف قصصه المسرحية، فعرض عليه رغبته فى الانضمام إلى (جماعة المؤلفين) وكانت مكونة من أربعة أشخاص يكتبون باسم الوزير. قبل كورنى ذلك لانه شعر بالحاجة إلى عضد قوى يعبد له الطريق، واندمج فى هذه العصبة الصغيرة، ولكنه كان حريصا على الاحتفاظ بكنوز عبقريته لنفسه
وفى أحد الأيام طلب إليه الوزير أن يضع الفصل الثالث لإحدى قصصه وفقا للخطة التى رسمها له فلم ويوافق كورنى على هذه الخطة، ودهش الوزير من جراته واسترد منه شرف العمل معه، وقال عنه: (ليس فيه روح العمل برأى غيره!) أى ليس فيه روح الخضوع والذلة.
نالت هذه الصدمة من نفس كورنى منالا كبيرا فعاد إلى روان ليجد بين أحضان أسرته متلمسا من ألم الفشل، واعتزم العدول عن التأليف المسرحى وهجر الشعر. ثم قابله ذات يوم مصادفة كاتب سر قديم للملكة (مارى دى مدسيس) يسمى (شالون) فنصح له بأن يدرس بإمعان شديد المسرح الأسبانى، ولفت نظره إلى موضوع (السد) وكان قد عولج فى أغان وطنية إسبانية وفى قصتين من
نوع التراجيدى: أحدهما (لدون جوان ديامانت) والأخرى (لجيلهم دى كاسترو) .
قرأ كورنى القصتين، وخلال غرابة التركيب وضعف الأسلوب استخلص حدثا دراميا، ومواقف رائعة، وأفكار خلابة: استخلص من التراب تبرا نقيا، فوضع أول قصصه الخالدة وهى (السيد) المشهورة، اول درة فى تاج المسرح الفرنسى فى عام ١٦٣٦.
وقد أثارت هذه القصة فى نفس ريشيليه الغيرة والحسد، ولكن كورنى تعزى بتصفيق الإعجاب الذى ناله من فرنسا كلها، وبلغ من نجاح هذه القصة أن اصبح الناس يقولون: هذا جميل كالسيد. وانتشرت هذه الجملة حتى عدت من الأمثال العامة. وقد سخر (بوالو) الشاعر والناقد الفرنسى فى ذلك الوقت من حسد ريشيليه فقال: (عبثا يثور وزير على السيد، فكل باريس تنظر إلى شيمين بعينى رودريج (شيمين بطلة القصة ورودريج بطلها، وكان بينهما حب شديد رائع) . ولكى يطفئ ريشيليه غلة حسده أوعز إلى مجمع العلماء ان يسفه القصة، فأعلن مكرها إن موضوع القصة تافه، وهذا مديح افلت من فم المجمع خلسة، لان كورنى استطاع بعبقريته أن يجعل من الموضوع التافه قصة رائعة استدرت إعجاب الناس فى عصره واستهوت نفوس الأجيال المتعاقبة.
وقال اكثر خصوم كورني لؤما إن الجمال الذى يعجب به الناس فى القصة لا يد لكورنى فيه، وإنما هو (لدى كاسترو) الأسباني. وقد نال هذا القول من نفس كورنى اكثر مما نال منها رأي مجمع العلماء الذى دحضه وسحقه نجاح القصة فى طول البلاد وعرضها. فبحث فى التاريخ القديم عن موضوع يخلق منه قصة هامة، فعثر فى (تيت ليف) المؤرخ الرومانى المشهور على تاريخ الموقعة التي حدثت بين آل هوارس وآل كورياس. واخرج من هذا الموضوع قصته العظيمة (هوارس) فى عام ١٦٤٠. وفى السنة عينها اخرج قصة (سنا) أو رحمة أغسطوس التي نالت اكبر قسط من النجاح، وفى عام ١٦٤٣ اخرج (بولكيت) و (بومييوس) و (الكذوب) وكلها قصص خالدة أبلغته قمة المجد والعظمة. وعقب قصة (السيد) منح الملك لويس الرابع عشر والد كورنى لقب الشرف ووثائق النبل، ثم دخل الشاعر مجمع العلماء فى عام ١٦٤٧.
استمر بعد هذه القصص التى ذكرها والتى بنت مجده على أسس متينة، يصف القصص التمثيلية وأخرج كثيرا منها، ولكنها لم تبلغ الدرجة العلية التى بلغتها القصص السابقة وفي عام ١٦٥٢ اخرج
للناس قصته (برتاريت) فلم تنجح.
اشتد عليه هذا الفشل الأليم وهو الشاعر الكبير الملحوظ المنزلة فلزم الصمت سبع سنوات قضاها فى روان مع زوجه (وكان قد تزوج فى عام ١٦٤١) وأولاده الثلاثة. ثم شاءت المصادفة أن يزور (موليير) الشاعر وفرقته روان ويمثلون فيها بعض كوميدياته ولما شاهد كورنى التمثيل انتعش فى دخيلته الحنان إلى المسرح. فعاد إليه فى عام ١٦٥٩ أمام جيل جديد من النظارة بقصته (أوديب) فقوبلت مقابلة حسنة. ثم اخرج بعده عدة قصص ولكنها فشلت كلها. ويقال إن سبب الضعف الذى ظهر فى قصصه الأخيرة يرجع إلى إفراطه فى العمل وإجهاده القريحة والعجلة فى التأليف، لانه كان فى حاجة شديدة إلى المال بعد ما استنفذت تربية أولاده كل موارده المالية. ولكن الحقيقة انه كبر ومالت قوة ذهنه إلى الاضمحلال والركود. يدل على ذلك قوله: (شعري ذهب مع أسنانى) نعم استطاع هذا الشعر أن يستريح بعد كثير من الآثار الخالدة التى تقص على القرون غرام رودريج وبطولة هوارس ورحمة أغسطوس واستشهاد بوليكت. وفى الوقت الذى بدأ فيه نجم كورنى بالافول، كان نجم راسين يعلو ويسطع ويزدهى الناس إعجابا وطربا. وفى عام ١٦٧٠ عرضت هنرييت أخت زوج لويس الرابع عشر على كورني ان يضع تاريخ (برينيس) فى قصة تمثيلية. وكان راسين فى الخفاء يراجع هذا الموضوع وهى تعلم ذلك. وأخرج الشاعران القصة فى وقت واحد فنجحت قصة راسين نجاحا كبيرا وسقطت قصة كورنى سقوطا مروعا وفي عام ١٦٨٣ باع كورنى منزله فى روان إذ استبد به العسر. وكان لويس الرابع عشر قد قرر له معاشا سنويا قدره ٢٠٠٠ دينار بعد وساطة الشاعر شابلان ذى الحظوة لدى الملك. ودفع هذا المعاش بغير انتظام ثم الغى. وقد شعر (بوالو) بحالة كورنى فقابل الملك ورجا منه أن يدفع المعاش للشاعر المسكين بانتظام فقبل رجاءه. ومن حسن حظه انه مات فى ليلة أول أكتوبر عام ١٦٨٤ بعد أن ذاق مرارة الفاقة فى شيخوخته، والشقاء هو الفدية الضرورية للعبقرية.
وقد قام مجمع العلماء بنفقات دفنه، وكان مديره إذ ذاك القسيس (دى لافو) ولا تنتهى مدة عمله إلا فى أواخر أكتوبر من ذلك العام. وجرت العادة ان يؤبن مدير المجمع، العضو الذى يموت. وكان راسين هو الذى سيعين مكان القسيس ولذلك حدثت بينهما مشادة إذ كان كلاهما يريد أن يحظى بهذا الشرف. وتمت
الغلبة فى النهاية للقسيس. ثم عين (توما كورنى) عضوا فى مجمع العلماء بعد موت شقيقه، فأهتبل راسين هذه الفرصة وأثنى أجمل الثناء على ذكرى منافسه العظيمة. وان خطبته فى ذلك المقام لهى فخر لعبقرية الميت وكرم الحى. وسنذكر نبذة من هذه الخطبة القيمة عند الكلام عن حالة المسرح الفرنسى قبل كورنى.
مكانته ومواهبه ومذهبه
كان حساد هذا الشاعر العظيم كثيرين. فلما مات لم يروا فيه غير الشاعر العبقرى الذى خلق أروع القصص، وجاءهم بآيات فى البلاغة بينات، ووضعوه فى مكانة أعلى من المكانة التى كان يشغلها أيام مجده. ومن الغريب أن مدينة روان لم تقم تمثالا لأشهر أبنائها إلا فى عام ١٨٣٤!
وكان معاصروه من كبار الأدباء لا يستطيعون إنكار قوة ذهنه وعذوبة شعره ومتانة قصصه. ومنهم لابرويير وبوالو ومدام دي سفنييه. وهذه كانت تصيح فى كل مجلس قائلة: "ليحيى صديقنا القديم كورنى! إن كتبه آثار أستاذ لا يجارى ولا يقلد! إنها الذوق السليم نفسه!". وكان هو نفسه يؤمن بعبقريته ويتحدث بها فى عزة الرجولة وصراحة كريمة تفضل التواضع المصطنع الذى لا يخدع أحدا ولا يخفى ما وراءه من زهو خلق. وقد بقى وفيا لخلقه المزيج من البساطة والكرم والخجل والشجاعة والوداعة والسمو، حتى استوفى أنفاسه.
ونستطيع أن نقول أن كورنى قلب كبير ونفس جميلة. والدليل القوى على ذلك هو ما تركه لنا من الآثار الجليلة، وكل العواطف السامية التى يجدها القارئ فى قصصه، مصدرها قلبه ونفسه ليس غير.
كانت الأخلاق فى عصره هابطة، والبطولة نادرة؛ فلما جاء عمل على إيصال القليل من حرارة الشعلة التى تحركه إلى خمود معاصريه، فتنبهت قلوبهم وهبت تخفق على توقيع ألحانه.
يقال دائما أن الشاعر لا يصور إلا معاصريه، وان كورنى استمد موضوعاته من العادات والأخلاق التى كانت تحت بصره. هذه قاعدة صحيحة بالنسبة للاخرين، ولكنها لا تنطبق على كورنى لانه كان يصور الناس كما يجب وكما لا يجب ان يكونوا، أى كان يصورهم على طراز نفسه العالية.
ومن يقرأ كتب هذا الشاعر يجد أن الرغبة فى جعل الإرادة تتغلب على كل الصعاب والعقبات من عناصر البلاغة الخاصة بكورنى،
ويجد أن أبطاله سواء أكانوا يريدون قهر أنفسهم أم قهر غيرهم، يبذلون جهدهم فى إقامة الدليل الذى يبرر إرادتهم وعملهم. وهم يشرحون حساسيتهم فى شعر له نغمات الناى الساحرة، ويعبرون عن أرادتهم فى لهجة خطابية. ولذلك يلذ لهم الحوار الطويل والمنطق السليم الذى يؤرث إرادتهم الخائرة، والبرهانات القاطعة التى تنتصر على ترددهم. وهم فوق ذلك وفى كثير من الأحايين يريدون ان تقر ضحاياهم أعمالهم وتوافق عليها. وكذلك نجد (رودريج) فى قصة السيد يريد أن يجعل صاحبته (شيمين) تؤمن بأن قتل أبيها الكونت (دي جورماس) كان واجبا عليه. ونجد فى قصة هوارس انه أراد أن يجعل (كورياس) يؤمن بان من واجبه قتله. وكذلك فى (سنا) تحاول (راميلى) صاحبه (سنا) أن تجعل الإمبراطور (أغسطوس) يعتقد ان واجبها يأمرها بتدبير مؤامرة لاغتياله.
قلنا إن كورنى كان عييا فى حضرة الناس، ولكنه كان خطيبا بلسان أبطاله وفى كل قصة نجد ان الحوادث هى نتائج قرارات الأبطال ومشيئتهم. ففى هوارس وسنا مثلا لا يحدث حدث إلا برغبة أبطال القصة، فالإمبراطور أغسطوس بعد أن عرف إن صديقه سنا يأتمر به ليقتله كان فى مقدوره إذا أراد، أن يعاقبه بدلا من الصفح عنه، فالإرادة فى مسرح كورنى هى نابض الحركة الوحيد، لانه كان يعتقد إننا فى الحياة سادة حظوظنا. وهذا ما يجعل لهذا المسرح قيمة خلقية فريدة، وان جعل الفعل الدرامى معلقا على مشيئة الابطال، لهو فى الحقيقة تخفيض لنصيب الظروف أى تبرئتها مما نتهمها به. وليس هذا حقيقة خالصة، ولكن كورنى أراد بذلك أن يرغب الناس عن التواكل والاستسلام ويربى فيهم الاعتماد على الإرادة
ولكى نحكم حكما صحيحا على كورنى، يجب ان نضع نصب أعيننا دائما انه المؤسس الحقيقي للتراجيدى الفرنسية. كثير غيره جاءوا بعده، متزودين بدروسه ومنهاجه، فماثلوه أو بذوه، ولكنه بقى أستاذ هذا النوع. انه هو الذى ابتكر استعطافا جديدا يقوم لا على الفزع والشفقة، ولكن على الإعجاب، الإعجاب بالمواقف، والإعجاب بالخلق، والإعجاب ببطولة الواجب وروعة التضحية. وهو الذى حدد شكل التراجيدى الفرنسية وجعلها (قضية أخلاقية توضع بواسطة العرض، ثم تحصل المناقشة فيها بواسطة انقلابات الحال ثم تحل فى الختام) وعبقريته هى التى جعلت التراجيدى تحليلا نفسيا لشهوة من الشهوات تتدرج
فى طريقها حتى تصل إلى العنف والحدة ثم إلى النتائج الأخيرة
اثر كرينى فى التراجيديا والادب
كانت التراجيديا قبل كورنى محاورات طويلة. وكان واضعوها يصورون الوالد والولد والزوج فى ظروف شخصية خاصة محدودة. ولكن كورنى صورهم بطريقة عامة أى صور المثل الأعلى للوالد والولد والزوج.
قال (سانت بيف) بحق (إن كرينى هو الشاعر الجدير بأن يعاصر الفيلسوف (ديكارت) . كان الفيلسوف يبرهن على وجوده بالفكر فيقول: "إنى أفكر، إذن أنا كائن، وكان الشاعر يبرهن بالفكر على الحساسية المحركة والحياة، فكل شخص فى قصصه يقول إنى أفكر، إذن أنا شاعر حى"
وكل ما يعاب على كرينى أنه لم يصور المرأة فى قصصه تصويرا طبيعيا. وذلك لأنه لم يحب قط، ولم يسبر غور القلب النسوى، وكل أبطاله النساء لا تمت إلى الطبيعة إلا بصلة ضعيفة لأنه خلقهن من إدراكه لا من تجربته وملاحظاته
كان كل همه أن ينتج الإعجاب بالفضائل. وقد بلغ غايته بجعل الواجب يناضل الهوى ثم ينتصر عليه. أى انه بلغ غايته بتصوير البطولة احسن تصوير. وهذه الغاية أرغمته فى بعض الأحايين على أن يبالغ فى قوى أشخاصه ويعلو بهم فوق الضعف الإنسانى ليحيلهم إلى أبطال
وقد اعجب (فولتير) فى القرن الثامن عشر بكورني إعجابا شديدا، حتى انه تبنى بنت أخته وزودها بمهر ثم زوجها. ونشر كتب كرينى وشرحها، وقال فى المقدمة: "الشرح الوحيد لكتب كورنى يجب أن يكون بكتابة هذه الكلمات فى اسفل كل صحيفة: جميل. جليل. إلاهي!"
وطبعي أن ينهض كرينى بالمسرح الفرنسى لانه جاء فى عصر زاهر مهيأ لهذا النهوض. إن المسرح من انفع وأنبل ما ابتكر العقل الإنسانى لتهذيب العادات وصقل الخلق. لا يمكن أن يصل إلى كماله إلا عند ما تبلغ الجماعة نفسها قمة مدنيتها. ولهذا يتكون الفن الدرامى دائما فى بطء بينما يظهر الشعر الحماسى والغنائى فى طفولة الأمم بقوة اكثر مما يظهر فى عصر نضجها. لان شعراء الملاحم والغناء يستطيعون أن يسلموا أنفسهم إلى جرأة عبقريتهم، وبهذه
الجرأة يسبقون القرون. أما شعراء الدراما، ومهمتهم كما نعلم تهذيب الجماهير وإشعال الحماسة فى نفوسهم، فأنهم مرغمون على أن يلائموا عبقريتهم مع عادات العصر الذى يعيشون فيه. ولذلك نرى أن الجماعة التى تبلغ شأوا بعيدا فى المدينة، لا يشغل المسرح من أدبها إلا مكانا ثانويا. فإذا اقتربت من نضجها، اخذ المسرح مكانه فى الصف الأول من مدرسة الإدراك. وهذا ما حدث فى فرنسا فى القرن السابع عشر، وما حدث فى بلاد الإغريق قبل أن يأتيهم سفوكليس وأوربيدس واريستوفان واسنحيلوس. فقد كان للفرنسيين جودل وبايف وهاردى قبل ان يكون لهم كرينى وموليير وراسيين.
وإلى القارئ نبذة من خطبة راسين التي استقبل بها (توما كورنى) لما صار عضوا فى مجمع العلماء تلخص رأى هذا الشاعر فى حالة المسرح الفرنسى قبل كرينى ورأيه فى كرينى نفسه: (أى اضطراب وأى شذوذ يسود المسرح قبل كورنى! كان الذوق مفقودا ومعرفة الجمال المسرحى مجهولة. وكان الجهل المعيب يجمع بين المؤلفين والنظارة. وكانت جل الموضوعات تحمل سمة الهوس، وعارية من الصدق. وكانت الألفاظ نفسها اكثر قبحا من الحوادث. وخلاصة القول، إن قواعد الفن حتى قواعد النزاهة والأدب كانت فريسة الفتك والعدوان، فى هذه الطفولة أو على الأرجح وسط هذا العماء الذى كان يخيم على الشعر الدرامي فى بلادنا، جاء كورنى. وبعد أن جاهد وناضل الذوق الدميم مزودا بسلاح العبقرية ومعتزا بقراءة القدامى، أظهر على المسرح العقل تحف به أبهة اللغة وروعة البيان، فطغى صوته على صوت منافسيه فأخفاه. ولما يئسوا من بلوغ مكانته عمدوا إلى تسفيه كتبه، وحاولوا أن ينالوا بالنقد الطائش من جدارته، ولكنهم فشلوا وحاق بهم مكرهم السيئ. السيد وسنا وهو راس، ملأت الأسماع وهزت أوتار النفوس وترجمت إلى عدة لغات، ستظل حية على مر العصور فى أفواه الناس، كورنى فن وقوة وبراعة، وخصوبة ونبل وعظمة) .
هذا كلام راسين الذى كان ينافس سلفه، وهو قول حق. وعند ظهور كورنى، كان قد مضى على الناس ما يزيد على مائة
عام وهم يعالجون التفكير ويتألفون الشعر والنثر دون أن ينجحوا النجاح المرجو. وعبثا نهبوا مؤلفات الأقدمين ومسخوها، وعبثا سرقوا من لوكريس وفرجيل وهوراس وسنيكا أو من الإيطاليين والأسبان. وعبثا انتحل كتاب النثر لأنفسهم من سيسرون وبلوطارخوس. ثم جاء كرينى وديكارت فحررا اللغة والفكر الفرنسى من ربقة الإغريق والرومان، فهما أول من أعطى للأدب الفرنسى صبغته الخاصة وطابعه القومى. فالسيد و (رسالة فى المنهج) لديكارت يعينان عهدا جديدا فى تاريخ الأدب والفكر الفرنسي. فقد كسرا أغلال اللغة وكانت أسيرة فى أطلال اللاتينية، وأنقذا الفكر من محنته وكان يريد ذلك ولا يستطيعه. وبفضلهما وجد فى أوربا كلها بين كل الذين يقرأون ويكتبون أداة عامة جديدة للتفاهم. هى لغة ديكارت وعلى الأخص لغة كورنى التى سادت من عام ١٦٤٨ تحرير معاهدات التحالف والصلح، وأصبحت آخر الآمر اللغة الوحيدة تقريبا للأدب والفلسفة والعلم. وكما يفخر الرومان بان عصر أغسطوس انتج هوارس وفرجيل، كذلك يفخر الفرنسيون بان عصر لويس الرابع عشر اكبر ملك حكمهم، انتج اكبر شاعر لهم هو كورنى.
ونختم هذا المقال بكلمة نابليون: "القصة التمثيلية تشعل النفس، وتسمو بالقلب، وتخلق دون ريب أبطالا. وإنى اجهر بأن فرنسا تدين لكورنى بجزء كبير من أعمالها المجيدة. إن القصص التمثيلية مدرسة عالية لعظماء الرجال، ومن واجب الملوك تشجيعها ونشرها. ولو كان كرينى حيا فى زمنى لجعلته أميرا".
وما قيمة اللقب الرسمى فى جانب اللقب الذى ناله من الشعب وهو كرينى العظيم؟! ولماذا وهبه الشعب هذا اللقب؟ لانه جاءهم بقصته السيد، وهى الحب فى اجمل اثوابه، وبقصته سنا، وهى السياسة فى أسمى اشكالها، وبقصته بولكيت، وهى الدين فى أروع مظاهره، والحب والسياسة والدين هى (ثالوث) القلب الإنسانى.

