الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 162الرجوع إلى "الثقافة"

تاريخ الصحافة المصرية، جرنال الخديو

Share

-1-

لا أذكر جديدا حين أعرض لقدر الصحافة عند الأمم المتحضرة ، وهي السلطة الرابعة التي يؤمن الكثيرون بأن لها الصدارة في كثير من اتجاهات الفكر وتطور الرأي وعلاج المسائل على نحو قد تهابه جميع السلطات الآخري ، لذلك يري بعضهم أن تاريخ الصحافة في العالم هو تاريخ تطور الفكر البشري

وآية ما نذهب إليه أن جريدة التيمس في تاريخها الحافل تتضمن النشاط الانجليزي في نواحيه الاجتماعية والسياسية والتشريعية ؛ وليس هذا فحسب ، بل إن مصائر بعض الشعوب الآخرى كانت ذا علاقة وثيقة ومباشرة بما أذاعته تلك الصحيفة ، إن خيرا فخير وإن شرا فشر ؛ فلا عجب إذا ان كانت جريدة التيمس اهم كثيرا

من تاريخ بعض الدول التي تحتل شطرا كبيرا من خارطة العالم ، فحظ الصحافة من حياة الشعوب حظ موفور النشاط مقدور الأثر .

وينبغي أن نذكر أن صحافتنا مهما تكن حديثة عهد بالقياس إلي مثيلاتها في البلاد الأخرى ، فهي ليست شيئا تافها لا يستأهل اثارة من وقتنا ، فالصحافة المصرية تحمل في طياتها التاريخ المصري الحديث منذ احتلال الفرنسيين لمصر سنة ١٧٩٨ إلى وقتنا الحالي .

وقد شهدت مصر نشاطا في الطباعة والصحافة على عهد الحملة الفرنسية لم يشهده بلد من بلاد الشرق كله ، إذ أصدر بونابرت القائد العام لهذه الحملة جريدتين ، إحداهما صحيفة إخبارية لجنوده وضباطه ، فيها انباء الداخل والخارج ؛ والثانية مجلة علمية لتلاميذ الحملة وعلمائها ، وهي في التاريخ وثيقة من افضل الوثائق العلمية عن تاريخ مصر في السياسة والاقتصاد والاجتماع ، . ومهما يكن من امر هاتين الجريدتين فهما لا تعتبران من الصحافة المصرية الخالصة ، إذ انهما جريدتان رسميتان

للحملة الفرنسية ، بقيتا تصدران باللغة الفرنسية وحدها حتى جلا الفرنسيون عن مصر سنة ١٨٠١

حقا أن الحملة الفرنسية حاولت في أخريات أيامها إصدار جريدة باللغة العربية ، واصدر قائد الجيش مرسوما بإنشاء تلك الجريدة ، وعين لها المراقبين والمحررين ، غير ان الظروف السياسية واضطراب الأمن واختلاف الرأي ، حال كل ذلك دون تحقيق هذه الفكرة الطيبة ، واخر إنشاء أول صحيفة عربية خمسا وعشرين سنة اخرى حين فكر محمد على في إصدار أول جريدة مصرية

وقد يتبادر إلى ذهن القارئ أني أقصد الوقائع المصرية الصادرة في ٣ ديسمبر سنة ١٨٢٨ ، والتي يعتبرها كل من مس تاريخ مصر من هذه الناحية انها الجريدة المصرية الأولى ؛ ولكني أحب أن أذكر - ولعلي أول من يذكر ذلك باللغة العربية - ان الوقائع المصرية ليست الجريدة الأولى منذ عهد محمد على الكبير ، فقد سبقتها محاولة طيبة هي موضوع حديثنا اليوم

لم يشتر محمد علي مطبعة الحملة الفرنسية ، وهي عبارة عن ثلاث مطابع فرنسية ومطبعتين عربيتين ومطبعة يونانية ؛ لم يشتر المطبعة ، وأضاف إليها كما نقول بعض الكتب ، بل إن محمد على أنشأ مطبعة فخمة في سنة ١٨١٩ غذاها بالحروف العربية والفارسية والفرنجية واليونانية من صنع ميلانو ، كما اشتري من بلدة ليفورنو Livorno أصناف الورق المختلفة ، ودأب علي ذلك إلى أن أصبحت صناعة الورق والحروف من الصناعات الوطنية ، ولم تكن مطبعة بولاق وحدها في خدمة الحكومة المصرية ، بل كانت هناك مطابع أخري صغيرة بلغ عددها تسعا ، منها مطبعة المدفعية بطرء ، وأخري في أبي زعبل ، وثالثة في مدرسة الفرسان بالجيزة ؛ وكانت وظيفة هذه المطابع جميعا طبع لوائح واوامر ودفاتر الحكومة ، وكتب وكراسات المدارس .

وليس يعنينا من أمر هذه المطابع شئ بالذات ، غير مطبعة صغيرة مماثلة للمطابع التسع التي ذكرت طرفا من وظيفة بعضها ؛ وهذه المطبعة التي اتحدث عنها تعتبر في تاريخ الصحافة المصرية حدثا له خطورته ومكانته عند المؤرخ ؛ فهي مطبعة خاصة (بجرنال الخديو ) ، وهي الجريدة المصرية الأولى . كانت المطبعة في القلعة مستقرة في جناح خاص بالقرب من الوالي التركي ، وهو أول مواطن مصري عرف قدر الصحافة والطباعة في حياة الأمم ؛ وكانت هذه المطبعة صغيرة مناسبة للجريدة المصرية المسماة ( جرنال الخديو ) ، تتألف من بضعة أحجار ضئيلة ، ويقوم على خدمتها بعض العمال والموظفين

وقد يبدو من اسم هذه الجريدة انها شئ تافه لا ينبغي أن نزعم له صفة قريبة أو بعيدة من الصحافة . بيد انني أحب أن اقرر ان جرنال الخديو كان ذا تاريخ حافل لفترة من الزمان ارجح انها خمس سنوات ، كان ميدانا خصبا لتسجيل نشاط مصر الاقتصادي والاجتماعي والادبي أيضا . وأحب أن أقرر مرة أخري أن ( جرنال الخديو) لم تقف على خدمته مطبعة القلعة بأحجارها وعمالها فحسب ، بل وقفت الحكومة كل نشاطها على هذه الجريدة .

أنشأ محمد على لجرنال الخديو إدارة واسعة يتولاها رجل موثوق به ، يؤثره الوالي ويجعل من إدارته واسطة بينه وبين مختلف الأدارات في القاهرة ومراكز الحكومة في الاقاليم ؛ ويضم هذا الديوان الكبير نخبة من الكتاب والمحررين الذين يجيدون اللغتين العربية والتركية ، على رأسهم (محمود افندي ) وهو موظف له من ثقافته وواسع خبرته وجده ونشاطه ما يسمح له بمكانة الأمين الأول عند الباشا ؛ ومحمود افندي هذا في تاريخ الصحافة المصرية أول مدير ومحرر لجريدة مصرية ؛ وكانوا يسمونه (جرنال ناظري ) ، أي ناظر الجرنال الذي يرفع للوالى بين آن وآخر

لم تكن إدارة الجرنال أو إدارة الجريدة الرسمية بمعنى أوضح تقتصر على القاهرة ، بل كان للمدن المصرية الكبيرة دواوين على غرار الديوان الرئيسي في القاهرة ، يرأسها ناظران عامان للأخبار : أحدهما في الوجه القبلي ، والثاني في الوجه البحري ، يتلقيان أخبار المدن والقري ، كل فيما يخصه ، ثم يرتبانها ويصوغانها صياغة صحفية لا بأس بها ، ويرسلانها إلي الديوان العام بالقاهرة ، وفي القاهرة يستقبلها ديوان الجرنال ، ويتولي بحثها وتنقيحها وتبويبها . . وهذا أسلوب صحفي من غير شك ؛ المحررون في القاهرة والمراسلون في العواصم والمدن والقري يرسلون بأخبارهم ، والجريدة تراجعها وتنقحها ، ثم يعرضها رئيس التحرير محمود أفندي على رئيس الدولة ويقرؤها له فاذا فرغ من قراءتها علق محمد علي عليها وأشار بعلاج فيما حملت من أنباء ، ومضي محمود أفندي يكتب للمصالح والدواوين تعليق الباشا وملاحظاته ، ويشير على كل ديوان بواجبه ، قاصدا من ذلك الرقابة على كل مصلحة وقلم ، وأن يكون جرنال الخديو سيفا مشهورا على كل مهمل يغفل من حسابه جريدة الوالي التي تنقل إليه ما خفي وما ظهر

وفوق الأخبار العامة التي تتصل بالأمن أو حياة المصريين العادية ، دأبت جريدة الوالي على نشر خلاصات لأعمال الدواوين والمأمورين في كل اسبوع ، بحيث توضع هذه الخلاصات المتباينة فيما يتضمنه عادة جرنال الخديو . وقد أشارت الوثائق الموجودة بمحفوظات سراي عابدين العامرة إلى بعض ما كانت تتضمنه مجلة الخديو كمقدار " المال المتحصل في كل أسبوع وكميات الغلال والأصناف الاخري ، حيث يعلم منها الأمير نشاط المأمورين أو تكاسلهم وطلب ( جنابه العالي ) كما تشير وثيقة اخري ، بأن يتداول حبيب افندي - وهو من رؤساء الديوان

العالي - مع الخواجه حنا ، والمعلم باسيلوس " في البيانات التي ينبغي أن يرسلها نظار الدواوين عن حركة بيع وشراء الأصناف المختلفة إلي جرنال الخديو ، حتى تقف الدولة على درجة سعيهم وإقدامهم .

أثبت جرنال الخديو أن المأمورين والمديرين لم يتوانوا قط في تلبية أوامر الأمير الكبير ، فوافوا إدارات الجرنال من هنا ومن هناك بما يكفل لهذه الجريدة النشاط ويجعل لوجودها ضرورة للوالي من حيث رعاية المصالح العامة ، ومعرفتها معرفة صحيحة ، وتقدير المسئولين من خلال ما تثبته الجريدة الرسمية .

وقد يبدو من هذا العرض لماهية ( ديوان الجرنال) أنه كان وقفا على الوالي دون حكومته ، وأن صحيفة هذا الديوان صحيفة شخصية ، لا يعني أمرها إلا أمير البلاد ، وان مطبعة القلعة كانت تقوم بخدمة هذه الجريدة الخاصة بمحمد على وحده . والحقائق التاريخية تضيف إلى ذلك شيئا خطيرا ، فجرنال الخديو ليس صحيفة خاصة بمحمد على وإن صدر بأمره ووضع تحت ملاحظته وإشرافه ؛ فقد أنبأنا أحد موظفي المطبعة الأميرية في نشأتها الأولى ، يحدثنا عن ديوان الجرنال ان جريدة الخديو لم تكن أسبوعية ، وإن كانت الأنباء تصل أسبوعية ، بل كانت جريدة يومية ؛ وكانوا ينشرون في كل يوم بعض الأخبار ، مقدمين الأهم على المهم . . فالجريدة المصرية الأولى جريدة يومية ، يطبع منها في كل مرة مائة نسخة توزع على أساطين الدولة ، وهي من حيث لغتها أشبه ما تكون بالوقائع المصرية ؛ فكانت تصدر باللغتين العربية والتركية ، ولهذا خلط الكثيرون بين الوقائع وبين جرنال الخديو ، واعتبروهما جريدة واحدة ، إلى أن أثبتت الوثائق الحديثة الخلاف العميق بينهما .

وأحب أن أسجل شيئا لطيفا عن جرنال الخديو

فالصورة التي ذكرتها تصوره ورقة رسمية جافة ترفع للوالي ، أو جريدة رسمية مع شئ من التجوز ترسل إلي رجالات الدولة ومأموريها الذين يعنيهم أن يقفوا علي أحوال البلاد صغيرها وكبيرها ، كما تقول الوقائع المصرية في افتتاحية العدد الأول " ووضع ديوان الجرنال قاصدا من وضعه ان ترد الأمور الحادثة الناتج منها النفع والضرر إلي الديوان المذكور ، وان ينتخب ويتنقح فيه منها ما منه ينتج النفع والضرر ، ينتخب مامنه تصدر المنفعة ، ويجتنب عنه ما منه يحصل الضرر ؛ وهذه الارادة الصالحة الصادرة من حضرة سعادة ولي النعم ، وإن كانت قد جرت في ديوان الجرنال إلي الآن ، إلا أنها لم تكن عمومية " ، وإلي ما ذكرته الوقائع والوثائق من تصوير جرنال الخديو ، أحب أن أضيف أن جزءا من صفحات هذه الجريدة الرسمية قد خصص لنشر بضعة فصول من " ألف ليلة وليلة " وأنه فقد قيمته كجريدة رسمية لما صدرت الوقائع المصرية صحيفة الدولة والجمهور ، وإن بقيت مطبعته في القلعة ، ومضي موظفوه يؤدون واجبهم في حيز ضيق مقتصر على الأخبار الخاصة التي يجب أن يعرفها الأمير بنفسه .

وقد كان جرنال الخديو يعرض على الباشا في كل يوم ، ولا تحول أسفاره دون الاطلاع عليه ، إذ أن بعضهم قد تخصص لنقله يوميا إلى الباشا ، سواء كان في القاهرة أو في الإسكندرية ، أو في غيرهما من مدن القطر ، يقف سوء المواصلات دون تحقيق هذه الرغبة ، واطلاع الوالي علي أخبار دولته

والفروق واضحة بين جرنال الوالي والوقائع المصرية التي يعتبرها الناس أول جريدة مصرية عربية ، فهو عبارة عن تقريرات ترفع للباشا في اوقات معينة ، ويوزع منها نسخ على موظفي الحكومة المسئولين ليشتركوا مع السياسة العليا في الاتجاهات التي احتوت عليها التقارير ، والتي

من شأنها ان تجعلهم على علم بمجري الحوادث ، وتدلهم على الأمور التي تهم الوالي وحكومته ؟ وقد إذاعوا فيها بعض القصص مما يجعل قراءتها محتملة ، والرغبة فيها موفورة .

إن جرنال الخديو محاولة طيبة لإصدار صحيفة رسمية يشترك فيها موظفو الدولة ويطالعها جمهرة المتعلمين المصريين ؛ ولا يقف نشاطها عند الأخبار الداخلية ، بل تضم في أعطافها من الحوادث الداخلية والخارجية ، والموضوعات الأدبية والعلمية ، ما يجعلها جديرة بالقراءة في جميع الأوساط ، وإن كل من يتحدث عن الوقائع المصرية خاصة ، والصحافة في مصر عامة ، يذكر (جرنال الخديو ) على أنه أول صحيفة مصرية خالصة ، وأول صحيفة عربية في الشرق كله .

اشترك في نشرتنا البريدية