يدين اليهود للكنعانيين بلغتهم العبرية ، وللعرب المخضرمين بتذوق هذه اللغة وادابها ، وللمسلمين بوضع الكتب العلمية في نحوها وصرفها ؛ وذلك ان العبرين هاجروا من شمال الجزيرة العربية حوالى منتصف الألف الثاني ق . م ، إلي فلسطين أو أرض كنعمان ، فوجدوا فيها شعبا ساميا راقيا ، يتكلم الكنعانية ويكتب فيها ، فلما استقر بالعبريين المقام أخذوا يتركون لغتهم الأصلية التي جاءوا بها ، والتي كانت عبارة عن لهجة ارامية ، ويستعملون مكانها لغة وطنهم الجديد ، شأنهم في ذلك شأنهم اليوم في البلاد التي يأوون إليها ، فهم يتكلمون الإنجليزية في انجلترا وأمريكا ، والفرنسية في فرنسا ، والالمانية في المانيا ، وهلم جرأ ، لكنهم كانوا فيما يفكرون ويكتبون متأثرين بلغتهم الأصلية ، لذلك اصطلح على تسمية هذه اللغة التي أصبحت خاصة بهم " اللغة العبرية " التي ظلوا يتكلمونها حتى القرن الثاني ق ، م . ففي ذلك القرن اختفت من الحياة العامة ،
ورضيت بالمعابد ، وصارت لغة طبقة خاصة من علماء اليهود ، وأخذت محلها لغات اخري ، منها السامية ومنها الأجنبية ، وأصبح اليهود في الشام والعراق يتكلمون لغة تزداد مع مرور الزمن فسادا حتي أصبحت قبيل الإسلام عبارة عن خليط من العبرية والسكلدانية واليونانية الدارجة التي لا أدب لها .
لكن حدث في ذلك الوقت أن أرسل الله رسوله بالهدي ودين الحق ، وقام بعض يهود الجزيرة العربية وألبوا الناس عليه .
وكان من بين هؤلاء اليهود الذين ناصبوا النبي ) ص ( العداء ، وأجلوا عن قلب الجزيرة بنو قينقاع وبنو النضير ، ويهود خيبر ووادي القري وغيرهم ، الذين نشأوا في الجزيرة العربية تنشئة تتفق إلي حد ما والخلق العربي والمثل العربية من حيث الشجاعة والكرم والأمانة والوفاء ، إلى جانب العناية بالفصاحة والبلاغة وقرض الشعر ، بخلاف إخوائهم في الشام والعراق الذين كانوا يقاسون آلام الاستعمارين البيزنطي والفارسي . ولا أدل على رقي يهود قلب الجزيرة
من أن دواوين الأدب العربي حفظت لنا كثيرين من شعرائهم أمثال السموءل بن عادياء ، والربيع بن أبي الحقيق وكعب بن الأشرف ، وشريح بن عمران ، وشعبة بن غريض وغيرهم ، الذين يدل نبوغهم في الشعر على سلامة ذوقهم اللغوي ، وتأصل العربية والطباع العربية فيهم ، وقد نقلوها إلى إخوانهم في العراق والشام ؛ لذلك لم يكد يمضي نصف قرن على فتح المسلمين لتلك البلاد حتى أصبح اليهودي يجيد العربية قراءة وكتابة . ولم يقف أثر المسلمين عند هذا الحد ، بل نجدهم يحولون اهتمام اليهود إلي كتابهم القدس ليجادلوا من يجادلهم من ناحية ، وليحافظوا عليه من التغيير والتبديل من ناحية أخرى ، ضبطوه بالحركات كما ضبط المسلمون القرآن الكريم ، وكانت النتيجة المحتومة لأنتشار معرفة اللغة العبرية ودراستها ، وفهم الكتاب المقدس والعناية به ، أن ولد شعر عبري حديث انصرف صاحبه إلي فنون أخري غير فنون الشعر العربي ، التي كانت تنجلي في ذلك العصر في مدح السيف والفروسية والحب ، ورثاء المجد الغابر ، وهجاء الخصم الذي لا يستطيع الشاعر قتله أو الوصول إليه ، بينما يتغني الشاعر العبري بمديح الله ورثاء الأمة العبرية ؛ ومن ثم تفنن فنظم للكنيس كثيرا من الشعر الديني الذي يستخدم في العبادة ، ومع مرور الزمن وكثرة تأثر هؤلاء الشعراء بالعرب والعربية ، أدخلوا الثقافية في شعرهم بعد أن كان غير مقفي
رأينا من هذا العرض الموجز كيف ان اليهود العرب كانوا رسل العقلية العربية والأداب العربية إلي العراق والشام ، وراينا ايضا كيف ان الإسلام بعث الثقافة العبرية من جديد ، بعد ابن مات واندثرت ولم يتركها تنمو لوحدها ، بل أخذ يطعمها بحيوية جديدة ، حيوية فتية شابة نلمس اثرها لا في الحضارة اليهودية التي أينعت في احضان الإسلام في العصور الوسطى فحسب ، بل في فلسفة اليهود
وأدابهم ولغتهم وتلمودهم . فالتاريخ يحدثنا أن اليهود لم يكتبوا كتبا علمية في قواعد لغتهم إلا بعد أن تتلمذوا للعرب ، وبعد أن نشأوا في مهد الثقافة الإسلامية نشأة مكنتهم من فهم العلوم العربية على اختلاف أنواعها ؛ ففي أواخر القرن التاسع والنصف الأول من العاشر الميلادي ظهر ) سعديا ( ) ٨٩٢-٩٤٢ ( وهو سعيد بن يوسف الفيومي فيلسوف اليهود في القرن العاشر ، فقد تأثر سعديا هذا لا بالعلوم اللغوية العربية فقط ، بل بالعلوم الدينية الاسلامية أيضا ، وتشربت روحه مذهب المعتزلة ، حتى إنه استعان به عند معالجته للديانة اليهودية ، ويطلق عليه تحرير اليهود ، ) أبا النحو العبري ( ؛ فقد وضع مؤلفا يقع في اثني عشر كتابا يسمي ) كتب اللغة ( وهو يعتبر أول مؤلف منظم في قواعد اللغة العبرية ، ويا للأسف ضاع معظمه ، وقد عالج فيه الأبجدية وخواص الحروف الحلقية وإبدال الحروف وإدغامها ، وتصريف الأفعال ، كما عالج الأسماء والحروف ، وقد وضع كتبا أخري بالعربية والعبرية ، لسنا في حاجة إلي الإشارة إليها هنا ؛ ونكتفي بذكر مؤلفه العظيم ) أجرون ( أي ) معجم لغوي ( ، فقد قسم فيه الكلمة إلي ) أصل ( و ) زيادة ( ، أو بمعنى آخر إلي أصل وعلامة إعراب ، وقد أورد فيه قائمة تشتمل على تسعين كلمة عبرية وآرامية نادرة الوجود في العهد القديم ، فلفت بذلك النظر إلي وجوب العناية بالدراسة المقارنة التي عالجها في نفس الوقت ) يهوذا ابن قريش ( ، الذي ولد في شمال غربي أفريقيا ، وغير سعديا ويهوذا نجد أمثال ) مناحم من سروق ( اليهودي الأسباني ) حوالى عام ٩٦٠ ( ؛ و ) دونش بن لبراط ( تلميذ سعديا ، وقد ولد في مدينة ) فاس ( ، وهو يعتبر أول من قسم الفعل العبري إلى خفيف ) مجرد ( وثقبل ) مزيد ( ، كما أنه استخدم معلوماته في اللغة العربية وطبقها على العبرية وخاصة العروض ، واستعان باللغة العربية لفهم الكتاب المقدس ، فقارن بين اللغتين ، واستشهد على وجوب العناية باللغات السامية
يذكر قائمة تشتمل على مائة وسبعين كلمة من الكتاب المقدس لن تفهم إلا عن طريق اللغة العربية .
ومن الشخصيات الأخري التي لعبت دورا هاما في تاريخ النحو العبري ) يهوذا بن داود ( الملقب ) حبوج ( ، قد اهتم هذا النحوي أولا باللغة العربية اهتماما عظيما يرجع إليه الفضل فيما وصل إليه من نتائج خاصة ، عندما عرض للأفعال ذات الحروف اللينة أو اللفيفة المقرونة . وقد مهدت مؤلفاته وما كتبه المتقدمون من عرب وعبريين إلي ظهور العلامة أبي الوليد مروان بن جناح في النصف الأول من القرن الحادي عشر الميلادي ، وقد عرض مروان هذا إلي ما ألفه ) حبوج ( ونقحه ، كما أنه ألف كتابه المشهور ) التنقيح ( ، وهو يقع في جزءين ، الأول في القواعد واسمه . كتاب اللمع ( ، والثاني عبارة عن معجم لغوي أسماه : كتاب الأصول ( ، سلك في تأليفه نفس الطريق الذي سلكه نحويو اللغة العربية . ويعتبر كتابه من أحسن الكتب التي وصلتنا في قواعد اللغة العبرية ، وإذا استثنينا ) مناحم ( و ) دونش ( ، فكل علماء أسبانيا ألفوا باللغة العربية ، لذلك بقيت مؤلفاتهم غير معروفة لدي يهود أوربا القاطنين خارج البلاد الإسلامية ، حتى ظهرت شخصية ) إبراهام بن عزرا ( المتوفي عام ١١٦٧ م ، فألف ثمانية كتب باللغة العبرية ، عرف بواسطتها يهود العالم المسيحي بمؤلفات أمثال حبوج ومن جاءوا بعده . وإلي جانب ابن عزرا قام يهودي أسباني آخر اسمه ) يوسف بن اسحق قمحي ( في النصف الثاني من القرن الثاني عشر ، وخلفه ابناء موسي وداود قمحي ؛ وإن كانا لم يأتيا بجديد فيما كتباه عن النحو العبري ، إلا أنهما يعتبران خير من ظهر في القرن الثالث عشر ، كما أن كتبهما تعتبر أحسن مما ألف في القرنين الرابع عشر والخامس عشر . أما القرن السادس عشر ، فيعتبر الحد الفاصل في تاريخ النحو العبري ، فقد كان ذلك
العلم حتى ذلك الحين وقفا علي اليهود لم ينازعهم فيه منازع حتى ظهرت حركة إحياء العلوم في أوربا ، وقربت بين اليهود والمسيحين ، فأقدم الأخيرون على دراسة اللغة العبرية للعلم والعلم فقط ، ولفهم الكتاب المقدس فهما علميا صحيحا على ضوء حركة الإصلاح الديني التى أخذت تظهر في أوربا في ذلك القرن . وظهرت بوادر هذا الاهتمام في مؤلفات امثال ) يوحنا رويشلين ( الذي ألف كتابا في قواعد اللغة العبرية عام ١٥٠٦ م . وقد ترك هذا الكتاب الذي وضع باللاتينية أثرا بعيدا في الجامعات الألمانية ، فأفسحت لهذه اللغة صدرها ، وأولتها عنايتها . وبعد موت ) رويشلين ( عام ١٥٢٢ ، ظهر في المانيا عالم يهودي يدعي ) إليا لفيتا ( ، وقد بذل مجهودا كبيرا في سبيل نشر هذه اللغة حتى توفي عام ١٥٤٩
مضي القرنان السادس عشر والسابع عشر ، ولم يظهر فيهما من المؤلفات ما يستحق الذكر ، بخلاف القرن الثامن عشر الذي ظهر فيه اتجاه جديد ، وهو دراسة اللغة العبرية دراسة مقارنة ؛ وقد حملت لواء تلك النهضة المدرسة الهولندية ، وعلى رأسها ) البرت شولتنز ( المتوفي عام ١٧٥٠ و ) شرودر ( الذي فارق الحياة عام ١٧٩٨ . أما العبرية كما تدرس اليوم في الجامعات العالمية ، فإنها تدين في تطورها للمستشرق الألماني ) وليم جيزنيوس ( ) ٣ فبراير ١٧٨٦ - ٢٣ أكتوبر ١٨٤٢ ( ، فقد نشر عام ١٨١٣ كتابه المشهور في قواعدها ، ولا أدل على النجاح الذي صادفه من ان العلماء الألمان أعادوا طبعه تسعا وعشرين مرة ، وآخر طبعة حاول إخراجها الأستاذ ) برجشتراسر ( عام ١٩١٨
وغير هذا العالم المسيحي نجد في ألمانها أن زعماء هذه المادة مثل ) أفالد ( و ) الهوزن ( و ) شتأدة ( و ) كاله ( و ) برو كلمان ( ، كلهم من المسيحيين ، ويعتبر ) كاله ( زعيم علماء ، النحو العبري في قرننا هذا .
