الوثني الذي عنه يأخذ المؤمنون . . .
والضعيف الذي له تخضع الجبابرة . . . .
والفرد الأعزل الذي يحارب إمبراطورية مسلحة
نكتب هذه الكلمة في مستهل الأسبوع الثالث والأخير من صيام غادي . ولسنا ندري ماذا تكون عليه الحال عندما تصل هذه الكلمة إلى أيدي القراء . ولكنا نسأل الله - سبحانه وتعالي - ان يكون كدأبه مع عباده المؤمنين ، لطيفا فيما جرت به المقادير .
وصيام غاندي ظاهرة من الظواهر التي انفرد بها هذا الزعيم العظيم في معالجة شؤون بلاده الحيوية ؛ فهو صاحب سياسة مستقرة هي سياسة " الحب وعدم العنف " او سياسة " المقاومة السلبية " وهذه السياسة استنبطها غاندي من تعليميات ديانة الهندوكية ولن يستطيع احد فهم هذه الظاهرة - ظاهرة الصيام - دون ان يلم مبدئيا بمعنى المقاومة السلبية كما رسمها غادي ، ودون ان يعرف أصول الديانة الهندوكية .
فما هي الديانة الهندوكية ؟ ومن ربها ؟ وما تعليماتها ! وما هي الاركان التي تقوم عليها ؟ لقد بني الإسلام على خمس : شهادة أن لا إله إلا الله ، وان محمدا رسول الله ؟ وإقام الصلاة ؛ وإيتاء الزكاة ؟ وصوم رمضان ؛ وحج البيت من استطاع إليه سبيلا .
أما " الهندوكية " فقد بنيت على الإيمان بالله - والإيمان بكتبه المقدسة التي تقول إن غاية الإنسان في هذه الدنيا هي الحصول على الكمال ، وإن الإنسان لن ينال هذه الدرجة الرفيعة إلا عن طريق " الحب " - " والصدق " - " وضبط النفس " - وإن الله خلق
الناس طبقات أربع ، ورسم لكل طبقة حدودها وأعمالها - وإن روح الإنسان تعود إلي هذه الدنيا بعد موته لتتقمص جسدا سواه .
وها نحن أولاء نقول كلمة موجزة في كل ركن من هذه الإركان ، لتمهد بذلك للكلمة التالية التي سنأتي فيها إن شاء الله على بيان لسياسة " المقاومة السلبية " وعلي نظرية غاندي في صيامه .
الايمان بالله :
يقول غاندي إن هناك قوة خفية لا سبيل إلي تعريفها ، هي التي تتولي تسيير كل شئ في هذه الدنيا ، وإن هذه القوة لا تدركها الأبصار ، ولكن تدركها القلوب التي في الصدور .
الكتب المقدسة :
ليس للهندوكية كتاب مقدس واحد كما هو الحال عند أصحاب الديانات الاخري ، ولكن لها عدة كتب تحتوي على تعليماتها ومبادئها وعقائدها ؟ ومن تعليمات هذه الكتب أن الإله يتخذ لنفسه صورة مادية في فترات متبابنة من عمر الإنسانية ، هي الفترات التى تضعف فيها روح هذه الإنسانية أمام قوي الشر التي تغزوها وتغلبها . وهو إنما يتخذ هذه الصورة المادية لينصر الخير ) ١ ( ، وليسدد خطأ الناس من جديد نحو اهداف الكمال ؛ فإن من غايات هذه الديانة ان ترتفع بالذين آمنوا بتعليماتها إلي درجة الكمال . وطريق هذا الكمال ينقسم إلي شعب ثلاث ، أولاها : " اهمسا " - أي الحب وثانيتها : " ساتيا ( - أي
الصدق . وثالثتها : " براهمشاريا - أي ضبط النفس
ومبدأ " الحب " الذي تدعو إليه هذه الديانة ، شعاره مقابلة الإساءة بالإحسان ، ومعالجة الحقد بالعطف ، ومداراة العنف بالعفو والرحمة . والقاعدة الأولى التي يقررها هذا المبدأ هي أن أكبر الكبائر عند الله " إزهاق الروح " ، - روح أي كائن حي - مهما كانت مرتبة هذا الكائن في سلم الحياة . فالآدميون في هذا الشأن سواء مع الحيوان ، بل هم سواء مع الحشرات والهوام . والهندوكية التي تنهي عن قتل النفس البشرية تنهي حتى عن قتل العقرب ، ومن مقتضيات ذلك أن يعيش الناس عيشة نباتية ، لا يأكلون اللحوم لأن اللحم ثمرة " القتل " والذبح ، وهو ما ينهي عنه هذا الدين ؛ فإن من ينهي عن قتل الأفاعي أولى به أن ينهي عن قتل الطيور والأغنام لينعم الإنسان بجودة لحومها . ولقد عرف من غاندي انه كان يجلس ويدع الأفاعي الهندية المخوقة التي اشتهرت بشدة بأسها وقوة أسرها تزحف على سيقانه هادئة دون أن تؤذيه أو يؤذيها . ويقول غاندي : إن الأمر هين معقول بعيد عن السحر والأستهواء ، وإنما هو الإحساس الذي يضطرب في نفس الإنسان ، فإذا فزع واختلج ظهرت آثار فزعه على سيماه ، فترجمها الحيوان بأنها علامات التحفز والرغبة في الدفاع ، فعرف أنه أمام عدو يجب عليه أن يخشاه ، وتستيقظ فيه غريزة حب البقاء ، وتنشب المعركة التي كان من الممكن تفاديها لو استعصم الإنسان بالهدوء وضبط النفس . .
دع الزنبار يطن في حجرتك ويحوم في جوها دون أن تقوم لمحاربته ومطاردته ، فإنه لا يلبث أن يدور دورة أو دورتين يقترب فيهما نحوك او يبتعد ، ثم ينطلق من أول نافذة يلقاها في أثناء تحويمه . ومن جعل هذا شعاره مع جميع اجناس الحيوان أمن شرها ، وعاش معها في سلام .
هذا على الأقل ما يقوله غاندي ، أما كاتب هذه
الكلمات فله تجارب خاصة في دولة الزنابير تدعوه إلى التردد في اعتناق المذهب الهندوكي بشأنها .
نظام الطبقات
تقسم الديانة الهندوكية الناس إلي طبقات أربع :
" البراهمة " : وهم أهل العلم والحكمة ، ورجال الدين والفقه
" والسكاشتريا " : وهم الجنود ورجال الأمن والإدارة الذين يتولون شؤون الدفاع . ويضمنون للناس الأمن والسلامة
" والفشيا ( : وهم طبقة الزراع الذين يحرثون الأرض ويستنبتون الحب وإني هذه الطبقة ينتمي غاندي . وأخيرا " الشادورا " وهم طبقة العمال والفعلة . ومن بين أفراد هذه الطبقة طائفة ؛ " التاماشادورا " أو طائفة " المنبوذين " الأنجاس الذين يقومون بالأعمال القذرة وقد أعلم غاندي أنه لا يتعرف بأن الهندوكة هي التى أوجدت هذه الطائفة الأخيرة ، وأنه لا يؤمن بصحة النصوص التي تسربت إلي الكتب المقدسة ، عندما تتحدث عن هذه الطائفة أو نصف أفرادها
والديانة الهندوكية ، لا تكتفي بهذا التقسيم ، ولكنها تضع حدودا صارمة بين كل طبقة وأختها ، فهي تعتبر كل طبقة وحدة مستقلة لا ينبغي ان يختلط في شيء بأية طبقة من الطبقات الآخر ، فالبراهمي لا يجوز له أن يؤاكل القشيوي ، كما لا يجوز لفرد من أفراد طبقة بعينها أن يتزوج من أفراد أية طبقة من الطبقات الأخرى .
وغاندي يؤمن بهذا النظام ، ويدافع عنه بقوله إنه هو الذي يكفل للناس ان يعيشوا على خير حال ، لأنه ينطوي على مبدأ التخصص ، الذي يعطي ما لقيصر لقيصر وما لله
لله . وإن البرهمي بحكم مولده بنشأ رجل علم وحكمة ، فيكون أوفق الأمور له مقتضي ورائته وتدريبه أن يقدم للناس الحكمة والمعرفة . أما قيود المؤاكلة والتزاوج فأنها عنوان على ما وصلت إليه الهندوكية من تربية الناس على اقصي ما يستطيعون من درجات ضبط النفس ، فإن الهندوكي بالالتزامه الزواج من دائرة محدودة يمارس رياضة نفسية نادرة المثال .
ولكن غاندي لا يشتط في تفسير النصوص ولا يتعسف في تطبيقها ؛ فعنده ان البرهمي الذي يتعالي بعلمه يسقط ، والذي يمسك عن مؤاكلة الطبقات الدنيا زهوا بنفسه ، واحتقارا لأهل تلك الطبقات ، لا يفهم الهندوكية علي حقيقتها . وليس ما يمنع رجلا من رجال الطبقة الرابعة أن يتعلم الحكمة ، ولكن قيامه بالعمل المخصص لأهل طبقته أفيد وأجدي . ويسترسل غاندي في تفسير دينه على ضوء هذا البيان فيقول : إن " العالم الذي أساء استغلال علمه ، ولم يقدمه للناس ، ولم يتخذه سلما ترتلي عليه أرواحهم ، وتسموي به نفوسهم نحو الكمال المنشود ، ستحل روحه بعد وفاته في جسد " عامل " يعيش في قيود طبقة العمال ، ليطهر نفسه التي خالطها الكبر وأفسدها الزهو - كما أن " العامل " الذي أشربت نفسه روح الرضا ، وعمل على اتقان عمله ، وهو غير متذمر ولا ساخط ، ستحل روحه بعد وفاته في جسد " عالم " يقوم بهداية الناس إلي ما فيه خيرهم ، وبنعم بهذه الدرجة الرفيعة الى يعيش فيها " البراهمة " .
هذه هي أركان الهندوكية ، أو هذه هي خير أركانها ؛ ولكن بقيت بعد ذلك كلمتان في ركنين آخرين ، رأينا إرجاء التحدث عنهما إلي هذه المرحلة من مقالنا ، لما لها من مكانة خاصة في بنيان الديانة الهندوكية ، ولما يحتاجان إليه
من عناية خاصة عند الخوض فيهما - ذانك هما : الهندوكية والأوثان ، ثم الهندوكية والبقرة
فأما الأوثان فإنها جزء من هذه الديانة ، وركن من أركان عباداتها ، يحمل الهندوكيون أنصابها في احتفالاتهم الدينية ، ويقيمونها في بيوتهم ، وبتبركون بها في صلواتهم - وعلي قدر ما في هذا العمل من سخف ظاهر نجد أن غاندي الذي وسعت نفسه كل شئ ، قد اتسع صدره ، لهذه الوثنية أيضا ؛ وكما هو يدافع عن الثعابين ، ويشرح خطته في معاملة الزنابير ، نراه يقول عن الوثنية إنها جزء من نفس الإنسان في كل العصور وفي جميع الأديان ، وإن الناس دائما يجرون وراء الرموز ؛ وهو يذكر الأحجار التي يلمسها أصحاب الديانات الحديثة تبركا وزلفي ، ويقول إن من بين هذه الأحجار ما أقيمت حوله الحواجز لترد عنه الأيدي التي أوشكت أن تبريه ، ولتدفع عنه الشفاء . على أن غاندي يستدرك فيقول : إن الصور والتماثيل إنما تعيننا فقط في عبادتنا ، وإنه لا يوجد هندوكي واحد يعتبر أن الوثن إله ، وليست الأوثان إلا رموزا تتفق مع عقلية الجماهير وتمهد لهم سبيل التسامي بالنفس والإيمان بالله . وإذا كانت الموسيقي والتماثيل والصور تقرب الإنسان من هذه الغاية ، فلتسخر هذه الوسائل كلها في خدمة الدين - هذا ما يقوله غاندي ، ومن يهد الله فهو المهتد ، ومن يضلل فان تجد له وليا مرشدا .
بقيت بعد ذلك - البقرة . .
وإن لها لحديثا عجبا . فإن الرواة يروون عنها أنها تقع من نفوس بعض الهندوكيين موضع التقديس ، وان بعض الهندوكيين يطهر ببولها منزله في الصباح ، وان الفتيات يتخذن من روثها طلاء ينفنن في نقش جدران بيوتهن به ؛ بل إن من الهندوس من يغسل وجهه ببول
البقر تزكية لنفسه وتطهيرا ! ويفسر أصحاب الديانات الآخرى هذه الظواهر بأن الهندوكية تدعو إلي عبادة البقرة . ولكن غاندي يتصدي لهذا الموضوع ويقول إن ما يسميه الناس تقديس البقرة أو عبادتها لا يستحق ان يسعي إلا باسم " حماية البقرة " وهذه الحماية ليست إلا وجها من وجوه تطبيق القاعدة الهندوكية الأولى ، وهي " الحب " و " عدم القتل " . والبقرة بعد ذلك في الهند خير رفيق للإنسان ، فهي التي تغذيه بلبنها ، وتحرث له أرضه ، وتجر له عجلاته . والبقرة عند جميع الأمم تمتاز بالحنان ، وبها تضرب الأمثال في الوداعة والتواضع
" فحماية البقرة " ليست إلا رمزا من رموز الهندوكية ، تريد به هذه الديانة أن تعلم أبناءها الإشفاق والعطف وهذه الخصال لا تدخل النفوس عن طريق النصوص ولا الآيات ، وإنما سبيلها إلي النفوس القدوة ، وممارسة
هذه الخصال مع كائن من كائنات الله يستحق هذا الإشفاق والحب . فالهندوكي الذي يعذب إخوانه المنبوذين يكون قد قصر في فهم أحد أركان دينه حين لم يتعلم من حماية البقرة أن يكون بإخوانه رؤوفا رحيما . ويسترسل غاندي على عادته في شرح دينه فيقول : إن إنسانا يذيح البقرة لخير عند الله من إنسان لا يذبحها ولكنه لا يخشى الله ويسيء إلي عباده .
هذه هي كلمتنا عن الهندوكية وعقائدها ، نقدمها تحبة خالصة إلي غاندي في محنة صيامه ، ونرجو ان نكون قد مهدنا بها تمهيدا صالحا للكلمة التالية التي سنتناول فيها إن شاء الله شرح سياسة " المقاومة السلبية
