الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 200الرجوع إلى "الثقافة"

تحية العيد

Share

إلي صديقي وأحب إلي أن أناديك بصديقي من أناديك " بأخي " أو " حبيبي " أو أي لفظ آخر في هذا الباب ؛ فالآخ لا وزن له ما لم يكن أخا صديقا ، والنفس بالصديق آنس منها بالعشيق ، وقد انصف العرب إذ اشتقوه من الصدق ، فأي شيء اجمل من الصدق في " الصداقة " ؟

كنت أستكثر ما يروي من أن عبد الحميد الكاتب طلب ليقتل - في الثورة العباسية - وكان صديقا لابن المقفع ، ففاجاهما الطلب وهما في بيت واحد ، فسأل أيكما عبد الحميد ؟ فقال كل منهما : " أنا " خوفا من أن ينال صديقه مكروه ؛ وخاف عبد الحميد

أن يسرعوا إلي " ابن المقفع " فقال : إن لي علامات أعرف بها ويعرفها من بعثكم في طلبى ؛ وما زال يقيم الحجج ليدفع الآذي عن صديقه حتى أخذ وقتل . وكنت استبعد ما روي ان هذيلا اصابت دما في بعض العرب ،

فأسر أصحاب الدم رجلين من هذيل متصادقين ، فقالوا لهما : أيكما أشرف فنقتله بصاحبنا ؟ فقال كل واحد منهما : أنا ابن فلان الحسيب النسيب ، فاقتلوني دون صاحبي ؛ فكل بذل نفسه للقتل دون صاحب صاحبه ؛ فلما عيوا بأمرهما صفحو عنهما ، وقالوا : " هذا التصافي لا تصافي المحلب "(1)

فلما صادقتك صدقت القصتين ، وامنت ان فقد النفس أهون من فقد الصديق .

إن الحياة فراغ لولا أن تملأها صداقتك ، وهي ظلمة حالكة لولا أن تنيرها مودتك

لسنا صديقين لمنفعة أرجوها منك أو ترجوها مني ، وإنما أصادقك لأنك أنت أنت ، وما دمت أنت فأنا صديقك

إن الصداقة ميزتك عن غيرك من كل ما في العالم ،

فكلما كنت نفسك كنت أقرب إليك وكنت أقرب إلي قلبي

لقد بحثت نفسى في النفوس حولها ، فلما وجدتك عرفتك وعرفت انك مرآة لها ، صورتك صورتها ، ومزاجك مزاجها ، وطبيعتك طبيعتها ؛ فكأني وإياك روح في جسمين ، أو حقيقة في شكلين .

صادقتك فاستصغرت متاعبي ، وهزئت بهمومي ، وظهر خير ما في نفسي ، ودبت القوة في إرادتي وشعرت بالحرارة في همتي ؛ فماذا كنت أكون لو لم تكن

إن حزب أمر فذكرك يحله ، أو ضعف العزم فصورتك تقويه ، او اظلم الجو فصداقتك تنيره ،او خيم البؤس فاستحضارك يكشفه .

قد ساء ظني بالناس ، وانكرت المروءة والإخلاص والوفاء ، وظننت انها الفاظ وضعت لأوهام ، واللغة لم تتحرز من أن نضع أسماء للموجود والمعدوم ، والجائز والمستحيل ، والشئ واللا شيء ؛ فلما عرفتك آمنت بك وبالناس وبالألفاظ ودلاتها على معانيها .

ثم كنت غريبا بين أهلي وولدي ، فإذا أنا بك حاضر في غربتي ، مؤتنس في وحشتي ، لأنك في قلبي ، وقلبي معي ما اظن أنه يفارقني ولا بالموت .

لم أصادقك إلا بعد أن عرفتك كما عرفت نفسى فمن عابك سقط من عيني ، ومن انتقصك فإنما ينتقص نفسه ؛ فأذني صماء إلا عن مديحك ، وقلبي لا يتفتح إلا عند الثناء عليك ، وصداقتنا كآنية الذهب ليس يمكن كسرها .

تصادق الناس للمنفعة ، فلما زالت المنفعة زالت الصداقة ، وتصادق الناس لعواطفهم ، فكانت الصداقة تشب وتحمد ، وتتعرض للهجر والعتاب ، والقطيعة والوصال ؛ ولكنا تصادقنا بعد أن رفعنا المنفعة فيما بيننا ،

وتصادقنا بقلبنا وعقلنا ، فسمونا عن التقلب وعن العتاب ، ولم أشعر بحاجتي في صداقتك إلي تكلف أو مراء أو تقاليد ومواضعات ، فكلها إقرار بالضعف ، ومحاذرة من الانفصام ، وطعن في الوحدة

قد كنت أنزل قبلك في مسبعة ضربت وحوشها واحتدت أنيابها ، يتظاهر أهلها بالود ويضمرون العداء ، ويبكون مع الراعي ويعيشون مع الذئاب فاليوم نزلت بك في جنة نعيم ، آمنتني صداقتك من خوف ، وطمأنتني من روع ، وفتحت لي أبوابا من اللذة والسعادة يعجز عنها اللفظ ولا يحدها وصف - حسبي أن أذكرك فأشعر بشفاء ، للصدر ، وبرد من حرقة ، وطرد للهم ، وانس من وحشة ، ومبعث للرجاء ، وتفتح للآمل

لقد كرهت الرق في كل شئ ، كرهت رق الحيوان وحبسه ، وكرهت رق الإنسان للإنسان ، والرجل للمرأة ، والمرأة للرجل ؟ وكرهت رق الأمم للامم ، وكرهت استرفاق رؤوس الأموال للعمال ، والملاك للمزارعين ، واستبعاد المال للإنسان ، واستعباد الشهوات للناس ؛ فلما وصلت إلي صداقتك رضيت بر في لك عن رضا واختيار ، لأن في لك رق لك لي ؛ وما اجزله من مغم .

كم شهدت قبلك صداقات ، وفي كل صداقة كنت أشعر بلذة ممزوجة بألم ، وأمن مشوب بخوف ؛ كنت أخاف تحولي أو تحول الصديق ، وأخاف ان تتدخل المادة في الصداقة فتفسدها ، وأخاف من الصديق يري منفعته في العداوة فيفتح صدره لها ، أو تحمله الغيرة على بيع

الصداقة فيبيعها ؛ ويزداد شعوري بالخوف والالم كلما رأيت صداقات ماكان يمكن ان تنهار فتنهار ، وإخاء كنت اظنه يدوم فلا يدوم ؛ ثم صادقتك فلم أشعر بهذا الألم وهذا الخوف ، بل شعرت بلذة خالصة وأمن صاف ، لاني

وجدت فيك نفسي ، فإن ثم اشك في نفسي لم اشك فيك ، وإن وثقت بقلبي وعقلي وثقت بقلبك وعقلك ، ويوم يعرض لصداقتنا عارض بسيط أقضي عليه في لمحة بقلبي أو عقلي ، أو تقضي عليه سريعا بقلبك أو عقلك ؛ ثم

كيف يعرض العارض ولم نتصادق لمنفعة ، ولم نتحاب لشهوة ؟ وإنما كنا روحين تعارفا فتآلفا فتوحدا وصدق أرسطو إذ سئل عن الصديق فقال : " هو أنت إلا أنه بالشخص غيرك

لم أصادقك للأخذ والعطاء ، فذاك الكرم لا الصداقة ، ولم أصادقك لجلب خير أو دفع ضر ، فتلك النجدة لا الآلفة ، إنما صادقتك لتسكن نفسي إلي نفسك ، وتأنس نفسى بنفسك ؟ فتلك هي الصداقة لا اي شئ اخر . بل لم أصادقك لتسكن إليك نفسى ، وإنما سكنت نفسي إليك

لصداقتك ، وما دامت نفسك نفسك ونفسي نفسى فقد تمت كل عناصر الصداقة بيني وبينك ، مهما اختلفت الأعراض والأغراض . لقد أعجبني ما قرأت مرة من أن رجلا سئل : من تحب أن يكون صديقك ؟ قال : من

يطعمني إذا جعت ، ويكسوني إذا عريت ، ويحملني إذا كللت ، ويغفر لي إذا زللت فقيل له : يرحمك الله ؛ إنما تمنيت وكيلا لا صديقا ! إذكرك فتحل روحك في روحي ، وتدب الحياة في نفسي ، فأروي من ظما ، واهتدي من ضلال ، وأجد بك ما لا أجد في الغني بعد الفقر ، والعافية بعد المرض ، والأمل بعد اليأس .

لقد أعجبني منك أنك لا تشيد بذكر الصداقة ، فاسمح إلى أن أشيد بذكرها ، وأعجبني منك أن من رآنا لا يشعر بما بيننا ؛ واعجبني منك انك على عكس الناس يقبلون مع النعمة ويدبرون مع النقمة ؛ وأعجبني منك أنك لم تجعل

الصداقة في ميزان تزنها كل يوم بما يزيدها أو ينقصها ، ولكنك وزنتها مرة واحدة ميزان الذهب ، فلما اطمأننت لميزانك وثقت كل الثقة ، فلم تعرضها للوزن مرة أخري ؛

وأعجبني منك أن عينك لا لسانك دليل ما في قلبك ؛ وأعجبني منك انك تري الواجب عليك ولا تري الحق لك ، وأنك تعتقد أنك غابن دائما ولا تعتقد أنك مغبون يوما .

وأعجب ما أري فيك أنك تنطق بما اتمني أن ان انطق به ، وتريد ما اعتزمت ان اريده ، ويجول في نفسك ما يجول في نفسى ، حتى ليخيل إلي أنك تحلم بما أحلم .

ومن أطرف ما فيك كرهك الدعاية لنفسك ولغيرك ، فلم يعرف فضلك في خلقك وعلمك إلا خاصتك ، تعمل كثيرا ولا تتكلم عما تعمل أبدا ، وتقدر الدعاية تقديرا عكسيا ، فكلما دعي لشخص او دعا لنفسه حسبت ذلك في ميزانه " بالناقص وكثيرا ما سمعتك تتمثل بقول الله

تعالى : " فأما الزبد فيذهب جفاء ، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض " . وقلت لي مرة : " إن أرفع المتجادلين صوتا أضعفهم حجة ، وأشد الناس تبجحا بالشجاعة أشدهم خوفا ، وأكثر المدرسين تهديدا لطلبته أقلهم كفاية ، وأقل الناس شعورا بكفايته  أكثرهم دعاية ؛ كل أولئك ليكملوا ) مركب النقص " في نفوسهم ، ويستروا ضعف باطنهم بقوة ظاهرهم .

أخي بل صديقي :

من أجل هذا ترددت كثيرا في أن أبعث إليك كتابي هذا ، لأن أكرة ما تكره المديح ، ولكني أصدقك أني كتبته لنفسي لا لك ، فقد كانت كتابته فرحة العيد عندي ، وشعرت بعد كتابته بفرح الحريص

لعقد شراء ضيعة كبيرة لم يكن سجل ثم سجل ، فإن آلمك مديحي فلتسعدك غبطتي

حفظك الله لي ، فأنت غذاء روحي ، وسراج حياتي ، وأعاد عليك العيد باليمن والسعادة

) حاشية ( هل تسمح لي أن أنشر هذا الكتاب بعد حفظ اسمك ؟

اشترك في نشرتنا البريدية