الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 332الرجوع إلى "الرسالة"

تخليطات في فهرس (عيون الأخبار)

Share

عامة الناس على أن دار الكتب المصرية، بقسمها الأدبي،  أمثل دور النشر العربية جميعاً، بما أتيح لها من أسباب القوة،  وما مكن لها من وسائل التحرير والضبط، مادية وفنية، ففيها  المال والرجال، وجنباتها الواسعة تفهق بالمراجع العظيمة والمصادر  الثرية، ولها الصوت الواسع البعيد الذي يكفل لنشراتها ما تتقطع  دونه أعناق الناشرين تشوقاً وطماعية.

وما نشك في أن     (دار الكتب)   جديرة - مع شيء من  التحفظ - بهذه المكانة التي تتبوؤها، فقد أسدت إلى الأدب  العربي، والى جمهرة المتأدبين والباحثين، صنائع لا سبيل إلى  نكرانها، قياساً إلى تلك النشرات الأخرى التي نكب بها الأدب  العربي. وإذا كان بعض الناس يغلو في نقدها ومؤاخذتها بالبطء  الشديد، والتنكب أحياناً لمسالك النشر العلمي السديد، فإنما ذلك  على قدر الظن بها، والأمل فيها؛ وعلى قدر الرغبة في أن تكون  النشرات التي تقوم عليها صورة مثلى مما تضطرب به آمالنا نحو تراثنا  العقلي، من الأخذ في تحقيقها بالتثبيت الذي لا يتهاون ولا يتسامح  ولا يغفل، مما هو جدير بأدبنا العربي الذي ندين له، وجدير بالمنزلة  التي تزعمها لمصر نحوه.

ومن نشرات (دار الكتب)   التي نرى فيها إلى جانب الرغبة  في التحري والدقة والضبط مظاهر شنيعة للغفلة والإهمال والتخبط  كتاب     (عيون الأخبار)   لابن قتيبة، مما يبعد بهذه النشرة عن  الروح العلمية بعداً شاسعاً، ويضع الذين قاموا عليها موضعاً غير  جدير بهم ولا بمكانهم من تلك الدار.

وأنا أكتفي من هذه المظاهر المتناثرة في أثناء الكتاب كله  بثلاثة مواضع لا عذر فيها لمعتذر، ولا محل فيهل لجدل؛ وليس  يقال فيها: رداءة الأصل وانبهام الخط وانعدام المصادر واختلاف  النظر. فهي أغلاط بل   (تخليطات)  في فهرس الإعلام لذلك  الكتاب، ومثل هذه الفهارس التي قيل فيها إنها نصف العلم،  إن لم يؤخذ في وضعها بالدقة، كانت شيئاً أشبه بالترف الذي يقوم  على التقليد الظاهر، أو التغرير الذي يلجأ إليه بعض المتجرين  التماساً للعائدة المادية ليس غير، لا ضرورة علمية توحي بها روح  العلم ومناهج البحث.

١ -  أول هذه المواضع يتعلق بالثوري، وقد جاء   (الثوري)   في عيون الأخبار مشتركاً بين اثنين، يختلف ما بينهما اختلافاً  كبيراً، حتى ما يكادان يلتقيان إلا في هذه النسبة: أحدهما  أبو عبد الله سفيان بن سعيد الثوري، المحدث العظيم، والورع  المعتصم بدينه وورعه عن مزالق الهوى، والمحتمل في ذلك أذى  التواري ومحنة التوقي ومضاضة العيش حتى لا يلي للسلطان عملاً،  ولا ينفذ إليه الشيطان من باب. وأما الثاني، فهو أبو عبد الرحمن  أحد شخصيات الجاحظ الطريفة في كتاب   (البخلاء) ، ممن  اتخذهم أبو عثمان مادة لتصويره وسخريته من طبقة   (البورجوازي)   في البصرة وبغداد. وحسبنا هذا لنعلم أي صورتين متناقضتين  جعل منهما ناشرو     (عيون الأخبار)   شخصاً واحداً، وأرسلوه  في فهرس الإعلام باسم أبي عبد الرحمن الثوري   (صاحب الجاحظ)   بالرغم من كل شيء، وأخضعوا الأمر لقاعدة التغليب. . . يعتسفونه  اعتسافاً. . . وهكذا أضاع ناشرونا الأفاضل أبا عبد الله سفيان،  كان الله له!

٢ -  وأما الموضع الثاني، فالخلط فيه أشنع، والخطأ فيه  أفظع، أو هي المعجزة التي تعنو لها المعجزات، وقعت على أيدي  سادتنا الأجلاء، إذ نرى الكليم موسى بن عمران عليه السلام  قد تقلصت عنه السنون، فقام ينفض غبار القرون، فإذا  هو من معاصري أبي الهذيل العلاف وسهل بن هرون! وحقت  بذلك كلمة القوم.

فكذلك صنع ناشرو عيون الأخبار في الإشارة إلى موسى  ابن عمران في خبر جاء فيه أن سهل بن هرون بعث إليه أبياتاً  يعبث فيها بأبي الهذيل العلاف، إذ خلطوا بينه وبين موسى  ابن عمران   (النبي عليه السلام) .

وإنما موسى بن عمران هذا هو بعينه الذي يذكر كثيراً  باسم   (مويس بن عمران) ، وقد ذكره المرتضى في الطبقة  السادسة من طبقات المعتزلة، وكثير من أخباره وآرائه  في الانتصار لأبي الحسين الخياط، والملل والنحل للشهرستاني،  والاغاني لأبي فرج، وأخبار أبي نواس لابن منظور. كما يردد  الجاحظ اسمه كثيراً في كتبه كالحيوان والبخلاء والبيان والتبيين.

٣ -  وأما الموضع الثالث فأعجب عجباً وأغرب غرابة،  والخلط فيه من طراز بدع جديد.

لعل كثيراً من المتأدبين يذكرون قصيدة سويد بن أبي كاهل  التي يقول فيها: رب من أنضجت غيظاً قلبه ... قد تمنى لي موتاً لم يطَع وقد جاء فيها هذا البيت يذكر ذلك المغيظ الذي أنضج الغيظ قلبه:

مزبداً يخطر ما لم يرني ... فإذا أسمعته صوتي انقمع وكنا نفهم - بكل بساطة - أنه يمثل صاحبه في هذا  البيت بالجمل الهائج يخطر في مشيه ويضرب بذنبه وقد علا الزبد  شدقيه، وقد غفلنا - ونستغفر الله الذي تفرد بالعصمة - أن  فوق كل ذي علم عليما. فقد أبى أصحابنا الناشرون إلا أن   (مزبدا)   في هذا البيت ليس على ما خيل إلينا وإنما هو. . .     (مزبد)    المدني صاحب النوادر! هكذا والله صنع القوم. فقد أشاروا إلى  هذا البيت في فهرس الإعلام ضمن ما أشاروا إليه من النصوص  التي ورد فيها     (مزبد)   هذا وأحالوا الباحثين عليها.

وبعد فإن هذه التخليطات الغليظة تكاد تهدم الثقة  بدار الكتب ونشراتها جميعاً، لولا ما نراه فيها كثيراً من آيات  الجهد الجاهد في التحرير والضبط، والبراعة العظيمة في التصحيح  والتخريج. فنتساءل مع شيخنا الجاحظ: كيف تبصر البعيد  الغامض، وتغبى عن القريب الجليل!

اشترك في نشرتنا البريدية