خبران أثرا فى النفس أبلغ التأثير ، وآثارا فى القلب كوامن الأسى والأسف.
أولهما أن أديبا كبيرا، وخطيبا خطيرا طلب من إحدى المكاتب القاموس المحيط للفيروزابادى، فأرسلته اليه، فاستبقاه أياما ثم رده شاكرا لأنه لم يستطع أن يعرف طريقة الكشف فيه، واذا استطاع فلا يفهم ما يقول، ولا يتبين ما يشرح. لذلك يعتذر عن شرائه ويطلب بدلا منه معجما من المعاجم الحديثة، كأقرب الموارد، ومحيط المحيط، والبستان، لسهولة الكشف فيها، ووضوح القصد من معانيها .
والثانى أن مجلسا من مجالس المديريات قرر إنشاء مكتبة يتردد اليها طلبة المديرية ومثقفوها، وعهد الى بعض رجاله اختيار الكتب الصالحة فلم يختر فيما اختار كتابا قديما كالقاموس المحيط ولسان العرب وتاريخ الطبرى وتاريخ ابن الأثير والأغانى والعقد الفريد ونفح الطيب، وإنما قصر اختياره على ما أنتجه الأدباء المحدثون من روايات وقصص وتاريخ حديث، وأدب من الوزن الخفيف.
راعى ما فى هذين الخبرين من دلائل مؤلمة، وما يحملان من نتائج خطيرة!. دلالة الخبرين أن تيار الفكر إنما يسير نحو الثقافة العصرية، وان المثقفين انما يعتمدون على ما تخرجه المطابع من آثار للثقافات الأجنبية، فاما تراثنا القديم وما فيه من ثراء ضخم فتنبو عنه أذواق الناشئة ومن يقودهم ويختار لهم. ولا يقبل عليه الا المستشرقون وأمثالهم من علماء قليلين يسيرون نحو الفناء، دون أن يخلف من بعدهم خلف يقوم على هذا التراث فيحفظه ويستثمره.
ولهذه الظاهرة أسباب أهمها: أن هذه الكتب جارت عصرها ولم تجار عصرنا، فالتعبير معقد. والمعنى غامض، والتأليف مشتت، والمصطلحات جامدة، والأمثلة واحدة فقطع هذا كله الصلة بين القديم والحديث، ولم يستطع أن يتفهم هذه الكتب القديمة الا من نشأ عليها، وأنفق أكثر العمر
فى فهم عباراتها، وحل معمياتها، وكثير منهم وقف عند ألفاظها ومصطلحاتها، ولم يسعفه الزمان بالتغلغل فى أعماقها. واكتناه أسرارها، واستخراج كنوزها، فلما نشأ الجيل الجديد وقد تعلم أول أمره فى رياض الأطفال، وأسلمته هذه الى مدارس ابتدائية وثانوية يجتهد مدرسوها أن يعلموا على أحدث طرق البيداجوجيا، ويقرأ تلاميذها فى كتب ألفت على غرار الكتب الأوربية فى الشكل والموضوع، أصبح الخريجون لا يربطون جديدهم بقديم أبائهم، وصارت الكتب الأوربية أشهى الى نفوسهم وأقرب الى عقولهم من كتب الأدب العربى والفلسفة الاسلامية، وكتب القانون الفرنسى أحب اليهم من كتب الفقه الاسلامى وهكذا. وهم اذا نظروا فى هذه الكتب العربية هزئوا بها وضحكوا منها! فاذا وقع نظرهم فى الفقه على تحديد ماء الطهارة بأنه عشر فى عشر بذراع الكرباس، قالوا ما لنا ولذراع الكرباس؟ إنما نعرف الذراع البلدى والذراع المعمارى، واذا رأوا نظام أخذ العشر قالوا ماذا يقابل ذلك من نظام الضرائب والجمارك ؟ واذا نظر الأطباء فى كتاب القانون لابن سينا وقفوا امام أحاجى لا طاقة لهم بها، واذا نظر الأدباء فى الأغانى والعقد وأمثالهما رأوا شرا كثيرا وخيرا قليلا! وكان ما فهموا أندر مما لم يفهموا.
الحق أن هذه مشكلة كبيرة تحتاج فى علاجها إلى مهرة الحكماء، وأن ما فى كتب أسلافنا من ثروة يحتاج الى عقول كبيرة تضع منهجا قويما للاستفادة منها.
ونحن بين اثنتين: اما أن تتخصص منا طائفة صالحة لترجمة ثروتنا القديمة الى لغة العصر وروح العصر وأسلوب العصر، فيستطيع ناشئتنا أن يضعوا أيديهم على تراث آبائهم، واما أن يتثقف أكبر عدد ممكن بنوع من الثقافة الشرقية القديمة، فضلا عما عندهم من الثقافة الحديثة، فيجمعوا الى مواردهم الأجنبية الموارد العربية، ويخرج نتاجهم متشبعا بالروحين، مستمدا من الثقافتين.
فان لم يكن هذا ولا ذاك خشيت بعد قليل أن تصبح كتبنا القديمة غير صالحة الا للأرضة تعيث فيها والعنكبوت ينسج عليها، ويكون شأننا معها كما قال أبو العلاء :
سيسأل قوم ما الحجيج ومكة كما قال قوم ما جديس وما طسم
