الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 678الرجوع إلى "الثقافة"

ترجمة عن الأدب اليوناني :, الحلم

Share

(هذا لوسيان الأديب بفص على نفر من صحبه ، الحلم اللذيذ الذي قرر مصيره) :

لما دخلت في طوق الصبا ، انقطع اختلافي إلى المدارس ، وبدأ والدي يفكر هو وصحبه فيما ينبغي أن يعلمني بعد ذلك وارتأى الكثير منهم أن التعليم العالي يتطلب جهدا كبير وزمنا طويلا ، ونفقات طائلة وحظا اجتماعيا ملحوظا . يختلف عما نحن فيه من حال متواضعة تحتاج إلى مساعدة متصلة

ثم إنهم رأوا أن من اليسير - لو تعلمت فنا يدويا - أن أحصل على ما يكفيني من المال فلا أظل عالة على أسرتي بعد أن قطعت من العمر هذا الشوط ، وفضلا من هذا فإن دخلي سييسر الأمر لوالدي فتقر عيناه من حين إلى حين .

وبعدئذ طرح على بساط البحث هذا السؤال : " ما هي أنبل الحرف شأنا ، وأسهلها تعلما وأليفها بشاب ولد حرا بحيث تستنفذ نفقة يسيرة وتدر دخلا كافيا ؟ "

امتدح كل حرفة وفق رأيه الشخصي أو تجربته الذانية ، وكان خالي ضمن الحضور وكان مثالا ذائع الصيت ، فرنا إليه والدي وقال : - " ليس من الحق في شيء أن حرفة أخري ستفوق حرفتك ما دمت حيا ، خذ بيدك هذا الصبي ، مشيرا إلى ، وعلمه فن الحفر والنحت فإنه كما تعرف ممن ينزعون إليه " . صدر عن والدي هذا القول مستمدا حجته من نزوعي إلى الحفر كلما انتهيت من الدرس وصرفني الأساتذة ، فقد كانت عادتي أن أزيل الشمع عن لوحي وأشكل منه دمى

على هيئة البقر والخيل أو على هيئة الإنسان . وما كان أجا هذه الدمي في نظر والدي ، ولكم دفع نزوعي إلى الحفر أساتذني فسلموني مختلف ألوان العقاب ، بيد أنه في هذه المرة دفع والدي إلى امتداح فطمني وانتظار الخير على يدي . ظنا منه أن هذا النزوع إلى الحفر سيسر لي الأمر فأستوعب فن النحت في زمن قصير .

وفي يوم حسن قاله تسلمني خالي . والحق أنني لم أحزن لهذا التسليم ، بل على النقيض من هذا كنت قرير العين مغتبط الفؤاد لأني حسبت أن في صناعتي الجديدة لذة ومتعة وأن الفرصة قد حانت لأظهر لأقراني طاقتى في صنع التماثيل النصفية على هيئة الآلهة أو على صورة الأخيار من أصحابي .

وهنا اعترضتني العقبة الأولى التي تعترض المبتدئين جميعا في الكثير من الأحيان .

ذلك أن خالي قدم إلي أزميلا ووضع بيننا لوحا من الحجر ، ثم أمرني أن أطرق هذا اللوح طرقا خفيفا ، وذكر القول المأثور " البداية الحسنة اتقان لنصف العمل " .

ولكن قلة مراني جعلت طرفي صعبا ثقيلا ، فانكسر اللوح توا ، وأخذه الغضب فهرع إلى عصاه وأمطرني ضربا لا يعرف حنانا ولا يرجى منه تشجيع . بيد أنني لذت بالفرار موليا وجهي شطر الدار فوصلت إليها ذائب العينين لهثان . وإذ ذاك طيرت الخير إلى أمي وأريتها أثر الضرب على جسدي ، ثم رميت أخاها بقسوة القلب وغلظة الكبد ، وقلت إنه فعل ما فعل حسدا منه وغيظا ، خشية أن أبذه في صناعته ، ولكنها هدأت من روعي ، ولعنت أخاها لعنا شديدا خفف على شيئا من الآلم ، ولما أرخي الليل سدوله آويت إلى مضجي دامع العينين مفكرا في العصا .

حقا إن الحديث حتى الآن لحديث أطفال فيه طرافة وفكاهة وليس فيه من الفكر ما يدعو إلى الانتباه . ولكن مهلا ، أيها الرفاق ، فلن تسخروا من الحديث بعد الآن ، ولكنكم ستسمعون سحرا حلالا يعقل الأفئدة ، ويأسر الألباب . ذلك أني - كما يقول هومير - رأيت في المنام طيفا

مباركا في ليلة خالدة ، وكان الطيف حيا ناطقا كما كان واضحا بينا ، كأنه حقيقة لا لبس فيها ولا إيهام ، ثم إن هذه السنين التي ولت لم تمح من الطيف شيئا ، فهأنذا الآن أري كل ما رأيت مرئيا أمام عيوني ، وهأنذا الآن أسمع كل ما سمعت إذ ذاك يرن في آذاني .

أجل رأيت في المنام سيدتين ، أما الأولى فقبضت بكلتا يديها علي ذراعي اليمني ، وأما الثانية ففعلت بذراعي اليسري ما فعلت الأولى بذراعي اليمنى . ثم إذا بهما تختلفان فيما بينهما ، وأخذت كل واحدة منهما تجذبني نحوها جذبا مرهقا كاد يمزقنب اربا ، وأرادت إحداهما أن تظفر بي عنوة ولكن القدر خذلها ، ورغبت الأخرى لو حظبت بما تحظ به الأولى ، ولكن قدر لها أن تخفق . . واستمرت الحال هكذا مدة من الزمن ، أتبع هذه حينا وأتبع تلك حينا آخر ، وهكذا دواليك مئي وثلاث ورباع إلى أن أخذهما التغب ، فصرخت كل منهما في الأخرى ، وقالت إحداهما :

" إنه لى ، فماذا تبغين منه ! فأجابتها الأخرى : " بل هو لي ، فكيف تحاولين اغتصاب من لا علاقة لك به ؟ " :

وكانت إحداهما خشنة قذرة دميمة الخلقة كأن الحظ قد سطا عليها فسلبها أنوثتها فأصبحت ذكرا بينه وبين الجمال عداوة لا تزول ، لها رأس عليه شعر مجمد غير ممشط ، ويدان مشوهتان معروقتان ، وتلبس ثيابا مهلهلة تعلوها طبقة كثيفة من الجير ، وتلف نفسها بمنطقة ، كأنها خالي وقد أعد نفسه لحفر الأحجار .

وكانت الأخرى فاتنة الوجه جميلة الهيئة ذات ثياب أنيقة فاخرة .

وأخيرا أذنتا لي أن أختار منهما واحدة أقضي معها بقية العمر ، ثم بدأت المرأة القبيحة البغيضة تقول : " أنا ، أيها الفتي العزيز ، فن النحت والحفر الذي شرعت تتعرف به أمس . وإن بيني وبين أهلك لمودة قديمة لا تمحى ، فجدك كان مثالا ، وهنا ذكرت اسم جدى لأمي ، وكذلك كان عماك ، ولولاي ماسار بذكرهما الركبان ، فإن شئت الخلاص من هذيان هذه المرأة ، مشيرة إلى الأخرى ، فهلم إلى واقض معي بقية عمرك ، وستجدني إن شاء الله مرية

صالحة أشد أزرك وأطهر نفسك من براثن الحقد والحسد ، وما دمت معي فلن تركب اليم إلى الخارج ، بل سيسعي الناس إليك سعيا حثيثا متسابقين في طرح الثناء عليك .

لا تتقزز من هيئتي المتواضعة ، ولا تتأفف من سترتي القذرة ؛ فعلى هذا النحو بدأت حياة فيدباس الذي صنع تمثال هيرا ، وعلى هذا النحو استحق ميرون ثناء الناس . ونال برا كستلبس إعجابهم . وحقا إن لهؤلاء يسجد الناس خاشعين يسجدون للآلهة . فلو قدر لك أن تكون واحدا منهم سنحت لك فرصة ذهبية لتصير نارا على علم ، ولحسد أباك اقرانه . ولأصبح وطنك كعبة للمعجبين

ذهت صناعة النحت بهذا الكلام ويأكثر من هذا الكلام ، ولكنها كانت تتعثر في إخراج مقاطع الكلمات ، كأنها بربرية بينها وبين الفصاحة حجاب كثيف . ومع كل فليس يحضرني الآن من حديثها إلا ما ذكرت ، لأن مضي الزمن أنساني من أمرها الشئ الكثير .

وما فرغت صناعة الحفر من كلامها حتى راحت الأخرى تقول : " أما أنا أيها الصبي ، ففن التعليم ، ومع أنك لم تنته من سير غوري حتى الآن ، فإن بينك وبيني ألفة ومعرفة . لقد حدثتك هذه المرأة عن الخير الذي سوف تجتنيه لو أصبحت حفارا ، ولكنها نسيت انك يوم ذاك لن تكون إلا عاملا يفني جسمه ، ويحرق أعصابه . نعم لن تكون يومئذ إلا نكرة يرتدي ثيابا بسيطة زهيدة الثمن لخمول ذكره وبلادة ذهنه . فلن يسعى إليك صديق ولن يخشي بأسك عدو ، ولن يحسدك قرين ، لأنك لن تكون إلا عاملا أو واحدا من الغوغاء ، أو صعلوكا يستجدي العطف بذلة ومسكنة أو تابعا لمن أوتي القدرة على الكلام أو مطية يمتطيها النابهون من القوم . وحتى لو أصبحت فيدباس أو بو لكلبتيس ، وأثبت الكثير مما هو محبب أخاذ ، فالناس سيمتدحون فنك ولكن أحدا من الناظرين إليك - لو قدر وكان له شعور نبيل - لن يقبل أن يكون شبيها بك ، لأنه مهما قدر لك أن تكون ، فلن تكون إلا عاملا لا يملك غير يديه ولا يرتزق إلا بعرق جبينه .

بيد أنك في اتبعت نصيحتي فسوف أطلعك قبل كل شئ على مؤلفات الغابرين من الكتاب ، وسأريك أعمالهم

المجيدة وحكمهم الغالية ، وسأجعل منك شخصا مثقفا ملما بألوان المعرفة كلها . هذا فضلا عن أني سأجمل روحك وهو أعز ما تملك بأفخر أنواع الحلى . كالعفة والعدل والتقوي والفطنة والصبر وحب كل ما هو جميل والغيرة على كل ما هو مقدس ، وغير ذلك من حلى الروح الأصيلة ؛ كما انك لن تجهل الماضي ولن تغفل عن الحاضر ، بل وستعرف المستقبل أيضا ما دمت رفيقا لي وقصاري القول سأعلمك كل شئ في زمن قصير سواء في ذلك ما يخص الآلهة وما يخص المجتمع .

وبرغم الفقر المدقع الذي أنت غارق فيه الآن ، وبرغم أن أباك قد بلغ من القحة أنه وطد العزم على احترافك مثل هذه الحرفة السيئة - فإنك ستتبوأ في القريب العاجل مركزا ساميا يحسدك عليه الناس جميعا . ولسوف تحترم ويثنى عليك وتعظم خلالك الحسنى في أعين النبلاء والأغنياء فيعرفون قدرك ويعجبون من أمرك ، ولسوف ترتدي ثيابا فخمة ( وأشارت إلي ثوبها الجميل الفاخر ) ، ولسوف تسعى اليك الوظيفة راضية والزعامة مختارة . ولسوف تتطلع إليك جميع العيون لو أن حدثا ذا بال واجه صحبك أو ألم بوطنك ؛ وإذا شاءت الأقدار أن تلقي خطابا في وقت ما فسوف ينصت الشعب إليك فاخرا معجبا ، ولسوف يهنئك على بلاغتك ويهنيء والدك على حظه السعيد .

يقولون إن بعضا من الرجال حقا لا يموت ، لكنني سأجعل منك رجلا خالد الفكر ، وسأحضر لك صورة في أدمغة أساطين العلم فتصبح حديثا شهيا يردده كبار الناس في المجتمع الإنساني .

أنت تعرف من هو ديموستين ومن كان أبوه ، وكيف خلقت منه شخصا عظيما . وتعرف أبسخينيس ، وكيف أن فيلبب كان بسببي يتردد إليه ، مع أنه كان ابنا لإحدي الراهبات . وتعرف سقراط الذي تربي علي يدي صديقتنا صناعة الحفر ، ثم أقبل إلي مسرعا حالما تاب إلى رشده وميز الخبيث من الطيب ، وأظنك قد سمعت أن سفراط أضحى أغنية يرتلها الناس أجمعين .

أما إذا أعرضت عن هؤلاء العظماء والنبلاء ، وعن الأعمال الجليلة والألفاظ المقدسة والهيئة الفخمة ، وعن الشرف والشهرة والإطراء والزعامة والقوة والوظائف . وعن

الصيت بالبلاغة والتبجيل من أجل الذكاء والعبقرية . فسوف ترتدي ثيابا قذرة تماما كما لو كنت عبدا خسيسا ، وسوف تقبض يديك على القضيب والعتلة والازميل والسكين وتعمل وأنت منحني الظهر . ولن ترفع رأسك في وجه عدو أو حبيب ، ولن تسلك في التفكير مسالك الأحرار الشجعان ، ولو أتيح لعملك ان يكون رشيقا منسقا . فلن يتاح لك أن تكون كذلك ، بل ستكون دائما أقل قيمة من الحجر .

وبينما كانت هذه الألفاظ تترامى بين شفتيها أسرعت الخطي إليها دون أن أترك لها فرصة لتنتهي من إسداء النصح إلي ، عازفا عن المرأة البغيضة العاملة ، مقبلا على التعليم صادق النية قوي العزم ، بينما وقد تذكرت إذ ذاك أمر العصا وآثارها على جسدي في بداية العمل أمس .

بيد أن عزوفي عن صناعة الحفر أعلى مراحل غضبها وأثار من حفيظتها ، فراحت تصفق بكفيها وتضغط على أسنانها ، وأخيرا حدث لها ما حدث لبوبي واستمالت إلي قطعة من الحجر .

بعد هذا رنت الآخري إلي وقالت أما أما أما وقد حكمت بيننا بالعدل فسأجزيك خير الجزاء . أسرع إلي واركب هذه العربة - وأشارت إلي عربة تقودها جياد مجنحة - لتعرف ما قدر لك أن تجهل لو أنك رفضت الانضمام إلي "

ولما استويت على مقعدي بالعربة شدت صناعة التعليم على اللجام والمت ظهور الجياد بالسوط فارتفعت العربة إلي عنان السماء ، وطافت بي من الشرق إلي الغرب ، فشاهدت مدنا وقبائل وشعوبا ، وفرشت الأرض طولا وعرضا بنوع من البذور ، ومع أني لا أذكر الآن نوع البذور التي يذرتها إلا أني أذكر أن كل من حلقت العربة فوق رؤوسهم طفقوا يصفقون ويصيحون نحوي بعبارات المديح والتقريظ .

وبعد أن استعرضت جميع هذه الصور ورآني كل من صفق لي من الرجال عدنا إلي حيث كنا ، وقد خيل إلي أني دخلت في ثوب جميل مزركش بعد أن خرجت من الثوب الذي كنت أرتديه عندما بدأت العربة تطير ثم تقدمت صناعة التعليم إلي والدي - وقد كان ينتظرني وبينت له البون الشاسع بين الثوب الذي خلعته

والثوب الذي رجعت فيه وذكرته في رفق بعزمه على أن يجمل من حفارا .

هذا هو الحلم الذي أذكر أنني رأيته في عهد الصبا ، وهو في أكبر الظن راجع إلى الرعب الذي استحوذ على نفس بسبب العصا وما تركته من آثار على جسدي .

وما كدت انتهى من تلاوة حلمي حتى مال علي أحد الحضور وقال : ( رباه ما أطول هذا الحلم وما أثقله ) فتشجع زميل له وقال ساخرا : " اكبر الظن أن هذا الحلم قد وقع في فصل الشتاء عندما يبلغ الليل منتهي الطول ،

أو لعله استمر ثلاث ليال متوالية كما حدث لهرقل. ولكن ما الذي حدا به إلى أن يقص علينا شيئا من ترهاثه ويحدثنا عن ليالي صباه ويوقفنا على أحلام قديمة اكل عليها الدهر وشرب ، إن الثرثرة أمر كريه . أفلا يؤمن بأننا لا نستطيع ان نفسر حلما " .

قلت : مهلا أيها الرفيق العزيز ، ليست هذه بغيتي ، وما كانت بغية زينوفون حين قص على الناس حلمه الذي رأي فيه صاعقة تهبط على منزل أبيه فتحرقه ، إلى آخر ما تعرفون جيدا ، نعم ما كان زينوفون يبغي لحلمه تفسيرا ، وما كان يبغي أن يظهر الناس على بعض ترهاته خصوصا وأن الوقت كان عصيبا بسبب الحرب واضطراب الأحوال والتفاف العدو حول الوطن . أجل أجل ، ما كان زينوفون يبغي . هذا أو ذاك ، وإنما كان يبغي من قصته فائدة معينة .

أما أنا فقد رويت لكم هذا الحلم لكي ينتهج الشباب الطريق القويم فينزعوا إلي التعليم دون اعتبار إلى الفقر الذي يعرقل أملهم ويشين معدنهم الكريم ، ويبث في نفوسهم حب الخنوع والرضا بكل ماهو حقير دنيء ، وإني لأعلم علم اليقين أن الشباب سيقوى كلما استمع إلي حقي ونسج على منوالي وتذكر فقري والحال التى كنت عليها ، وكيف أني أقبلت على التعليم بقلب لا يتطرق الضعف إليه ، ثم تذكر الحال التي أنا عليها الآن وكيف أننبي وإن كنت لم أبذ الحفارين فلست أعتبر نفسي أقل منهم قدرا .

اشترك في نشرتنا البريدية