قرأت نبوءة المستقبل فى كتاب للعلامة فلاماريون قد يكون تحقق بعضها فى فترة وجيزة ما بين الحربين العالميتين إذ يقول فى نبوءته إن عدد سكان الأرض فى سنة ٣٠٠٠ سيبلغ ألفا وأربعمائة وخمسين مليونا وستتحور اللغات ويدخل عليها مصطلحات وألفاظ جديدة دعت إليها ظروف التقدم فى العلوم والصناعات وإن اللغة الإنجليزية قد انتشرت فى كل بقاع الأرض بحيث أصبحت اللغات مزيجا منها واللغات الأخرى وقال كثيرا ما حاول الناس إيجاد لغة عامة للبشر ففشلت محاولاتهم
وقال قبيل انبلاج صبح القرن الخامس والعشرين اختفت الحرب من المنطق البشرى فلم يعودوا يفهمون كيف أن جنسا عاقلا يقبل طائعا مختارا أن يضع على عاتقه نير الهمجية والوحشية وأن ينزل إلى أسفل دركاتهما بل المتأمل من أهل هذه العصور الراقية فيما صورته
ريشة الفن من ألواح تمثل الهمجية لا يكاد يصدق أن هذا الجهل وهذا الضلال استوليا زمنا طويلا علي الجنس البشرى المسكين الذى انتهي أخيرا إلى سن الرشد ومن هذه الألواح ما يمثل صورة رمسيس الثالث فى مصر تلقى أمامه أوصال المغلوبين مقطعة لإحصائها بالمئات والآلوف أو ملك آشور يمثل ألسنة البابلين أو يخوزق السوسيين أو قيصر روما يقطع أيدي أسري الغال بالفؤوس أو نيرون يمثل بالنصار ثم يحرقهم أحياء أو تحريق فيليب الثانى للهراطقة باسبانيا أو ضحايا محاكم التفتيش أو دفن الصينيين المحكوم عليهم فى التراب للأعناق ثم تطلى رؤوسهم بالعسل ويتركون للذباب أو جان دارك تموت حرقا أو مارى استوارت ورأسها على الوضم أو الذين ماتوا على مشنقة الثورة أو جنود نابليون مطروحين موتى بالعراء على جليد روسيا أو المدن المضروبة بالقنابل أو الوقائع البحرية أو الجنود الذين يحصدون حصدا بفعل المفرقعات
وأخذ الناس يفهمون أن تنازع البقاء ليس معناه أن يذبح الإنسان أخاه الإنسان وأن معناه هو فتح كنوز الطبيعة ورأوا أن تراث الإنسان يضيع فى هاوية لا قرار لها
من الجيوش المستديمة المرابطة وأن التجنيد الالزامى إنما هو قتل للحرية وإعادة لعهد الاسترقاق
وقال لما سئمت الأمم من حكامهم الميالين للحرب خرجوا عليهم واعتقلوهم حتى ماتوا وحنطوا جثثهم كأثر تاريخى فى إكس لا شابل حول قبر شارلمان للذكرى واعترف الجميع أن العسكرية داء عضال بعد أن تحولت الدول إلى اتحادات وشبهوا العسكرية فى زمن السلم بالحشرات الطفيلية التى تنخر فى جسم غيرها هذا إلى أنها تنهك الأمم وتزيد فى العقم وأما فى زمن الحرب فإنها تمثل اللصوصية والقتل المشروع فى نظر العسكريين والحق الهمجى أعنى حق القوة وإنها نظام مبنى على الجهل وينطوى على الطاعة العمياء لأوامر نفر من السياسيين كل همهم المضاربة بالبلاهة البشرية واستغلال تقدم العلوم الكيمائية والميكانيكية والملاحة الجوية فى تقوية آلات الدمار
ويتبجح البعض بأن الحرب ناموس الترقى مع أن الإحصاء العلمي يقول إن الحرب تقط رقاب أربعين مليونا من البشر فى القرن أى بمعدل ألف ومائة من الأناسى فى اليوم الواحد باستمرار مطرد وبلا رحمة وأن عدد أشلاء القتلى فى ثلاثة آلاف سنة بلغ ألفا ومائتى مليون من الجثث البشرية بخلاف ما تكلفته الحروب من أموال طائلة ويدعى البعض أن الحرب كالحجامة فى الجسم لابد منها للمجتمع لإهراق الدم منعا لتكاثر عدد السكان ونسوا أن هذه الأرض تستطيع أن تغذى عشرة أمثال من فتكت بهم الحروب
وكانوا يعززون فكرة الحرب بأباطيل تغلبت عليهم باسم الوطنية الكاذبة ويرجع الفضل فى نجاة الجنس البشري للعاطفة النسوية حيث قامت امرأة ذات قلب وأوحت إلى بنات جنسها بفكرة لتحرير الشعوب من هذا التيار الجارف فتعاهد النساء على تربية أولادهن ولاسيما البنات على استبشاع الهمجية العسكرية ونشرن الفكرة فى المحادثات
والسمر والمحفوظات والمطالعات فكن يظهرن فى كل مناسبة عناد الرجال وبطلان الحجج التى تدفع بالأمم إلى محاربة بعضها وخدع الساسة الذين يستغلون كل شئ لإيقاد جذوة الوطنية ولتضليل العقول وأن ما أسموه التوازن الدولى لم يتحقق أبدا فهو دائما مضطرب وأن الحرب لا تثمر غير خراب الشعوب وأن الحرب ما أسفرت إلا عن تأيم النساء وتيتم الأطفال وانتشار الشقاء
فأثمرت هذه التربية الصحيحة فى جيل واحد وتحرر الإنسان من رق تلك الحيوانية الأكالة للحوم البشرية وأنشأت الجيل الجديد على البغضاء والكراهية لكل شئ يذكر بالهمجية القديمة وكان نساء العالم قد حصلن على حق الانتخاب فصرن ناخبات ومنخوبات وصرن يصوتن ضد ميزانية الحرب ولكن بعض الرجال نسوا وعودهم أو تناسوها طواعية لرؤساء الكتل البرلمانية بحجة ضرورة حفظ كيان الدولة فاستمر التصويت لميزانية الحرب فى كل سنة فرأى النساء أن العسكريين فى كل الأحزاب سواء فى حب الملبس العسكري فأقسم العذارى فيما بينهن ألا يتزوجن برجل ممن يحمل السلاح حالا أو استقبالا وأضربن عن الزواج ويررن بأيمانهن
وكان هذا التحالف صعبا على قلوب العذارى ولولا خشية الازدراء لحنت القلوب ولأجابت داعى الهوى وقد حصلت بعض الفلتات ولكن الزوجين رأيا نفسيهما منبوذين نبذ الكلاب الضالة أو نبذ المرتد عن دينه فقلت الحوادث من هذا القبيل وأصبح من المستحيل مقاومة التيار وصار السائر فى الشوارع يرى على الجدران عبارات تدعو إلى السلام العام كعبارة المتحاربون سفكة ولصوص ومضت خمس سنين لم يحصل فيها عقد زواج ومضى النساء فى عزمهن وكان جوابهن لكل رجل يبث هيامه أو يشكو غرامه جوابا مجمعا عليه لا لم نعد بحاجة إلى الحمقى
وكان خطيبات البرلمانات يطلبن فى كل دور من أدوار الانعقاد نزع السلاح وفى السنة الخامسة لما رأي الرجال مناعة الحصن النسوى هب نواب برلمانات العالم وأيدوا النساء فى طلب نزع السلاح وتقرر فى أسبوع واحد نزع السلاح فى كل دول أوربا تقريبا وظفرت أوربا بالقضاء على المبادىء الفاسدة القديمة
ولم تحدث أى ثورة وتتابع الزواج فيما عدا الروسيا وانجلترا فظلتا بمعزل عن الحركة لان رأى نسائهما لم يكن إجماعيا ولكن أخيرا انضمت الدول لبعضها ولحقت بها الدولتان المذكورتان وانضمتا إلى فكرة نزع السلاح التدريجى في عشر سنوات وألغيت وزارات الحرب
وكان هذا فى منتصف القرن الرابع والعشرين ومن ثم تلاشت فكرة الوطنية الفكرة الضيقة الخاطئة وأخذت مكانها فكرة أخري أوسع وأسمى فكرة الإنسانية وحل الاتحاد الدولى الراقى محل التوحش الدولى المنحط
ولم يبق من النظم العسكرية إلا الموسيقى وقد احتفظت كل أمة بميلشيا للمحافظة على هذا النظام السار المتألق . وأعقب ذلك الخلاص تفشى الحرية فى الجنس البشرى وبدأ يتذوق لذة الحياة وآل ذلك فى النهاية إلى اطراد التقدم الاجتماعى والعلمى والفنى والصناعى
ولما كانت الضرائب التى استحدثت من القرن العشرين حتى على الهواء الذي يتنفسه الإنسان كادت تقرب من كسب الإنسان ولا يبقى منها شئ بعد القوت اليومى وبسببها وقف دولاب العمل مرة واحدة لأن المعيشة أصبحت مستحيلة فكان هذا سببا فى الثورات ولكنها لم تكن بلسما شافيا بل الفضل كل الفضل للحركة النسوية وبفضلها حلت المزارع فى كل مكان ونزل سعر فائدة القروض إلى نصف فى المائة واختفى كبار حملة السندات المالية ولم يبق شئ اسمه حدود بين البلدان المختلفة وألغيت
الجمارك وأصبح لا ديون عمومية ولاجيوش ولا أساطيل ولا مكوس وأصبحت البيئة نظيفة وبات المجتمع بسيط التركيب
وفى القرن الخمسين ظهرت مخترعات عجيبة وأصبح كل شئ يدار بالكهرباء واستخرجت كل المواد الغدائية من الهواء وصارت الأزهار دائمة التفتح وابتدأ فى القرن الستين نماء المجموع العصبى ودقة حساسيته بدرجة لم تكن منتظرة وازدادت مادة المخ وقل نمو سائر الجسم واختفى العمالقة فنمت القوة الفكرية
وفى القرن المتمم للمائة صارت الأجناس كلها جنسا واحدا رقيقا أبيض البشرة وتقلص ظل الهمجية من على ظهر الأرض
وأعتقد أنا أن هذه هى الجنة والله أعلم العالمين
