الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 418الرجوع إلى "الثقافة"

تطورات المستقبل, وفضل النساء فيها

Share

قرأت نبوءة المستقبل فى كتاب للعلامة فلاماريون قد يكون تحقق بعضها فى فترة وجيزة ما بين الحربين العالميتين إذ يقول فى نبوءته إن عدد سكان الأرض فى سنة ٣٠٠٠ سيبلغ ألفا وأربعمائة وخمسين مليونا وستتحور اللغات ويدخل عليها مصطلحات وألفاظ جديدة دعت إليها ظروف التقدم فى العلوم والصناعات وإن اللغة الإنجليزية قد انتشرت فى كل بقاع الأرض بحيث أصبحت اللغات مزيجا منها واللغات الأخرى وقال كثيرا ما حاول الناس إيجاد لغة عامة للبشر ففشلت محاولاتهم

وقال قبيل انبلاج صبح القرن الخامس والعشرين اختفت الحرب من المنطق البشرى فلم يعودوا يفهمون كيف أن جنسا عاقلا يقبل طائعا مختارا أن يضع على عاتقه نير الهمجية والوحشية وأن ينزل إلى أسفل دركاتهما بل المتأمل من أهل هذه العصور الراقية فيما صورته

ريشة الفن من ألواح تمثل الهمجية لا يكاد يصدق أن هذا الجهل وهذا الضلال استوليا زمنا طويلا علي الجنس البشرى المسكين الذى انتهي أخيرا إلى سن الرشد ومن هذه الألواح ما يمثل صورة رمسيس الثالث فى مصر تلقى أمامه أوصال المغلوبين مقطعة لإحصائها بالمئات والآلوف أو ملك آشور يمثل ألسنة البابلين أو يخوزق السوسيين أو قيصر روما يقطع أيدي أسري الغال بالفؤوس أو نيرون يمثل بالنصار ثم يحرقهم أحياء أو تحريق فيليب الثانى للهراطقة باسبانيا أو ضحايا محاكم التفتيش أو دفن الصينيين المحكوم عليهم فى التراب للأعناق ثم تطلى رؤوسهم بالعسل ويتركون للذباب أو جان دارك تموت حرقا أو مارى استوارت ورأسها على الوضم أو الذين ماتوا على مشنقة الثورة أو جنود نابليون مطروحين موتى بالعراء على جليد روسيا أو المدن المضروبة بالقنابل أو الوقائع البحرية أو الجنود الذين يحصدون حصدا بفعل المفرقعات

وأخذ الناس يفهمون أن تنازع البقاء ليس معناه أن  يذبح الإنسان أخاه الإنسان وأن معناه هو فتح كنوز الطبيعة ورأوا أن تراث الإنسان يضيع فى هاوية لا قرار لها

من الجيوش المستديمة المرابطة وأن التجنيد الالزامى إنما هو قتل للحرية وإعادة لعهد الاسترقاق

وقال لما سئمت الأمم من حكامهم الميالين للحرب خرجوا عليهم واعتقلوهم حتى ماتوا وحنطوا جثثهم كأثر تاريخى فى إكس لا شابل حول قبر شارلمان للذكرى واعترف الجميع أن العسكرية داء عضال بعد أن تحولت الدول إلى اتحادات وشبهوا العسكرية فى زمن السلم بالحشرات الطفيلية التى تنخر فى جسم غيرها هذا إلى أنها تنهك الأمم وتزيد فى العقم وأما فى زمن الحرب فإنها تمثل اللصوصية والقتل المشروع  فى نظر العسكريين والحق الهمجى أعنى حق القوة وإنها نظام مبنى على الجهل وينطوى على الطاعة العمياء لأوامر نفر من السياسيين كل همهم المضاربة بالبلاهة البشرية واستغلال تقدم العلوم الكيمائية والميكانيكية والملاحة الجوية فى تقوية آلات الدمار

ويتبجح البعض بأن الحرب ناموس الترقى مع أن الإحصاء العلمي يقول إن الحرب تقط رقاب أربعين مليونا من البشر فى القرن أى بمعدل ألف ومائة من الأناسى فى اليوم الواحد باستمرار مطرد وبلا رحمة وأن عدد أشلاء القتلى فى ثلاثة آلاف سنة بلغ ألفا ومائتى مليون من الجثث البشرية بخلاف ما تكلفته الحروب من أموال طائلة ويدعى البعض أن الحرب كالحجامة فى الجسم لابد منها للمجتمع لإهراق الدم منعا لتكاثر عدد السكان ونسوا أن هذه الأرض تستطيع أن تغذى عشرة أمثال من فتكت بهم الحروب

وكانوا يعززون فكرة الحرب بأباطيل تغلبت عليهم باسم الوطنية الكاذبة ويرجع الفضل فى نجاة الجنس البشري للعاطفة النسوية حيث قامت امرأة ذات قلب وأوحت إلى بنات جنسها بفكرة لتحرير الشعوب من هذا التيار الجارف فتعاهد النساء على تربية أولادهن ولاسيما البنات على استبشاع الهمجية العسكرية ونشرن الفكرة فى المحادثات

والسمر والمحفوظات والمطالعات فكن يظهرن فى كل مناسبة عناد الرجال وبطلان الحجج التى تدفع بالأمم إلى محاربة بعضها وخدع الساسة الذين يستغلون كل شئ لإيقاد جذوة الوطنية ولتضليل العقول وأن ما أسموه التوازن الدولى لم يتحقق أبدا فهو دائما مضطرب وأن الحرب لا تثمر غير خراب الشعوب وأن الحرب ما أسفرت إلا عن تأيم النساء وتيتم الأطفال وانتشار الشقاء

فأثمرت هذه التربية الصحيحة فى جيل واحد وتحرر الإنسان من رق تلك الحيوانية الأكالة للحوم البشرية وأنشأت الجيل الجديد على البغضاء والكراهية لكل شئ يذكر بالهمجية القديمة وكان نساء العالم قد حصلن على حق الانتخاب فصرن ناخبات ومنخوبات وصرن يصوتن ضد ميزانية الحرب ولكن بعض الرجال نسوا وعودهم أو تناسوها طواعية لرؤساء الكتل البرلمانية بحجة ضرورة حفظ كيان الدولة فاستمر التصويت لميزانية الحرب فى كل سنة فرأى النساء أن العسكريين فى كل الأحزاب سواء فى حب الملبس العسكري فأقسم العذارى فيما بينهن ألا يتزوجن برجل ممن يحمل السلاح حالا أو استقبالا وأضربن عن الزواج ويررن بأيمانهن

وكان هذا التحالف صعبا على قلوب العذارى ولولا خشية الازدراء لحنت القلوب ولأجابت داعى الهوى  وقد حصلت بعض الفلتات ولكن الزوجين رأيا نفسيهما منبوذين نبذ الكلاب الضالة أو نبذ المرتد عن دينه فقلت الحوادث من هذا القبيل وأصبح من المستحيل مقاومة التيار وصار السائر فى الشوارع يرى على الجدران عبارات تدعو إلى السلام العام كعبارة المتحاربون سفكة ولصوص ومضت خمس سنين لم يحصل فيها عقد زواج ومضى النساء فى عزمهن وكان جوابهن لكل رجل يبث هيامه أو يشكو غرامه جوابا مجمعا عليه لا لم نعد بحاجة إلى الحمقى

وكان خطيبات البرلمانات يطلبن فى كل دور من أدوار الانعقاد نزع السلاح وفى السنة الخامسة لما رأي الرجال مناعة الحصن النسوى هب نواب برلمانات العالم وأيدوا النساء فى طلب نزع السلاح وتقرر فى أسبوع واحد نزع السلاح فى كل دول أوربا تقريبا وظفرت أوربا بالقضاء على المبادىء الفاسدة القديمة

ولم تحدث أى ثورة وتتابع الزواج فيما عدا الروسيا وانجلترا فظلتا بمعزل عن الحركة لان رأى نسائهما لم يكن إجماعيا ولكن أخيرا انضمت الدول لبعضها ولحقت بها الدولتان المذكورتان وانضمتا إلى فكرة نزع السلاح التدريجى في عشر سنوات وألغيت وزارات الحرب

وكان هذا فى منتصف القرن الرابع والعشرين ومن ثم تلاشت فكرة الوطنية الفكرة الضيقة الخاطئة وأخذت مكانها فكرة أخري أوسع وأسمى فكرة الإنسانية وحل الاتحاد الدولى الراقى محل التوحش الدولى المنحط

ولم يبق من النظم العسكرية إلا الموسيقى وقد احتفظت كل أمة بميلشيا للمحافظة على هذا النظام السار المتألق . وأعقب ذلك الخلاص تفشى الحرية فى الجنس البشرى وبدأ يتذوق لذة الحياة وآل ذلك فى النهاية إلى اطراد التقدم الاجتماعى والعلمى والفنى والصناعى

ولما كانت الضرائب التى استحدثت من القرن العشرين حتى على الهواء الذي يتنفسه الإنسان كادت تقرب من كسب الإنسان ولا يبقى منها شئ بعد القوت اليومى  وبسببها وقف دولاب العمل مرة واحدة لأن المعيشة أصبحت مستحيلة فكان هذا سببا فى الثورات ولكنها لم تكن بلسما شافيا بل الفضل كل الفضل للحركة النسوية وبفضلها حلت المزارع فى كل مكان ونزل سعر فائدة القروض إلى نصف فى المائة واختفى كبار حملة السندات المالية ولم يبق شئ اسمه حدود بين البلدان المختلفة وألغيت

الجمارك وأصبح لا ديون عمومية ولاجيوش ولا أساطيل ولا مكوس وأصبحت البيئة نظيفة وبات المجتمع بسيط التركيب

وفى القرن الخمسين ظهرت مخترعات عجيبة وأصبح كل شئ يدار بالكهرباء واستخرجت كل المواد الغدائية من الهواء وصارت الأزهار دائمة التفتح وابتدأ فى القرن الستين نماء المجموع العصبى ودقة حساسيته بدرجة لم تكن منتظرة وازدادت مادة المخ وقل نمو سائر الجسم واختفى العمالقة فنمت القوة الفكرية

وفى القرن المتمم للمائة صارت الأجناس كلها جنسا واحدا رقيقا أبيض البشرة وتقلص ظل الهمجية من على ظهر الأرض

وأعتقد أنا أن هذه هى الجنة والله أعلم العالمين

اشترك في نشرتنا البريدية