الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 241الرجوع إلى "الثقافة"

تطور الحادث الايطالى

Share

لم نعرف - نحن سكان هذا الوادي الأمين - قسوة الحرب وويلاتها إلا منذ دخلتها إيطاليا في شهر يونيو سنة ١٩٤٠ . ومن قبل ذلك كنا لا نكاد نحس من ويلات الحرب شيئاً : كانت بحارنا مفتوحة بعيدة عن الخطر ؛ وطرق الملاحة في البحر المتوسط لا تكاد الحركة أن تنقطع فيها ؛ والغارات الجوية شيئاً نسمع به ، ولا نعرف له معنى ؛ وكانت مدننا تضاء ليلا من غير حرج ؟ وعلاقاتنا التجارية في حال لا بأس بها بفضل اتصال موانئنا بفرنسا وأسبانيا وبلاد البلقان ، بل وإيطاليا نفسها .

ولم نكن نحن وحدنا الذين ننعم بالسلم ؛ بل كانت إيطاليا ذاتها في حالة من اليسر والرخاء والرفاهية ، لم يسبق لها من قبل ، ولن يتأتي لها - قبل زمن طويل - أن تنعم يمثلها . وكانت إيطاليا أقل الدول حاجة إلي الحرب ؛ بل

لعلها من أكثر دول العالم حاجة إلي عهد طويل من عهود السلم والعمل الهادئ المطمئن . فلقد نجحت في أن استولت على إمبراطورية ضخمة في شرق إفريقية ، وأصبح ملكها ملكا وإمبراطوراً في آن واحد ، وهي في حاجة إلى عمل دائب ، ومجهود غير موزع لاستغلال هذه الدولة العظيمة ذات الثروة الضخمة ، والموارد الموفورة .

وفوق ذلك قد استطاعت إيطاليا - بمزيج من الحقيقة والتهويش - أن تجعل العالم يحسب حسابًا لقوتها الحربية ، وأن يضعها بين دول العالم الكبرى ، وأن يتحامي جانبها ، ويتودد إليها . وكانت تلك القوة الحربية أمراً مستوراً لم تبسط عليه أشعة التجربة القاسية . وكانت تلك ائتمانية الملايين من الحراب البراقة التي طالما حدثنا عنها زعيم إيطاليا أمراً يثير الاهتمام ، وشيئاً غير قليل من الرهبة . وبفضل

هذه القوة المستورة التي لم تجرب في حومة الوغى ، كان في وسع إيطاليا أن تساوم ، وأن تجني منافع غير قليلة . دون أن تسل سيفاً أو تطلق قذيفة واحدة .

كان الخير كل الخير إذن لإيطاليا ولشعبها أن يظل بنجوة من الحرب ، وأن ينعم بالأرباح الطائلة من البيع والشراء والتجارة مع جميع المتحاربين . ولكن زعيم إيطاليا ، صاحب الكلمة العليا فيها ، الذي يوجه دفتها حيث أراد ، دون أن يعترض كلمته معترض ، قرر أن يقحم بلاده في هذه الحرب ، وأخذ يدنو منها شيئاً فشيئاً . فلم يرض لإيطاليا أن توصف بأنها علي الحياد ، بل سماها دولة غير محاربة  . ثم لما طال الأمد علي هذه الحال ، سماها دولة " قبل الحرب " إلي غير ذلك من الدعايات المسرحية التي انتهت بدخول إيطاليا الحرب إلي جانب ألمانيا في شهر يونيه سنة ١٩٤٠ . وبهذه الخطوة المحزنة زال الأمن عن إيطاليا نفسها ، وأصبح حوض البحر المتوسط يغشاه الخوف والخطر ؛ وأخذنا نحن سكان مصر نحس معني الحرب ، ونشهد القنابل التي وصفها رئيس حكومتنا بأنها طائشة - تتساقط علي الآمنين من أبناء الأمة المصرية فتزهق أرواح  بريئة ، وتتهدم منازل ، وتشتعل فيها النيران

كان زعيم إيطاليا ينادي قبل الحرب بشهور ، بأن مطامع إيطاليا تنحصر في ثلاثة أشياء وقد سماها ثلاثة أسماء : تونس ، والسويس ، وجيبوتي ، والحقيقة أن هذه لم تكن مطامع  إيطاليا ، ولا مطامع الشعب الإيطالي ، وإنما هي شهوات استعمارية اشتهاها الزعيم وعصابته ، وأراد أن يثيرها في نفوس أبناء الأمة الإيطالية . ولعله قد نجح في إثارة هذه الشهوات ، في نفوس طائفة من الشباب السهلة التأثر ، السريعة الانفعال . ولكنه لم يثر في هذه النفوس الشهوة إلي الموت في سبيل هذه الأغراض

الثلاثة ، وتحمل ضروب الويل والهوان في حرب تدوم عدة سنين .

إن الشعوب الخاضعة للنظام الاستبدادي قد تنعم بشيء كثير من التقدم والرفاهية والعزة ، في ظل زعيم قوي جبار ، يصل بها في مدة وجيزة جداً إلى مرتبة من الرقى المادي والأدبى ، قد لا تستطيع أن تبلغ بعضها تحت ظل الحكم الديمقراطي في مثل تلك المدة ، بيد أن هذا الرقي الظاهري تصحبه حالة نفسية وضيعة ، يصبح الشعب فيها كالقطيع الذي يساق دون أن يستطيع السير ، وإذا ترك لنفسه ضل الطريق ، وعجز عن المحافظة على كيانه .

وكل هذا التقدم والرقي رهين بإرادة ذلك الزعيم ، فإذا ارتكب هفوة واتخذ قراراً خاطئاً ، سار بقطيعه إلي الدمار وقد اتخذ زعيم إيطاليا قراراً واحداً أفسد به اعماله الضخمة في واحد وعشرين عاماً ، وجر الويلات علي الشعب الإيطالي الذي أراد أن يرفعه ويرقي به إلي أعلي المراتب ، فإذا هو يذيقه أمر الآلام ، ويعرضه لضروب الذل والحرمان .

وسيقول قائل : ولكن زعيم إيطاليا كان حسن النية فيما فعل ، وكان يريد للشعب الإيطالي الخير كل الخير فقد انتظر حتي انهزمت فرنسا ، وانتصر الجيش الألماني نصراً مبينا ، ولم يبق  دون الفوز التام واقتسام الغنائم غير أيام أو أسابيع ، فدخل الحرب وهو مؤمن بأنه سيربح الأرباح الطائلة من غير تضحية تستحق الذكر . وبعبارة أخري إن الزعيم الإيطالي كان يغامر ، ولم يكن يغامر بماله أو بثروته أو بعشيرته بل كان يغامر بحياة الشعب الإيطالي كله ، وبسعادته ورفاهيته . والزعماء الطغاة هم وحدهم القادرون على المغامرة بحياة الشعوب .

لم تلبث إيطاليا أن أخذت تحارب في ثلاثة ميادين في ليبيا ، وشرق إفريقيا ، وألبانيا . وكان نصيبها الهزيمة في هذه الميادين الثلاثة جميعا . ولكن الزعيم الألماني اضطر

لأن يجيء لنجدة أخيه الإيطالي ، فأنقذه في البلقان ؛ وعجز عن مساعدته في شرق إفريقية ؛ وانـهزما معا في ليبيا وتونس . ثم اشتركا في الهزيمة في جزيرة صقلية . .

ولكن الحرب في صقلية قد اتخذت شكلا جديدا ، وظهرت فيها علامات جديدة . فإن صقلية ميدان إيطالي ، وقطعة خطيرة جداً من الوطن الإيطالي .

وقد توهمنا أن الجيش الإيطالي سيدافع هنا دفاع المستميت ، ولا يسلم شبراً من أرض وطنه إلا بعد أن يرويه بدمه . ثم نظرنا ، فإذا القوات الإيطالية تتراجع بسرعة ،

وتبادر بالتسليم في أول فرصة . ولقد اكتسح الجيش الأمريكى النصف الغربي من الجزيرة في بضعة أيام ، وقد سلمت " بالرم " العاصمة دون أن تطلق قذيفة واحدة ، ولم يبذل الجند مجهوداً جديا يعوقون به تقدم الجيش الأمريكى السابع : لم تبث الألغام في طريقه ولم تنسف الجسور ، بل لقد كان الجيش الفاتح يقابل بالتحية والترحيب والهتاف ، كأنه جيش منقذ ، وليس جيشاً غازيا ، ثم لم تمض أيام حتى صار من الواضح أن الذي يدافع عن صقلية دفاعاً قويًا ، ليس الجيش الإيطالي بل الجيش الألماني ؛ فهو الذي يحمل عبء الدفاع عن الوطن الإيطالي نفسه ، كما كان يحمل عبء الدفاع عن ليبيا وبرقه وطرابلس وتونس . وقد يكون في وسع الجيش الألماني أن ينهض بهذا العبء ، حينا من الزمن ؛ ولكن هل في وسعه مع العبء الهائل الذي يحمله في روسيا أن يضيف إليه عملا مرهقا جديداً في الأرض الإيطالية ، وأن يظل حاملا لهذا العبء ، شهوراً طويلة ؟

في الحرب الماضية ساعد الحلفاء إيطاليا في الدفاع عن أرضها ، ولكن في ذلك الوقت كانت الحالة المعنوية للجيش الإيطالي سليمة من مظاهر الضعف والخور التي نشاهدها اليوم . ولو أن ألمانيا أرادت اليوم ان تنهض بعبء  الدفاع عن إيطاليا ، فإن هذا العبء قد يرهقها ويضعفها إلى درجة بعيدة .

في ظل هذه الاعتبارات اجتمع الزعميان الإيطالي والألماني منذ بضعة عشر يوما في مدينة قيرونا ، وتحدثا في الموقف الحربي في صقلية ، وما بعد صقلية ، ولا شك أن الزعيم الألماني قد عاد من هذا الاجتماع ، وهو واثق أنه إذا اتسع الميدان الإيطالي فإن عبء القتال فيه سيقع على الجيش الألماني وحده ؛ وليس هذا بالأمر الذي ترتاح له نفوس الجنود الألمان ، وأنه إذا كان هنالك وسيلة لاتقاء هذه الحال ، فإن التوسل بها أمر مرغوب فيه جدا .

وبعد عودة الزعيم الإيطالي من اجتماع قيرونا بأيام قلائل ، فوجئ العالم بنبأ عجيب ، وهو استقالة الزعيم الإيطالي ، وتولي ملك إيطاليا زعامة القوات الحربية كلها؛ وعين المرشال بادوليو رئيساً للحكومة ، وألغى النظام الفاشستي بجميع مظاهره ، وزالت من المنازل والغرف والحجرات تلك الصور العابسة المتجهمة للزعيم السابق . التي كان الإيطاليون يحلون بها مساكنهم ، ويزينون بها المصالح الحكومية . واتخذت الصحف والإذاعة نغمة معادية للنظام السابق ، وثارت في جميع أنحاء البلاد مظاهرات طويلة عريضة ، قد كتمت عنا أنباؤها ، فلا نعرف تماما هل كانت ابتهاجاً بزوال الحكم السابق ، أو فرحا بوهم توهموه بأن الحرب ستنتهي بانتهاء ذلك العهد ؛ أو أنها كانت مظاهرات صادرة من الجماعات الفاشستية نفسها ، احتجاجا على الانقلاب الجديد .

ولم يكن وسط هذه الأنباء المتناقضة سوي عبارة واحدة واضحة المعني ، وهي قول الحاكم الجديد بأن " الحرب مستمرة " . ولكن حتى هذه العبارة لم يكن أحد يصدق أنها يراد بها أن الحكومة الجديدة تريد أن تتابع الحرب التي شنتها الحكومة السابقة ؛ وإن أقصى ما يمكن أن يقال في تفسير تلك الكلمة أنها يراد بها أن حالة الحرب مستمرة إلي أن يتاح لإيطاليا أن تخرج منها بالشروط التي تريدها ، والتي تريدها حليفتها في المحور .

وفي وسط الضجة الهائلة التي ثارت حول استقالة موسولينى ، والدخان الكثيف الذي عقد علي الجزيرة الإيطالية ، أخذ يبدو في شئ من الوضوح أن إيطاليا لا تريد أو لا تستطيع أن تقلب سياستها ، فتتحول عن ألمانيا وتميل نحو الدول المتحدة ؛ ولعل زمام أمرها ليس كله في يدها حتى تستطيع أن تقبل السلم من غير قيد ولا شرط . ووجود هذا الجيش الألماني الكبير في الأرض الإيطالية ، بقطع النظر عن رجال البوليس السري الألماني والموظفين الكثيرين المتغلغلين في الإدارة الإيطالية ، لن يترك للإيطاليين الخيار في أن يسلكوا الخطة التي يريدونها .

من أجل هذا كله نري الحكومة الإيطالية اليوم تمنى نفسها بأمنية عجيبة ، وهي أن تتحول مرة واحدة من دولة محاربة إلي دولة محايدة ، فتجلو عن أرضها القوات الألمانية ، ولا تدخلها الدول المتحدة ، فتتمتع بالسلم والأمن ، وتستبقي صداقة ألمانيا ، وتسترد صلاتها بالعالم عامة ، وبالدول المتحدة بوجه خاص . وهي تريد هذه المزايا كلها في مقابل ذلك الثمن الذي دفعته وهو زوال الحكم الفاشستي.

ولا شك في أن هذا الحل يرضي ألمانيا كل الرضي ، فإنه يضمن ألا تصبح الأراضي الإيطالية ميدانا جديدا , وألا تتخذ قاعدة لغزو البلقان وفرنسا ، فتضطر الدول المتحدة إلى فتح ميدان جديد في غرب أوربا على ما فى هذا من خطر جديد تتعرض له قواتـهم . وهذا الحل يريح الجيش الألماني من عبء كبير ، وهو عبء ، الدفاع عن إيطاليا ، ويمكنه من تحويل القوات الموجودة في إيطاليا إلي الميدان الشرقي ، حيث الحاجة شديدة إلي مدد .

هذه هي الخطة التي يبدو أن حكومة إيطاليا أرادت أن تسلكها في الخروج من هذه الحرب . ولعلها هي الخطة التي دبرها الزعيمان في قيرونا . فإذا صح هذا ، يكون من العجيب

حقا أن قد خطر لهذين الرجلين ولعقلهما الجبار ، أن الحلفاء سيقبلون مثل هذا الحل ، بعد أن توطدت أقدامهم في صقلية ، وبعد أن أصبح في وسعهم أن يثبوا منها إلى أرض إيطاليا .

وما الذي يكسبه الحلفاء من مثل هذه الخطة ؟ إن زوال الحكم الفاشستي ليس بالمكسب العظيم إذا جاء بعده حكم يقتفي أثره وينهج نهجه . وإذا قيل إن هذا يوفر على الحلفاء في مجهودهم الحربي بإخراج الجيش الإيطالي من صفوف المحاربين ، فإن من البديهي أن هذا مكسب ضئيل ، لأن الجيش الإيطالي بعد صقلية ، وبعد هذا الانقلاب في الحكم الذي توهم الشعب أنه سينهي الحرب ، أصبح قوة قليلة الخطر ، بل لعله من المفيد النافع أن يظل هذا الجيش المسلوب الروح المعنوية يحتل حيزا ، ولو صغيرا ، في الميدان الإيطالي .

يبدو مما تقدم أن مطالبة إيطاليا بسلم مبني على الحياد ضرب من العبث ؛ وليس أمام الحكومة الإيطالية سوى أن تسلك إحدي الطرق الآتية :

١ - أن تسلم للحلفاء من غير قيد ولا شرط . ٢ - أن تستمر في الحرب إلي جانب ألمانيا . ٣ - أن تسترد جيوشها من الميادين وتترك لألمانيا

مواصلة الحرب في أرضها . فإذا أرادت إيطاليا أن تسلك الخطة الأولى ، وجب عليها أن تستعد لمعارضة شديدة من ألمانيا ، التي قد تضطر إلي نزع سلاح الجيش الإيطالي أو جزء منه ، واحتلال إيطاليا أو جزء منها احتلالاً عسكريا .

إن الاختيار الذي تختاره حكومة إيطاليا اليوم ليس أمراً هيناً . ولكن ليس من المعقول بعد الذي تورطت فيه في الأعوام الثلاثة الماضية أن تنال السلم سهلًا سائغاً .

اشترك في نشرتنا البريدية