الرجوع إلى البحثالذهاب لعدد هذه المقالة العدد 44الرجوع إلى "الرسالة"

تطور الفلسفة

Share

الإنسان المدرك رأس هذه الخليقة التى  تدرجت نحو استكمال  نموها حتى تمخضت عنه. ومتى أدرك ما حوله أعمل فكره فى تعليل  ما يرى ورجع إلى نفسه يبحث انفعالاتها وآثار ارادتها، فهو إذن  فيلسوف بطبيعته، ومدفوع للتفكير بحكم جوده وعمل حواسه وعقله  وإذا عنى الباحثون بدراسة الحفريات لنوع وأحد من الكائنات  ليصلوا إلى مقدار تطور حياته فما أولى طلاب العلم أن يصلوا بين  حلقات تفكير الإنسان منذ سكناه الكهف وصيده الوحش  لاستخدامه الكهرباء واكتشافه مغناطيسية الحياة

الطبيعة والإنسان متلازمان، وبينهما أوثق الروابط. . هى معلمته التى  تلقى عنها أول دروسه، وهى موضع بحثه منذ اللحظة  الأولى لوجوده، يكافحها مرة فتتسع دائرة مجهوده وتفكيره، ويستخدمها  مرة فيبنى صرح تقدمه وعظمته. ولكنها ضنينة باسرارها، وهذا  ما يبعثه على اعمال الفكر فى تعليل مظاهرها وتكليف نفسه مشقة  البحث عن أصل وجودها وعلة أستمرارها

أبصر من مظاهر الطبيعة ما لم يساعده عقله (الطفل) على  فهمها، وعجز عن التعرف على أسبابها، فأحال صدورها إلى قوى  لا يدركها تماما، وما دامت لا تخضع لإرادته فهى أقوى منه وأشد

بطشا، ولذا اعتقد بالارواح الساكنة فى  الغابات، وقدم للآلهة  المتعددة القرابين ليبعد بها عن نفسه غضبها، واعتقد بتجسد هذه  الأرواح فى بعض الكائنات الحية. وكان اليونانى يعتقد باله الحب  والقوة والجمال والماء والأرض، ولا يزال الهندوس يقدسون البقر،  وبعض أهالى فارس يوقدون النار ليطردوا إله الظلام ويساعدوا  إله النور. وعليه فالعقيدة هى محور الفلسفة الأولى الذى  دارت حوله،  وطبيعى أن يلجأ الأنسان وهو منزعج الحواس بما يكتنفه من هزيم  الرعد ووميض البرق وانبثاق الحمم المستعرة إلى الاعتقاد بوجوب  التقرب والخضوع للقوة التى تصدر عنها. . أنه بذلك يدرأ عن نفسه  غضبها، وتهدأ وساوس نفسه وشكوكه

ولكن لم يقف تفكير الأنسان عند هذا الحد الذى  تسلط فيه  عليه الوهم، بل جعل يفكر فى  منشأ هذا الكون. . . والعالم فى  نظره  الأرض التى  تعيش على سطحها، والشمس التى  تمده بنورها، والقمر  والكواكب التى تلتمع كلما جن الليل، فقال بوجود العناصر الأربعة  ((التراب. والماء. والهواء. والنار.)) ثم تدرج إلى القول بوجود  عنصر وأحد هو الماء، ثم عدل عنه إلى الهواء لأنه أبسطها وأسرعها  انتشارا. ولعل هذه هو اساس الاعتقاد بالسديم الذى  لا يخرج عن  كونه غازا ملتهبا متحركا حول مركز جذبه. . . واليوم يؤمن الانسان  بوجود الأثير، ولم يصل بعد إلى تعرف طبيعته ويضطر لافتراض  وجوده ليعلل حدوث الاهتزازات والتموجات التى تنشأ عنها القوى  المحركة والمرتبة للجزيئات الترتيب الذى  يجعلنا نرى المادة فى أوضاع  وأشكال مختلفة

واخيرا قام مذهب المعتقدين بوجود وحدات كهربائية  (الكترونات) تتحرك بواسطة التجاذب الذرى، وأن الكهربائية نفسها مؤلفة من ذرات. وقد قاد الانسان إلى بحث سر الطبيعة ما أودع فى  نفسه من كلف بكشف كل ما يغمض عليه فهمه أو تعليله.. وقد أداه هذا الشغف الى التفكير فى أمر نفسه لا من  حيث الاحتفاظ بوجوده وسد حاجاته الضرورية، ولكن من  ناحية فلسفية أدق ووجهة اكثر تعقيدا. .

يشعر الانسان بوجوده بطريق يقينى، وهذا اصل معرفته، ولكنه لم يدرك كيف تقوم معرفته لما يحيط به، وكيف يفكر؟ وما هى  القوة الباطنة التى تؤثر فيه وتوجهه الى حيث تريد؟ . .

الى هنا طويت صحيفة الفلسفة الطبيعية التى أضاع وقته فى خلق

فروضها طاليس وانكسمندر وانكسمينس. . وبدأ طور جديد تدور أبحاثه على الإنسان نفسه، ويعتبر الواضع للأساس الجديد سقراط زعيم فلاسفة اليونان وتلميذه افلاطون. . ولكنهما لم  يتعرضا لتحليل العقل الإنساني باعتباره القوة المدركة، ولم يذكرا لنا شيئا عن ماهية النفس الإنسانية وقصرا بحثهما على اعمال الإنسان ووجوب مطابقتها لما هو حق وعدل وخير. . صحيح أن افلاطون  كان يقول بقدم المادة، ولكنه كان يعلل عملية الأدراك بوجود  صورة سابقة فى النفس للكائنات الموجودة، فهو القائل بوجود عالم العقل وعالم الحس.

والحقيقة أن دراسة الفلسفة الإنسانية من الناحية التى  عنى بها  المعلمون الثلاثة ((سقراط وافلاطون وأرسطو)) تنطبق على مباحث  علم الأخلاق أكثر من مباحث الفلسفة نفسها، ولهذا كان غرض أقطاب الفلسفة الحديثة إتمام النقص الذى  ظل موجودا بعد الفلسفة اليونانية.

ومباحث الفلسفة الحديثة تتمم الفلسفة الإنسانية من حيث تحليل الحركة الفكرية، وعلاقة الجسم بالعقل، وقدرة العقل على فهم  الحقائق، وحركة الفكر الذاتية ((التأمل)) ثم بحث النفس الإنسانية  وهل لها وجود مستقل أو هى نتيجة لاتحاد القوى المدركة بالقوى المفكرة فى الإنسان؟

ولما كانت هذه المباحث من المعضلات العويصة الحل اتخذ  كل فريق من الفلاسفة لحلها طريقاً خاصاً، ففريق اعتمد على العقل وحده فانهدم صرح العقائد الموروثة، وعاد العقل يزنها بمقياس الاستقلال الفكري مستعينا بقوانين المنطق، ولكن التوى على جماعة  العقليين قصدهم لان العقل بدأ يبحث نفسه، وتطرق الشك إلى  كيفية حدوث الادراك، وإذ ذاك لم يجد الباحثون بدا من الالتجاء إلى الحواس والاعتراف بأنها طريق الادراك، وهذا اساس المذهب ((التجريبي))، ومع ذلك قام من يثبت أن الحواس تقوم  بعمل ميكانيكي، وان المخ فى دائرة عمله فى الحكم على ما تحمله إليه الحواس قاصر، وان هناك بجانبه وجدانا له انفعالات خاصة  لا دخل للحواس ولا للعمل الفكري فى أحداثها. ولذا قسموا  العقل فقالوا بالعقل المدرك والعقل الملهم أو الخالص.

ويطول البحث إذا اتينا على حجج كل فريق، ولكن ما لا  شك فيه ان للنفس البشرية وجودا مستقلا وارادة خاصة غير ما

تبعثه فيها البواعث الخارجية ويصل إليها من طريق الحواس

والذي يهمنا ان الفلسفة تحولت من أعمال الإنسان إلى أفكاره  ومن تفكيره إلى ماهية نفسه. وهذا آخر مدى وصلت إليه الفلسفة الإنسانية.

واليوم تقوم فلسفة اخرى تبحث النوعين الرئيسين ((الفلسفة  الطبيعية والإنسانية)) لا على انهما منفصلان، ولكن على أساس ايجاد الروابط التى تربط الإنسان بالطبيعة، ونتيجة هذا البحث الوصول إلى الغرض الاسمى الذى لم يستطع الإنسان منذ وجوده ان يظفر به لقصر تفكيره ونقص استعداده. وإن اليقين بوجود  الله من طريق العقل قد حل مشكلات الفلسفة قديما وحديثا. .

لقد أدرك الإنسان أن ما يراه من مظاهر الطبيعة لم يسخر له اعتباطا، وان القوانين الطبيعية التى لم يتطرق إليها الخلل لم توجد اتفاقا، وأن صلة الإنسان بالطبيعة ضرورية، وأن عظمة الخالق كما تظهر فى سر الكهرباء والجذب تظهر فى سر النفس وخلود الروح، وكما عجزنا عن تعرف ماهية القوة المسببة للحركة العامة للمادة. فما أحرانا أن نكتفي من بحث الروح باليقين بوجودها.

إن نوعا من الفلسفة لا يزال غير مطروق مع عظيم فائدته . . على الفلاسفة اليوم أن يتركوا بحث الإنسان فردا فقد قام الإنسان بنصيبه من التفكير فى أمر نفسه. ولكن عليهم أن يضعوا لنا فلسفة أجدى، وأن يصرفوا جهودهم لبحث القوانين العامة التى  يجب أن تربط المجتمع الإنساني. . إن فلسفة المجتمع هى الغاية التى  يجب أن ننشدها لتتم سنة الارتقاء وهي الناموس الذى يحكم الطبيعة  والإنسان.

اشترك في نشرتنا البريدية